صفحة الكاتب : علي علي

كل إناء...
علي علي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

    من بطون الكتب وفي صفحات التاريخ العربي ولاسيما العراقي، هناك شاعر عباسي اسمه سعد بن محمد الصيفي التميمي، لصق به الناس آنذاك اسم الـ (حَيْص بَيْص)، ذلك انه خرج يوما الى السوق فرأى الناس في هرج ومرج وجَلبة وشدة فقال: مالي أرى الناس في حَيْص بَيْص؟!.

 فثبت ذلك الاسم عليه. وما قاله كان في زمن تتكون الحكومة فيه من الخليفة وحجّابه والوزراء والقضاة والمستشارين وقادة العسس (الشَرطة). وكانت جل مشاكلهم من تدخلات دول الجوار، اما المشاكل الداخلية فكما روى لنا التاريخ كانت تـُحل بجلسات بين شخصيات ذات مكانة اجتماعية مرموقة مع كبار الدولة، وكان البلد -مع ماتعتريه من مشاكل- سائرا في ركب التطور وان كان بطيئا.

  اليوم وقد دخلت التكنولوجيا والعلم جميع مفاصل الحياة بما يسهِّل ويعجِّل تقدم البلدان التي يضع حكامها مصالح شعوبهم من أولويات جداول أعمالهم، ماذا يحدث في بلد هو مهد الحضارات؟ البلد الذي شـُرّعت فيه أول القوانين، وكـُتِب فيه أول حرف، وغير ذلك من الاختراعات التي كان سبّاقا بها.. ماذا لو قارن أي مُنظـِّر بين مايملكه العراق من رصيد تاريخي في العلوم والمعارف، وبين ما هو عليه اليوم نسبة مع باقي الامم. وهو الذي يقول فيه الشاعر:

لا ينزل المجد إلا في منازلنا       

         كالنوم ليس له مأوى سوى المقل

 أظن أن عملية حسابية بسيطة للغاية في النسبة والتناسب، توضح مكانة العراق في التقدم التكنولوجي والعلمي والثقافي بين أمم وُلِدت بعده بقرون. وبات من المألوف جدا أن نستعين بمن تلونا في الحضارة من بلدان الشرق والغرب، كما لم يعد مستغربا إرسال أبنائنا الى دول حديثة عهد بالعلم والمعرفة، لينالوا شهادة جامعية أولية مثل البكلوريوس والدبلوم، وكذلك الدراسات العليا في التخصصات كافة العلمية منها والإنسانية. ولم يعد غريبا أيضا أن يستطبب مرضى العراق في مشافي دول صار لها باع طويل في مجال الطب.. هذا المجال الذي سبقتنا فيه دول كان أبناؤها يُبتعثون الى العراق لإكمال دراستهم في كلية الطب، ومن عاصر منا عقد السبعينيات والثمانينيات يذكر جيدا كيف كانت الأقسام الداخلية تكتظ بالطلبة العرب والأجانب الذين تسلحوا بما قدمته لهم جامعتا بغداد والمستنصرية. واليوم أخذوا دور المعالج الذي يعالج مرضانا في بلدانهم، كالهند على سبيل المثال لا الحصر. وتلك نتيجة حتمية، فمع أن أجدادنا ملأوا المكتبات بأبحاثهم واكتشافاتهم واختراعاتهم في العلوم كافة، إلا أن ما فعلته الحكومات المتتالية هو الحفاظ على هذا الكنز كإرث مادي، وضمه كملكية خاصة مع التيجان والأموال والقصور والضيعات الى أملاك الملوك والرؤساء والحكام. ليكون رصيدا لهم ولعوائلهم وأحفادهم وليس لأبناء هذا البلد. وقد تناسل أولئك الحكام وصار أحفادهم من ساسة العراق وقادته وحكامه اليوم، ينتهجون النهج ذاته والسياسة ذاتها في إقصاء العلم والتعليم وركنه في مكان قصي، بعيدا عن مواكبة باقي دول المعمورة.

  وبعودة الى شاعرنا الحَيْص بَيْص، أقول: ماذا لو بُعِث اليوم من جديد الى الساحة العراقية؟ ورأى الفوضى التي يعتاش عليها كثيرون من مسؤولي البلد في مؤسساته التربوية والتعليمية والتدريسية، ماذا يقول إن رأى هرج ومرج الآراء والقرارات والتضارب فيما بين أصحابها والباتين بإصداراتها، وسط الجدالات والصراعات والخلافات والاختلافات والمناكفات والمماطلات في كل صغيرة وكبيرة؟ وإذا أراد تشبيه قادة عراق اليوم مع قادة حضارة وادي الرافدين قبل قرون، فهل يقول -كما قيل سابقا: "كل إناء بالذي فيه ينضح"؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي علي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/08/17



كتابة تعليق لموضوع : كل إناء...
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net