صفحة الكاتب : طالب عباس الظاهر

نظرات في القصة القصيرة(10)
طالب عباس الظاهر
القصة القصيرة وليدة تلاقحات نفسية وشعورية عميقة الأثر في الذات الشاعرة للقاص، يتداولها عقله الباطن، يضيف إليها أو يحذف منها، حتى توجدها معطيات متناقضة في إعادة الهيكلة لكيان مستقل، هو خليط من تداعيات مواريثه الاجتماعية، وذكريات خلفيته الثقافية، وأشياء أخرى لا يمكن الإحاطة بكنهها، فتحيا القصة تحت مستوى الإدراك الواعي في ذات المبدع، بل وقد تسبت طويلاً بين ثنيات الوعي الداخلي للعقل الباطن، إلا إنها تظل تنمو هناك بتوئدة وهدوء، حسب جدية الاشتغال في منطقتها الشعورية الحارة..أي بإدامة زخم الانفعالات العاطفة المجاورة لماهية التجربة، وربما تحولها نحو الذهنية الباردة أحياناً، وفي أحيان أخرى قتلها بكيف وأين ومتى و..و..! وفي غيرها من الاستفهامات الصارمة التي تؤدي إلى وئدها في الرحم الإبداعي قبل تشكلها الفني في لا وعي القاص. 
فإن الأفكار المجردة موجودة في كل أجناس الأدب، والقصة منها على وجه الخصوص، وإن يكن نصيبها من القوة والضعف، أو الغموض والوضوح متفاوتاً من نص لنص، ومن قاص إلى آخر.. بيد إنها في متناول الجميع على حد سواء، وبمسافات متماثلة ربما، لكن الفن كل الفن يكمن في القدرة على شحنها بطاقات العاطفة، ونبض الشعور، ودفق الإحساس، لتتعايش مع ما يكنه الآخرون في أعماقهم عبر خزين وعيهم الجمعي، فيعيشوا معها من جديد مرة تلو أخرى،كما استلهمها المبدع ذاته أول مرة، فتطرح مشاريعها الفكرية التجديدية بسهولة ويسر، وبأقصر الطرق وأنجحها، سالكة سبيلاً غير مباشر، بدغدغتها للفطرة السليمة النائمة تحت ركام الأوهام، وصولا نحو كسر دفاعاتها النفسية، وتهيئتها من أجل تلقي ما لم تكن لتستجيب له لو جاء بشكل جاف.. بعيداً عن أثارتها واستدراجها الهادئ نحو محاولة الفك لبعض الأسرار عبر الرمزية المفتوحة، والإيحاء والإيماء والإشارة، على العكس من محاولة الفرض للتصورات الجاهزة .. الخالية من دفق العاطفة، ووهج اللغة الأدبية المنمقة وسحرها، هذه اللغة التي ترفض عادة مثل تلك الأفكار المجردة ذات المنظور الوحيد كما في المطالب العلمية، لأنها سوف تقذف بها خارج مجالات الفن والأدب.
فإن من المهم جداً استمرار رفدها بالمستجدات من التجارب الشعورية للقاص المبدع ذاته، على أن لا ننسى بأن التجارب تلك – مهما تكن غنية- لا تقدم سوى المواد الخام، ولا تمدّ إلا بالتصورات الحسية الأولية لمضمون التجربة، وإنها تبقى غير ذات معنى، ولا فائدة؛ ما لم تصادف في ذهنية الآخر الشروط الطبيعية والسيكولوجية الخاصة للاستنتاج والتحليل، ومعارف ضرورية لا تخضع للتجربة، ليمارس تطبيقها على المواد الخام تلك؛ فينتهي بنتائج جديدة، وكلما تكررت عملية التمحيص بالقراءة والإستقراء، وتكامل رصيدها من الخبرات اللازمة عبر الممارسة الذهنية المستفيضة؛ كلما ازدادت فيها عوامل الخصب والثراء، وبالتالي الفائدة والاستمتاع معاً.
بيد إن صدق التجربة واختمارها جيداً في لاوعي القاص المبدع، ومحاولة قنص لحظة الولادة الفنية الملائمة، هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يعصمها من الانزلاق في الايهامات السردية العائمة، والتدعيات  المنفلتة، والتي وإن كانت شاعريتها عالية؛ إلا إنها لن تكون منضبطة تماماً كما ينبغي على أية حال.
وبلا أدنى شك فإن القصة الحقيقية لن تستجيب للإستدعاءات الواعية قبل موعد اكتمالها الفني، ونضجها المعنوي .. في مدة حضانتها الطبيعية، التي قد تستمر أحياناً لساعات فقط، وربما امتدت لعشرات من السنين في أحيان أخرى.. فكم من الومضات الحسّية تسبت في الأعماق اللاشعورية للقاص، حتى يحسب بأنها تكاد تندرس فيما يندرس من ركامات الذاكرة، إلا إنها فجأة تتهيكل في مادة إبداعية مستقلة بذاتها، أو تكون جزءاً من غيرها، ولعل من المستحيل إمكانية التحديد لموعد ولادة القصة – طبعاً بالقياسات الفنية العالية – بل هي وحدها من يختار  مثل ذلك المعاد، وبمحض إرادة ذلك الأعلى من الوعي ذاته الذي نوهنا عنه سابقاً، في إحدى حلقات نظراتنا هذه، وأقصد به التوهج الحسي والشعوري العارم في ذات القاص المبدع، أو ما يسمى بـ(لحظة الإبداع).
فحينما تخدش يد القدر الفولاذية أعماق سحيقة وشفافة في كينونة الإنسان المرهفة، وتستفز بقوة روحه الشاعرة بكيفية ما؛ تنزف تلك الذات أو الروح ما ناءت بحمله طويلاً في حشاشتها من رميم  الأحلام الموءودة، وبقايا أشلاء الأماني القتيلة، وقيح التطلعات الجريحة، لتقذف به إلى الخارج في توجعها الوجودي النبيل، لتنعم بالراحة من شدة وطأته عليها، وضغطه فيها،كأي عملية تفريغ أخرى.. قاذفة بها نحو مراسي الرؤى البعيدة، الموغلة في القدم والمجهول، عند لحظة مخاض عسير تحاصر كاتبها أينما كان ويكون، كي يفسح مسالك روحه لمرور موكبها القدسي الجليل نحو التجسد والتهيكل بكيان، لتبصر النور بعيون الشعور، ولمح البصيرة، وجمال الخلاص، فتحيا غمرة السعادة الأبدية للإنعتاق من العدم المهول التي رزحت فيه قبل الآن، يوم..شهر..سنة..حقبة..قرن، وكلما كانت مدة سجنها الكونية أطول؛ كلما كان الفرح أعم وأشمل.. فتحيا راقصة على الورق والكلمات، بعد أن ولدت وترعرعت في عالم الخيال والنغمات. 
taleb1900t@yahoo.com

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


طالب عباس الظاهر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/05/22



كتابة تعليق لموضوع : نظرات في القصة القصيرة(10)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net