صفحة الكاتب : رنا صباح خليل

تواتر التكرار وعلاقته بالمكان في رواية (إلى المزاح اقرب)
رنا صباح خليل

تبدو الكتابة الروائية عند الروائي طه حامد الشبيب في روايته (إلى المزاح اقرب) أشبه بعلامة تدلنا على المناطق اللصيقة بفكره الروائي وتوجهاته في التعاطي مع الواقع ومعالجته، بطريقة يخالف بها الثقافة الرسمية والشائعة في محيطنا الأدبي، متجاوزا الخطوط العامة للتفكير، منتصرا لإنشائية تتسع آفاقها للانفلات برحابة الدلالة عن اليومي واحكامه، متمردا على سرديات الصفاء اللغوي، ذلك إن الحكاية في رواياته تامة العناصر، وهي حكاية بسيطة غير معقدة وفيها موضوع روائي تنسج حوله حكاية كبرى تمثل طبقة سردية واحدة تنسجم على وفق قانونها الداخلي، ثم أن هذه الحكاية يحيل بعضها على بعض، وبذلك تتحول إلى ما هو أشبه بالحكايات المتداخلة والمتشعبة نظراً للتشابه القائم بين الوظائف السردية في حد ذاتها، والحبكة في رواياته تنشأ بتتابع الأفعال والأحداث التي تقوم على التوتر الداخلي لتنتج أفعالاً جديدة وتبرز شخصيات جديدة ايضا قد تؤثر في مجرى السرد، وكل حبكة عنده تبدأ من نقطة تكوين الحدث بوساطة افعال معينة لها قصدها الروائي لكي تصل في آخر المطاف إلى نقطة أخيرة لها استنتاجاتها المسبقة في المقروء من نسيج الروي عن طريق اعادة اليومي والقبيح والمرفوض والجميل والهامشي إلى الخطاب الأدبي بطريقة الشبيب الخاصة، أي التي يولي بها اهتماما كبيرا بمستوى اللغة المناسبة لشخوصه ولفكرة الروي وبيئتها، وبذلك فإن سؤال الذات الكاتبة في روايته هذه تشكل انعكاسا صريحا لمجموعة من الابعاد الاجتماعية والايديولوجية التي يؤمن بوجودها وكيفية تشكلها، وهذا يقودنا إلى أن الذوات التي يتم بناؤها من خلال التفاعل مع احداث الرواية هي ذاوتا مشيدة في محطات الروي المختلفة على غرار الدلالة .

وقد لجأ الروائي إلى طريقته المائزة تلك من اجل أن يشرع ابواب الخطاب الروائي لكي يقتحمه الشعب وهو بطله الأمثل في جلّ رواياته وبمختلف فئاته وبطله هذا يقدمه لنا وهو يعيش إشكاليته الاجتماعية الكبرى ولا يجد التصالح النهائي معها بفك شيفراتها أو ايجاد الحلول الناجعة ازاء صراعه الدائم معها، والكشف عن تداعيات ذلك الصراع وكيفية تكونه وتشكله ومآلات مصيره تعد من أهم غايات الأشتغال لديه ولهذه الأسباب نستطيع القول إن السرد عند الشبيب لديه قدرة اكبر على استيعاب الأصوات واللهجات الاجتماعية بما يفسح المجال لخطاب روائي يحمل في طياته السخرية واللامعقولية والتكهن السوداوي المستوحى من التجمعات العامة والرفقة الدائمة للبسطاء والمقاهي والساحات الشعبية وغيرها من اماكن الاحتفال بصوت الهامش ولغته المنهمكة في الثرثرة والهذيان والتندر والتألم من الواقع .

استثمار الوحدات السردية في الرواية

ـ نضوب المياه من بلاد الأنهر اللا عدّ لها .

ـ غياب الدور الفاعل للدولة وتحكم الأحزاب في حل الأزمات .

ـ هوة الضعف البائنة للشعب بعد تنازله عن حقوقه وسيطرة العشائرية على الأذهان بما يثير فتنة الاقتتال فيما بينها .

تسجل هذه الوحدات السردية الخلفية المركزية للفعل الروائي، وتفتتح هذه الوحدات بصيغة المسرود التي تحافظ بحكم طريقة ادائها الاخباري على تسلسل الاحداث، بسبب المسافة التي تضع الراوي بالموقع الأقصى بعدا عن الحدث .

