العراق 2 – وباء ثقافة التسقيط
بهاء الدين الخاقاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بهاء الدين الخاقاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ومن التجارب المثيرة، اُدخلَ كلبٌ في متحفٍ مليء بالمرايا بجوانبه المتعددة، من جدران وسقف وابواب وأرضية. وبمجرّد أن رأى الكلب انعكاساته، أصيب بصدمة، حيث رأى أمامه فجأة قطيعًا كاملاً من الكلاب التي تحيط به من كلّ مكان. كشّر الكلب عن أنيابه وبدأ بالنباح، فردّت عليه الكلاب الأخرى، فنبح ونبح، وراح يقفز جيئة وذهابًا محاولاً إخافة الكلاب المحيطة به، فقفزت هي الأخرى مقلّدة إيّاه. وهكذا استمرّ الكلب المسكين في محاولة إخافة الكلاب وإبعادها دون جدوى. وسرعان ما سقط الكلب ميتاً، مُحاطًا بما لانهاية من الانعكاسات الميتة التي توهمها هو بنفسه، فلم يكن هنالك أحد لإيذائه، كما توهم فقد قتل نفسه بنفسه بسبب العراك مع انعكاساته.
ليلفت نظرنا هذا المثل القراني المعبر:
((فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ))(176 الأعراف )
فهناك من يحلم بكابوس وينهض ليكتب .. مشكلة اغلب الكتاب والمحللين في التسقيط، من أن بثقافتهم هذه يعتمدون الطرح دون مصدر أو معلومة أو تتصف بفبركة عناوين، قال فلان وعلان دون أسم، أو أيراد مصدر في كذا، دون رابط للمراجعة، واذا وجد الرابط، تذهب له فتجده اِمّا مقفلا أو موضوعا آخرا، فمثل هذا السلوك الأعلامي يمرّ على أغلبية الناس، رغم انّه لا يمرّر على الباحث والمختص .
ثقافة التسقيط اِمّا يقصد منها التغطية على العجز بابداء فكرة لبناء البلاد أو مقترح لنهضة الشعب أو رؤية اصلاح، بتسقيط الآخرين، واِنْ كانوا أبناء جلدته .أو يريد أهل ثقافة التسقيط أنْ يحجبوا فشل أو عجز من ينتمون اِليهم، وما أحدثوه من فشل وفساد وتخلف، وأخطر ما يمكن أنْ يُقال أنّ أصحاب هذه الثقافة، فضلا عن اِمكانية اِنّهم من نوع الخونه لأنفسهم قبل غيرهم، لأنّهم قبل كلّ شيء لا يحترمون كرامتهم بالذات، فكيف بكرامة الانسان أيّاً كان، وأنْ لا يبخسون حقّ الناس أيّا كانوا وحقوقهم، وأيّ بلد كان وأيّ شعب وأمّة، فكيف بابناء بلدهم ووطنهم، وعندما يرون بلدا غير بلدهم ناهضا ومنتجا ومتطورا ينسبون له الاف التهم بالمؤامرات، ويوردون أسباب تنميته ونهضته لأمور هوليودية خاضعة لثقافة نظرية المؤامرة، ويوحون بأنّ كل نهضة لأيّ بلد هي مؤامرة علينا، ولا يحق لنا أن نكون مثلها. فكم ضاعت مقدرة هؤلاء بالتحليل، اِنْ كانوا أصحاب قلم ورؤية، في الأدعاء بمعلومات هم يختلقونها أو لقّنوا بها من قبل جهات ما، فيخسرون موهبتهم واِبداعهم مع الأسف باتجاه الفراغ والضياع والتجهيل والتخريب عموما والانتكاس الذاتي خصوصا، لنخسر نحن أيضا كفاءات بسبب توجههم الرخيص، الى جانب ما نخسره من مبدعين لأسباب مختلفة منها تسقيطهم أو تهميشهم أو ألغاء دور أبداعهم لنهضة البلاد وتنمية الشعب.
فضلا عن كون هذه الثقافة اِذا تجسدت كنهج للشخص وكتاباته، فانها تعكس مرضا نفسيا، واحتمالية لها توريث تربويّ أسريّ سابق له عائليا لا اخلاقيا، نشأ عليه المرء، حسب تشخيص الأطباء النفسانيين وتحليل علماء النفس، فيكون مثل هذا المرء سهل الأصطياد من جهات ما، أو يكون هو نفسه مندفعا برغبات بهذا الأسلوب، ظنّا منه بالتفوق الذاتي.