ولندخل إلى عالم هذه الوحدة وهي تسجل خبر نضوب المياه في بلاد الأنهر اللا عدّ لها :

"آخر قطرة ماء تجتاز الحدود إلى داخل البلد تلك هي تلصف تحت شمس الظهيرة ثم يخبو لصيفها وتتلاشى. النهر الذي جاء بها قد جفّ تماما، ولم يتبقّ فيه غير تلك القطرة. والآن حتى تلك القطرة تلاشت مندغمة بطين قاع النهر. إنه نهر من أنهر لا عدّ لها تشق طريقها في ارض البلد منحدرة من شماله إلى جنوبه. جميعها جفت، ولم تلبث قيعانها أن يبست وتشققت، ثم استحالت مرتعا لمرح الأطفال . الأنهر اللا عدّ لها، على امتدادها، تضج الآن بصخب لهو الأطفال ... لقد تصبروا طويلا حتى حانت لحظة الهبوط هذه. فهم واهلوهم منتشرون منذ اشهر على ضفاف الأنهر يرقبون تضاحلها. في بادئ الأمر كانوا متناثرين على الضفاف، الا ان انتشارهم ذاك سرعان ما غدا ازدحاما. زحمة زحمة خانقة .. رجال، نساء، شيوخ واطفال يتدافعون بالمناكب ينشدون بلوغ حواف الأنهر المتضاحلة. فمن لا يبلغ منهم حافة النهر لن يرى ما يجري؛ وما يجري مشهد لم يروه من قبل، ولا رآه آباؤهم ولا آباء آباء آبائهم .. لا بل ولا سمعوا به حتى" (1) .

إن هذه الصيغة السردية وهي تنقل خبر ضحالة الأنهر ترسم لنا صورة ذلك البلد (ذي الأنهر اللا عدّ لها) وهذه العبارة هي الدالة السردية التي يتم تكرارها على مدار الروي وهي المرتكز الأساسي للاشتغال ولا غرو إن قلنا بداهة أن البلد المقصود هو العراق والرواية تعالج قضية شحة المياه في انهره وتداعياتها مجتمعيا وسياسيا على الرغم من أن الروائي لم يذكر اسم البلد المقصود بل كان يبث اشارات تصوب الهدف نحو اكتشاف القصد وتلك طريقة معهودة للشبيب في اغلب اعماله، أن دالة النص المذكور تنفتح على الواقع عبر الخطاب الايحائي المتداخل مع الصيغة، ويتجلى ذلك بوضوح في نهاية المقطع السردي الذي يرسم صورة لواقع قاسي وهي صورة تتمركز على سكان ضفاف الأنهر، إذ يبدو أن قساوة الحياة هنا خاصة باولئك السكان بعد أن نزحوا للعيش على ضفاف الأنهر عندما نضب ماؤها وذلك أمر لم يحدث في ماضيهم وتاريخهم، وهذا ما يؤكده التوجيه الخبري الوارد بالصيغة ذاتها، فالضمائر الواردة في النص تمارس عزلا للشخصيات وهي تتحدث عن ماضيهم وتمركز الخطاب ليمس الواقع، وفي الوقت نفسه تقدم صيغة صورة الراوي الذي يربط الصور المقدمة في النص بـ (الفناء والجدب) في حال استمرت ضحالة الأنهر تأسيسأ لمستقبل أشد قساوة في العيش وبذلك اصبحت الصورة تتلفظ بذات المتلفظ اي الراوي، إذ لا وجود لشخصية تتبنى الحدث لحد الآن والصيغة السردية المقدمة هنا تربط بين (اللا استقرار والاستقرار) أو (استمرارية الحياة بوجود المياه وانقطاعها في حال النضوب) فالوصف المقدم بصيغة المسرود التي يتخللها الخطاب الذاتي يحقق هذا الدمج .

يظهر في النص المذكور آنفا انتقالا واضحا للزمن الذي ابتدأ تدريجيا بتضاحل المياه وصولا إلى المفارقة الحادة التي تبثها آخر قطرة ماء وبذلك تتكسر الدلالة الطبيعية للمياه ويعمل الاخبار على توجيهها توجيها يتلائم مع النسق المعنوي، فتنقلب من دلالة الحياة والاستقرار إلى دلالة الفقر وقلة التعليم وصعوبة طرق العيش وهذا المعنى يسجل وضعا خاصا في الواقع العراقي بعد أن تخلت حكومته عن ايجاد الحلول والتحسب قبل الازمات والتضحية بأبسط ممكنات العيش للمواطن العراقي، لا بل دعته لأن يقوم بحل مشكلاته بطرق فردية من قبل الشعب وهذا بالنتيجة جعل ابنائه يحفرون آبارا بصورة عشوائية غير نظامية وغير علمية وتتملكها المصلحة الشخصية على حساب الآخر، الامر الذي تطور لاحقا ليتسبب بنشوب العداوات وامتطاء مطية الثأر التي قامت بتأجيجها الأحزاب الناشئة في خلافها مع الاحزاب التأسيسية القديمة في البلد وهم يحاولون اعلاء شأن كل واحد منهم، وقد وظف الروائي شخصية (فيّاض السقّا) وحزبه الناشئ(حزب الارواء الوطني الديمقراطي) ليلتحم مع المسرود وينسجم مع الصيغة الكبرى التي يرتقيها النص الروائي .

تواتر التكرار في الرواية وارتباطه بالمكان

اتخذ الشبيب في روايته هذه اسلوبا تميز بالتكرار لعبارة (الأنهر اللا عدّ لها) وقد وظفه وضفر سرده من باطنه الواعي ومن تياره الشعوري الداخلي محاولا أن يماثل الواقع بتكرار مواقف الحياة، والسخرية من القص التقليدي الذي يحاول تجنب الاستطراد والاطناب وذلك باعتبارها عيوبا فنية، فقد أبى الا أن يثبت إن الرواية فن يتجدد على الدوام، ونجح في جعل ما نعيبه عليها في مصاف الميزات التي تشير لإبداعها عن طريق انتقائه للعبارة التي تحمل ايقاعا خاصا ومؤثرا بما يحرك فينا غريزة التساؤل للبحث عن سر اللجوء إلى هذه الظاهرة الاسلوبية دون سواها واكتشاف ما خفي خلف هذه الكلمات في العبارة المذكورة بكثرة داخل الروي، ولذلك علينا اولا أن نبين معنى تواتر التكرار وهو " أن يأتي المتكلم بلفظ ثم يعيده بعينه سواء أكان اللفظ متفق المعنى أو مختلفا أو يأتي بمعنى ثم يعيده، وهذا من شرط اتفاق المعنى الأول والثاني، فإن كان متحد الألفاظ والمعاني فالفائدة في إثباته تأكيد ذلك الأمر وتقريره في النفس وكذلك إذا كان المعنى متحدا وإن كان اللفظان متفقين والمعنى مختلفا، فالفائدة في الإتيان به الدلالة على المعنيين المختلفين"(2) .

إن للتكرار وظيفة تأكيدية افهامية معروفة لدى الخاص والعام الا أن الشبيب ارتقى بوظيفته تلك ليصبح التكرار عنده يتبنى تقنية جمالية متفردة، تتلون وتتغير على وفق ضرورات وجودها في النص على الرغم من التزامها باللفظ والايقاع ذاته فقد جعل العبارة مرتدية مسوحا متفاوتة في بنائها الفني وقد تختلف درجة وقعها وطريقتها من حين لآخر، الامر الذي يبعد الرتابة والملل في نفس القارئ بل يتلقاها بصدر رحب في محاولة لاقتراح التأويلات المناسبة، وايجاد الإيحاءات القريبة والبعيدة التي ترمي إليها طبيعة التركيبة المكررة للجملة، ولو رجعنا في النظر إلى الكيان المكاني في الرواية نجد أن النص الروائي فيها مبنيا على وفق سياق متسلسل وتتابع سببي تفاوض فيه اللغة الساردة لتدعيم الحدث الذي يتمثل هنا بنضوب المياه التي جاءت بوادرها مسبقة منذ سنين التهاون في الحقوق، وذلك الحدث تأطر باطار مكان النص الذي بقي في سياقه الشكلي عندما اصبحت ارض نهري البلد عبارة عن منحدرا صالحا لفتح المقاهي وسكن الناس وبذلك أخذ الحدث معنى دلاليا في حدود اشارية غير منطقية ومن ثم تتابع كل ما هو غير منطقي على تلك الارض التي فيها انهر لا عدّ لها من شمال البلاد إلى جنوبها، ولو اردنا أن نستهلك هذه العبارة بتحييد رؤاها في اذهان الناس الساكنين على تلك الأرض فإننا نجد أن مخيالها لا يجنح إلى فعل يوازي التطلع لتغيير الواقع، إذ هناك نكوص سايكولوجي يشوب النظرة إلى الخلف حيث خيرات هذه الأنهر التي ينعم الناس بها وإلى الامام حيث المكان المستعاد بعد نضوبه وهو مملوء بالخيبات وعدم الاستقرار.

 

إن التصورات التي يتوافق معها المكان برواية – إلى المزاح اقرب – فيما يخص زمن السرد، لا تشكل اضطرابا لأي شخص على معرفة بحيوات سكان الأنهر، وهي بالنسبة للشكل الاجتماعي ليست محتملة بل واردة ومستعادة من متن تاريخي تساهل في امكانات الحفاظ على ديمومة انهره، وهذا باب ينفتح على مصراعيه للتلقي الرادكالي النزعة، وقد مثله نشوء الاحزاب التي لا تكترث الا لمصالحها في الاستحواذ على العقول والخيرات.

ولكي يكون المكان محور جذب للقارئ، ويشكل إشكالية وجودية، تعامل معه الشبيب في مواضع معينة وهو يعدّه عنصرا لوحدات زمنية، عندما كان السارد يراقب تضاحل الأنهر حتى آخر قطرة ماء وجعله ايضا مركز البناء والنشاط الذي مثله دور الشخوص وهم يحفرون الآبار، وفي مواضع أخرى يكون بعدا نفسيا، عندما يتم استذكار ايام الاعتصام والتظاهر وتحمل الاذى الذي طال كل الفئات حتى النساء وقد تبنت ايضاح ذلك شخصية سما تلك الفتاة الشابة المتطلعة في الرواية، فالمكان في الرواية ليس شكلا جامدا تجري عليه الأحداث، وهو ذو طابع فاعل يولد ذاكرة اجتماعية، وما شخصية سما الا محركا دلاليا يحاول بها الروائي أن يستثمر اندفاعها في نجدة النساء بعد نشوب الحريق الذي افتعلته جهات مرتبطة بالدولة ليبث عن طريقها فاعلية فكرية توازي بها الفعل الصادر من الشخوص الذين ليس لهم اسماء معلومة بل تمت تسميتهم بـ (الحلوين) ومعلوم للقارئ الفطن انهم الشباب الذين ضحوا بأنفسهم في الحراك العظيم لنيل الحقوق، لذا صيغ الكلام بمناحي رؤيا وعي فاعلة، تتناوب بها اللغة الفصحى والعامية، هذا غير أن ظاهراتية المكان أكسبت الفعل جدلية مادية ساعدت على بث الروح فيه، كي يمتلئ حرارة وتدفقا، فضلا عن تنوع إيقاعات المكان بالمناحي الرسالية والمواقف التي لها صلة بأعراف وتقاليد مجتمعية تمليها البيئة المفترضة وهي ذات طابع نفسي متعدد الإحالات، يوسع دلاليا من حسية المكان داخل النص، ويعمل على جعله أكثر واقعية من المكان الحقيقي، ليصمد إزاء مؤثرات الأفكار ونوازع الشعور، كما أكدت كيانية المكان بتشكلها المعماري البسيط مقدرة الروائي وقصديته التي أنتجها التخطيط لمكان الرواية قبل أن يكون دالا بوساطة الجملة المكررة ـ بلاد الانهر اللا عدّ لها ـ وجعلت قصدية الفعل الذاكراتي منتجة لفعل المعنى، فكان المكان كائنا يتحرك في السيرورة السردية سيناغرافيا، وهذا أهلّ المكان ليأخذ صورا مختلفة، جعلها تتوائم مع مناخ النص الروائي، وصارت للمكان المقدرة على إنتاج دلالات متعددة، كما إن سيناغرافيته جاءت وكأنها رموزا إشارية مقنعة ومقبولة وغير مبهمة عن طريق ارتباطها بحركة النص الروائي وتأثيرها عليه وفي المقابل هناك الاستجابات الحسية لها من قبل الشخوص، ومن الشكل الاجتماعي المتمحور الماكن فيه، هذا غير ارتباطها بمناطق وعي المؤلف طه الشبيب، وذلك شمل حتى التغييرات واستبدال هيئة المكان حيال المؤثرات والفاعلية السردية، إذ كان لذلك وقعه الخاص حين يتبنى السرد الكلام عن نزاعات العشائر وضحاياهم جراء الاقتتال على الماء وحيثيات دفنهم ومكانها الذي كان بالقرب من مبنى الحكومة في حديقة تضمهم اطلق عليها اسم حديقة الشهداء، ولذلك نجد تداولا هاما وقاصدا لكيانية المكان، ذا الطابع العشائري ومن خلال شكلانية الحدث وتنوعات سياقاته، وأحاسيس الكيانات الحالمة والمهمومة بتحميلات تاريخ يترجى عودة المياه إلى انهره، وقد انعكست تلك التحميلات بمعاني عدة على المكان وكان من ضمنها ما يقوم بترسيخ عميق لافكار كان من الصعب ادراكها لولا خوض التجربة والتفكر من قبل من كان يحرس الحديقة من الشباب، فقد ادركوا مؤخرا أن اولئك الشهداء منحوا الخلود بسبب ما قدموه من تضحية، ومن نال الخلود في اذهان الناس كُني باسمه الاول ولا دور لاسم العشيرة بتخليده رغم أنه كان لصيقا باغلب شواهد القبور، ذلك أن الشهداء جميعهم سواسية في نيل الشهادة دفاعا عن وطن مسلوب .

إن حدة الإفرازات المعادة لم تمنع الرواية من أن تتنفس المكان دون عناء وهي تبث شكواه من ولاءات شخوصه المتعددة والمزيفة وهذا ما جعل افرازاته تلك عرضة للتكرار والإعادة في متنها القصدي عن طريق العبارة المكررة في مجال بحثنا وهي (الأنهر اللا عدّ لها) وهذا ما يفسر أن يكون للمكان دلالة رمزية الملامح يمكن أن توظف للكشف عن سيادة الامتثال لمن هو غير مؤهل للقيادة على مستوى الدولة وبالتالي تفشي القلق المجتمعي الذي يتسبب بإثارة الاطماع على مستوى الافراد فكان الاستحواذ على اكثر من بئر غاية لا تدرك وكانت تسعى كل عائلة وكل عشيرة إلى ادراكها على حساب الغير من ابناء العمومة.

  • إلى التكرار للعبارة الخاصة بالأنهر ونحن ننظر لها كبنية مكانية نجدها تتواصل بشكل تراكمي لتصبح ضرورة نصية يشكل فيها المكان بؤرة النص، وكلما كانت تستجد احداث من خلال تكرار الاشارة لعبارة الأنهر على مستوى السرد كان هناك منطق مرتبط بالتوصيف لزمن الرواية ويمكن القول إن زمنا كان يمحو زمنا آخر، وهنا سيكون هناك مشهدا يمحو من سابقه جملة مشاهد، ومن ثم يستعيدها حسب متطلبات مبنى الحدث، فتكون العبارة هادفة وهي كيان مكاني بعد أن ينفلت منها الحدث، ثم يعود إليه من جديد، ويشكل تكرار العبارة في مداخلها الثانوية بالتتابع مفترقا زمنيا، وكل وحدة زمنية في مسار حدثي يتخلف عن الوحدة الاخرى، وهذا عمل لا نحيله إلى بعد نفسي في كيان شخص المؤلف، بل إلى القيمة المكانية وبعدها الحسي، وإلى السياق التقني وهدفية التوظيف وهي تشير إلى سياق حدثي إنهمّ به الشخوص والمؤلف على السواء، وكان ذلك التكرار فنا يستقصي مضاعفة الحس السايكولوجي للوحدة المكانية، وايضا يهدف إلى تجاوز التصور الذي يقابل تلك الوحدة المكانية، مرة بعد اخرى حتى بلوغ الحس اليقيني بالمكان، ويتحول المكان من التصور الافتراضي إلى حقيقة صامدة، وهذا يحسب للرواية ولصالحها، ويدعم علاقة التلقي بها ايضا، إذ يسعى التلقي هنا إلى ملامسة ذلك المكان، وليس تصوره فقط .

قصدية الخطاب العام في الرواية

عندما يضع الشبيب أمامنا عبارته عن الأنهر (اللا عدّ لها) ويكررها ثم يصدرها للقارئ على انها تشير إلى الكثرة الغير متناهية للأنهر فإنه لا يفوتنا الدور العضوي لأداة النفي (لا) التي لا يمكن لها نحويا ان تتقبل (ال) التعريف ولكنها اصبحت مؤخرا مما يشاع استخدامه ليس لغرض تجاوز قواعد اللغة انما لاستثمار ذلك الوقع الصوتي والايقاعي الذي يكتنز تركيبة الجملة وربما لهذا السبب كثرت اللهجة العامية في الرواية، ذلك أن الرواية لم تتمسك بالحدود القصوى للتركيب النحوي في جملها، وارتأت في نسيجها الدخول إلى السياق الذهني الذي علينا استحضاره ضمن زمن التلقي وارتباطه بمكان الروي وساكنيه، كما أن للأنهر دلالة تاريخية ونفسية وسياقية متمددة، والنفس مدفوعة إلى استحضار كل المخزون الذهني لهذه الكلمة وفي هذا كله هناك دلالة غياب لإدراك اهمية الأنهر من قبل الجهات المتسيدة للمشهد السياسي في البلد، فبلاد الأنهر ينبغي لها أن تكون من اغنى البلاد لا أن تكون قضية اطعام حراس مؤسساتها من القوات الامنية تشكل معضلة لهم؛ فاستنجاد الحرس القائمين على حراسة حديقة الشهداء بسواق المنطقة وهم (علاوي وميمون ورائد) لجلب الطعام لهم من السوق ما هو الا دليل ينفي حالة التوقع والانتظار لبلاد الأنهر اللا عدّ لها وكأن الكلام جاء في هذا الموضع من الرواية ليكون بمثابة بيان يفصح عن حالة مأساوية عالية ولم ينتشلها من اللا إنسانية تلك سوى ابناء الشعب من الشباب المتقد بالحياة، كما موضوع شواهد القبور وصولا إلى قضية الأبواب المفتوحة لمكاتب قيادة مبنى الحكومة الرئيس واختراقه من قبل تيار هوائي كان له أن يعبث بالأوراق الرسمية المتروكة على المناضد وما هو الا تعرية لتدخل كل من هب ودب في شؤون البلد والاستخفاف بأمنه الذي كان يجب أن يكون من الاولويات بالنسبة للدولة لما له من رصيد ذهني عميق ومهم لكل انسان وهو يثبت في الوقت نفسه أن ما هو غائب ومفقود اكثر مما هو حاضر في الرواية، وذلك يستلزم الوجود الفاعل للقارئ ليصنع دلالات الغياب وهي دلالات مهيأة للتمدد قرائيا في تلك البلاد صاحبة الانهر التي لا تعد .

إن الرواية مثلما اعتنت بجعل المكان له قيمة كيانية من جهة، اعتنت من جهة أخرى به كي يكون صافيا كالمرايا؛ ليعكس ما يحدث فيه من تأزيمات اجتماعية وتداعيات للمشاعر القلقة من عدم الجدوى الا بأخذ الثأر بين ابناء العم وفقا لأعراف عشائرية صارمة، لم ينقذ مخيالها الجمعي الا الوعي الذاتي ازاء بنية المكان والتجربة الحيوية اللذان كان لهما شأنهما في أن يشتركا لإيصال فكرة جمالية تتخلل منافذ استنطاق الروي رغم التشويه والسوداوية التي تعتري طابعها، ولذلك هي ليست يسيرة في تثبيت دعائم ما أكدته الرواية بخصوص تمحور النشاط البشري للشخوص، ومجمل أزماتهم الخاصة والعامة، وقلق الاجتياح للأراضي والخوف من شبح شحة المياه، وكيفية تشكل الضعف المؤسساتي للدولة الذي بدأ بجعل السلاح بيد العشائر وخلخلة النظام العسكري والأمني للبلد.

إن ما يدعم سياقات السرد كان يحيل إلى منظومة حدثية في تنوع المعاني ومستوى اللغة المتفاوتة ما بين لغة الراوي العليم وهي اللغة الفصحى ولغة الشخوص العامية المتفاوتة ايضا بحسب طبقاتهم الاجتماعية ولذلك كانت مثلا لغة (فياض السقا) مؤسس الحزب المذكور آنفا بمستوى اعلى من لغة( الحاج بدر) صاحب المقهى على الرغم من أن اللغتين باللهجة العامية، وهذه اللغة تنامت تدريجيا لتتوسع وتتجه بالتالي إلى نقطة النهاية المفترضة، واكتساب المعنى الأشمل، بيد أنها لم تفقد ما في المكان من قيمة دالة .

دلالة الاسماء وارتباطها فنيا في الرواية

يؤدي الاسم في هذه الرواية دورا بارزا في الكشف عن الشخصيات و دلالاتها ولم يكن مجرد دال لغوي فارغ، بل حمل معان ارتبطت بالمرحلة المظلمة التي سادت البلاد بعد تضاحل الانهر، والملاحظ في التسميات المعتمدة في الرواية أن جميعها أسماء مناقضة لمدلولاتها، وليس هناك أي تطابق بين الشخصية واسمها، فقد ارتأى الشبيب ان يترك للتحليل السيميائي مهمة الكشف عن علامات تتصدر كل شخصية بهدف الوصول إلى المعنى الحقيقي غير المرئي داخل الروي والذي ينتجه ارتباط الشخصيات ببعضها وكيفية احداث التفاعل في تكوين العلاقات المؤثرة في تنامي الاحداث وتشكل التيمة الروائية التي انشغل الشبيب كثيرا بإظهارها وعكف على إعادة انتاجها في كل مفصل من مفاصل الروي المتعددة وهي فشل التغيير واستحالة تحقيق السلام واستحصال الحقوق على ارض المدينة التي اسماها بالزاكية بعد مضي الروي وكأنه يقدم صفة للمدينة لا اسما، إذ اشرنا إلى أنه كان يقصد العراق بمدنه المحاذية لأنهره وقد اختار ترميزا له اطلق عليه المدينة الزاكية، وعمل جاهدا على اظهار تيمته تلك عن طريق مظهرين:

الأول: مهتم بالمشاكل السياسية وقد مثله ضعف الدولة ونشوء الأحزاب الفاشلة في تحقيق الآمال.

الثاني: هو مظهر اجتماعي يهتم بفضح البنية الفكرية لأذهان الناس الساكنين في تلك البلاد وهي بنية ساعدت في تمكين التسلط من قبل رموز البلاد على ممتلكات الشعب وتنامي الوضع المتأزم الذي لا مندوحة من أمل تلوح في افق الرواية تبشر بزوال سيطرته وخرابه الذي طال كل مؤسسات الدولة.

ولو اردنا تتبع الاشتغال السيميائي بدءا بتسمية المدينة بالزاكية نجد انها لم تكن زاكية أي خصبة فواحة بالطيب الذي كان يجب ان تكون عليه بما انها محاطة بالأنهر بل كانت قيعانها متيبسة متشققة تصلح لتكون مرتعا للهو الاطفال، كما أن معنى الزاكية يشير إلى النماء الذي خلت منه الرواية بفعل تخاذل الوزارات ومنها وزارة التربية التي لم تكن حاملة لحلول تصب في صالح تنشئة اجيال مزودة بالعلم بل انها كانت لا توفر ابسط اسباب التوعية ولا تأبه بضياع السنين الدراسية، سنة اثر اخرى على ابنائها بعد أن نقلت الصفوف إلى المخيمات التي تقيم بها العوائل ومن ثم تكلل الفشل بمنح النجاح لجميع الطلبة حتى الذي لم يكتب شيئا في دفتره الامتحاني، ولا يخفى على القارئ في هذه الصورة المشهدية ما تبثه رمزية قتل السعي في دواخل الطلبة نحو العلم والتعلم وبدلا من بحثهم عنه اختاروا الهروب منه لتلاحقهم الدولة الضعيفة في اسقاط فرض لا تسعى إليه بشكل حقيقي .

هناك هندسة ما تضبط التوازن المنشود في المتن الروائي ولها مزية النظم داخل إطار اللغة وتراكيبها اللفظية الدقيقة التي من خلالها استطاع الروائي أن يؤدي اغراضا متنوعة في نصه، كان من ضمنها اسلوب التكرار الذي وظفه على اتم وجه واتقن ادراجه في مواضعه التي تجب له من خلال عبارة (الأنهر اللا عدّ لها)، ولا يتأتى له ذلك إلا بفقه اختيار المسميات ومعرفة خصائصها التي تتموقع في الاطار الذي يفترض على الروائي أن ينظم تصاميمه بشكل فعال مما يعطي اكبر فرص ممكنة لتحقيق التأثير، يحيل هذا الكلام إلى القيمة الجمالية والفنية لاسم الشخصية وهو مستمد من واقع النص وطبيعته و جغرافيته ولذلك يرى فيليب هامون أن لمفهوم الشخصية وحدة دلالية باعتبارها مدلولا متواصلا ويفترض أن هذا المدلول قابل للتحليل والوصف، وأن الشخصية تولد من المعنى والجمل التي تتلفظ بها أو من خلال الجمل التي يتلفظها غيرها من الشخصيات (3) .

وانطلاقا من هذا الافتراض نصل إلى أن الشخصية هي: اسناد المحادثات وتحولاتها الحكائية ويكاد يتفق جلّ الباحثين السيميائيين حول هذه النقطة(4) وهذا ما نجده متجسدا في شخصية (فياض السقا) الذي جاء اسمه بمدلول مناقض لما يبثه المعنى الكامن في اسمه فهو لم يفض على اهل الزاكية بأي خير يذكر ولم يسقهم ماء بل وعودا لم يتممها وجعل كفة مصالحه فوق مصلحة ابناء الزاكية بتأسيسه لحزب الارواء الديمقراطي الذي لم يكن متوافقا ايضا مع تسميته فلم يقدم حلا لنضوب الانهر ولم يثمر نشاطه الا عن صراع مع الاحزاب السابقة في البلد، ومن الشخصيات الاخرى التي كانت تناقض في تسميتها ما تدل عليه وما تمليه عليها مساحة السرد هي شخصية الحاج بدر الذي يذكر في الرواية انه لم يحج بيت الله يوما ولكن كانوا ينادونه بالحاج، أما اسمه (بدر) ففيه اشارة بليغة لما انتجته التسميات الدينية من خذلانات متكررة وهو من الشخصيات التي تبحث عمن تتسلق على اكتافه لتنال ما تريد، وبتنامي شخصيتي (فياض السقا والحاج بدر) داخل المتن الروائي تشكلت الفكرة السائدة في أن المكون السياسي والمكون الديني عند اجتماعهما يتم تدمير البلد بالكامل، ولو نظرنا لشخصية الحاج بدر نجدها تميل للقبائلية التي تقف الى جانب مكون العشيرة فهو منتمي لعشيرة(الفوازع) التي تخالف وتصارع عشيرة(الصوالح) وتطالبها بالثأر، ومن اللافت للانتباه أن تسميتي العشيرتين لم تخلوا من اضمار لمعنى اراده الشبيب فقد كان فكرهما ينبني على التمايز الذي اشار إليه الروائي بوضع الالوان على المخيمات لتكون هذه بالأحمر وتلك بالأخضر وهناك خيمة بالأصفر وفي ذلك سخرية مبطنة لانشغال الناس بتمكين بعضهم على الاخر بنسبه وفئته وانتمائه، الامر الذي سمح للغير بالتدخل في شؤونهم ونهب خيراتهم.

ومن بين ما يقدمه الشبيب من دوال بشرط ان تكون مختارة بدقة مناسبة، اختار الدوال التي يمكن أن تكون عبارة عن اسماء علم أو اشارات تمثل كيانات تدعم الخطاب الروائي فقد اختار الاسماء(علاوي وميمون ورائد) وهي اسماء عندما نذكرها نستذكر الشارع العراقي الذي يتوفر عليها في الغالب وهم الشباب من ابناء المدينة الذين يحملون الصفات المشتركة التي لا يختلف عليها اثنان عند الحديث عن شهامة ومبدئية ابناء المدينة الواحدة وأن اختلفت مسمياتهم ومشاربهم، وبذلك انفتح نص الرواية على تنوع في المادة الصوتية المشكلة لشخصيات الرواية وعند سماع تلفظ الاسماء وقراءتها من قبل المتلقي يجد أنها كانت خاضعة للسمات الدلالية والجمالية التي اختارها الشبيب وهذه المادة الصوتية تتخذ لنفسها دلالة من خلال ما يهبه لها السياق من علامات تعكس الجانب الاجتماعي والنفسي والوظيفي للشخصية داخل المتن الحكائي .

الهوامش

1 ـ صفحة 5،6 من الرواية .

2 ـ معجم النقد العربي القديم، احمد مطلوب، ج1، ص370 .

3 ـ مقالة بعنوان: السيميائيات السردية لمعلم وردة، كلية الحقوق والآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة 8ماي 1954، قالمة، ص 32.

4 ـ ينظر: نادية بوفنغور، رواية كراب الخطايا لعبد الله عيسى لحيلح، مخطط ماجستير، ص57 ، قسم اللغة العربية، جامعة محمد بوضياف لمسيلة 2014ـ 2015.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رنا صباح خليل
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/02/21



كتابة تعليق لموضوع : تواتر التكرار وعلاقته بالمكان في رواية (إلى المزاح اقرب)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net