وهنا لا نخوض بما له علاقة بالشريعة والكذب والغيبة والبهتان والحرام والحلال، ومنهجية الشيطان، فانّ هذا الموضوع اُشبع من قبل المختصين وله من يكتب فيه، ولا أعتقد ايضا يأبه أمثال هؤلاء لمثل هذا الحديث الشريف وقول رسول الله (ص):
(يعذب اللسان بعذابٍ، لا يعذب به شيئاً من الجوارح؛ فيقول: اي ربّ عذّبتني بعذابٍ لم تعذّب به شيئاً من الجوارح، فيقال له: خرجت منك كلمة، فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك منها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام، ...وعزوتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من الجوارح)( لنور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص582.).
وقبل كل شيء، فان الجانب الشرعي ومبدأ مكارم الاخلاق ورسالة السماء هنا، لا يهم هؤلاء ولا يعترفون بها، ونقصد كنيّةٍ بداخلهم وكتوجه مصلحي مبطن، واِنِ ادّعو خلاف ذلك ظاهرا .
كما انّه حتى مبدأ وزير الدعاية الهتلرية جوزيف كوبلز: أكذب أكذب حتى يصدقك الناس، اخذوه ببعده التجهيلي للشعوب ولأنفسهم أيضاً دون فهم، وليس التأطير الهتلري في تحفيز الشعب باتجاه عنصري واحد، مثل أيّ نظام دكتاتوري حاكم باتجاه واحد، أي أنه يقول لك أنا هو الصواب وأنت مخطئ، ومجبر لأطاعتي فأنا الحاكم المطلق والولي المقدس، ولا يقول لك أنك كذاب او يسقطك، وبالنتيجة امّا يسجنك أو يعدمك، أيّا كانتْ منهجيّتُه الفكرية الحاكمة، وبالتالي أخذ مبدأ الهتلرية خلاف هذا المفهوم هو التسقيط بعينه وقتل المواهب والبلاد، ليكون نوعا من الجهل المضاعف لدى أمثال هؤلاء الكتاب والاعلاميين والمحللين.
غياب دراسة القضايا وتحليل السلوكيات وفهم النفسيات وأدراك الأجتماعيات، يفقد المرء استيعاب، أنّه أمام شرائح مختلفة وطبقات متنوعة ووجود رؤى مرّت بحروب ونكبات وأحداث مأساوية، فضلا عن المعانات الذاتية في عالم يتغير بشكل متسارع، بافاقه التقنية والعلمية، وواقعيات تجريبية تنموية كاسحة، وأنّ الفرد لوحده ينفرد بزاويته وخصوصيته يبحث عن ذاته فكيف بشعب أو بلد عموما في هذا العالم الواسع، وما فيه من اضاءات عاكسة أجتماعية وبيئية محيطة به وبنا، ومؤثرة على السلوكيات والمشاعر وحتى المواقف واتخاذ القرارات، في دوامة صراع وجدل بين الصواب والخطأ، والوعي والأدراك من عدمه، ولا يوازن ذلك الّا الحوار والتفاهم والعلم والمعلومة الصادقة، وليس التسقيط والتجهيل، لأنّ ذلك كالمثل السابق للكلب، سلوك يقتل صاحبه أو نار ستنشب بمن أوقدها، حيث ينعدم التأثر بالأنسانية ليكون أكثر عمقا للغريزة والحيوانية المتوحشة وموت الضمير وانعدام الأخلاق وتجسيد الأنانية، وتكون في صورة سلوكيات نفشل بتفسيرها وعلاجها في زمن محدد، حتى ولو عرفنا أسبابها ودوافعها .. وبالنتيجة فهو العراق حافظوا عليه، وقلت عنه في قصيدتي (عراقي):
عراقيْ موجة في الأرضِ تسعى .. بألوان السماءِ لها جمالُ
وينسجُ أفقَه للكون وحيٌ .. رعى أطيافَه عزاً جلالُ
هو الدنيا اِذا التاريخُ غنّى ..هو الأحرارُ اِنْ نهضَ الرجالُ
وراية لؤلؤ غُرِستْ لغيبٍ.. بلفظِ جلالةٍ قامَ الكمالُ
يوشّحُها احمرارٌ واخضرارٌ .. بأبيضِها وأسودِها دلالُ
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat