صفحة الكاتب : محمد الرصافي المقداد

ماذا يعني حبّ علي عليه السلام؟
محمد الرصافي المقداد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لم يختلف المسلمون طوال تاريخهم في شخص، مثلما اختلفوا في علي بن ابي طالب عليه السلام، فمنهم من بخسه حقّه، وتفاوتوا في ذلك البخس، بين من رآه كبقية كبار الصحابة لا يزيد عليهم في شيء، وبين من بلغ به البغض مبلغ انكار أغلب خصائصه، التي خصّه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهؤلاء هم الغالبية من عامة المسلمين، وذلك عائد إلى جهلهم بما جاء في سيرته من سبق إلى دين الله، وعطاء وبذل وتضحية في سبيله، لم يجاريه عليها أحد، استأناسا باتباع مناهج حكامهم الظلمة، إتّباع المُكره الذي لا حيلة له، والمُضطر الذي لجأ إلى التّقية، والطامع بما في أيدي هؤلاء الظلمة من متاع يرجو نواله منه.

ومنهم من أعطاه بعض حقّه، وهؤلاء هم نسبة قليلة من المسلمين، عرفوه من خلال ما كُتِب من معلوم سيرته، رغم ما لحقها من طمس وتغييب، فآمنوا به إماما ووليّا وقائدا، وعملوا على نهجِ سبيله قدر الإمكان، لأنّها سبيل وعرة المسلك، محفوفة بالأشواك زاد سالكيها الصّبر والأناة، فلقيهم ما لقيه من تسقيط واستهانة، وحفّتهم المخاطر من كل جانب كما حفّته طوال حياته، ونالهم ما ناله من العناء، وكانت خاتمة أغلبهم خاتمة واحدة هي الشهادة، وكأنّ ذلك قدرُ مقْدور على خاصة أوليائه وباقي شيعته، ومنهم من أعتبره فوق البشر فأحلّه مقاما أنكره في حياته، محذّرا من مغبّة تأليه لا ينبغي إلا لله وحده، وهؤلاء والحمد لله هم قلّة القلّة، اندثروا فلم يعد لهم وجود منذ أن صاح بها صائحهم، ولم يؤلّه هؤلاء القلة عليا إلّا لأنهم شاهدوا منه ما لم تسعه عقولهم، ولم تستوعبه أفهامهم، فقالوا فيه ما قالوا، وسلكوا إليه مسلكا خاطئا.

والإمام علي عليه السلام مع ذلك كتاب مفتوح، لمن أحسن قراءته، وأحسن فهم مصطلحاته، رغبةً في معرفته، رغبةَ طالبِ حقيقة موازية لدور الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، فغير ممكن معرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، من دون معرفة بعض ما جاد به كتاب عليّ عليه السلام، لأنّ ما سطّره الحفاظ عن شخصه المُقدّس، بقي مرموزا في صُحفٍ مهموزة (1)، بالرفض، موسومة(2) بالغلوّ، في نظر من قصُرت به حيلته عن إدراك بعض مواسِمِها (3).

وإدراكا من الإمام علي عليه السلام بأنّ طريقه وعِرةٌ، وأنّ سيرته فيها صعبة النّسج على منوالها، فقد نبّه عليها من خلال تلميحاته وتحذيراته ونصائحه، فقد نقلوا عنه: (هلك فيّ رجلان: محب غالٍ، ومبغض قال)(4) وبلفظ مختلف: (يهلك فيّ رجلان: محب مفرط وباهت مفتر)(5) (سيهلك فيّ صنفان: محب مفرط، يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالاً النمط الأوسط فالزموه.) (6)

كان الإمام علي عليه السلام يدرك تماما، أن اتباع نهجه مُكْلِفُ لمن سلكه وصبر عليه، ومن وقع في أسر الدنيا، وصفّدته بأصفاد بهارجها، واستغوته بزخارف زينتها، يستحيل عليه أن يقبل منها بشيء يسير، وفي قلبه لهف عليها، كيف يلتقي مع زُهْدِ رجل طلّقها طلقة بائنة لا رجعة فيها، من صحِب عليا ومضى في طريقه، لا يمكنه أن يصحب من حاربه، وأظهر بغضه وعداوته، ومن استوى عنده عليّ ومعاوية يترضّى عليهما كلّ حين، وهو غير مُدْرِك أنّه دخل باب بهْتِ شخص ومقام عليّ عليه السلام، بمساواته مع طلقاء أخيه وخصماء حقوقه، وبالتالي فقد وضع نفسه موضع المبغض لرجل، أقام صرح الإسلام بسيفه وجهد يمينه وشماله، وسقاه بعصارة جراحه ونبض قلبه ورجحان عقله.

والدنيا لها أهلها وطلّابها، ما كان لعليّ قربٌ منها، وزهده فيها كان مضرب الأمثال، هي وأتباعها وعليّ عليه السلام وأتباعه لا يلتقيان أبدا، ولا تعلّق من تعلّق بها حبّا وميلا وافتتانا، وفي قلبه حبّ حقيقي لعلي عليه السلام، وإن صدر عن أي شخص تعبير مما يستشفّ منه حبّ، فمجرّد كلام ظاهر لا ينطبِقُ على باطنٍ فيه حبّ علي عليه السلام وموالاته، فإن من اكتفى ب(طمريه وقرصيه) من الدنيا بعد ما لفظها من حياته لفظ النواة، يستحيل أن يكون معه في صفّه عبد للدينا، وليس عبد الله بن سبأ سوى شخصية وهميّة، اختلقها بنو أميّة لضرب جبهة علي عليه السلام وتشويه صفّه، الذي طغا عليه عبّاد أهل زمانه من شيعته، فكيف يجد منحرف فيه مكانا بين هؤلاء الزّهاد العبّاد؟

جاء عن ضرار بن ضمرة الضّبائي عند دخوله على معاوية، ومسألته له عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، ولقد أرخى الليل سُدوله، وهو قائم في محرابه، قابضٌ على لحيته، يتململ تملمُل السّليم(7)، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: (يا دنيا يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت أم إلي تشوّقت؟ لا حان حينك، هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر، وعِظمِ الموْرد، وخشونة المضجع) (8)

عن أبي بصير قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالسا إذ أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله)): إن فيك شبها من عيسى بن مريم (9) ولولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك قولا، لا تمرّ بملأ من الناس، إلا أخذوا التراب من تحت قدميك، يلتمسون بذلك البركة.) (10) ومع ذلك فقد ترك لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبيانا لما جاء في شأنه من وحي، ما يكفينا مؤونة البحث فيما عداه، ففي قوله تعالى: (إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (11) أبداها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما تصدّق علي عليه السلام بخاتمه وهو راكع، قائلا: (عليّ وليّ كل مؤمن ومؤمنة بعدي)، واختتم توجيهه لأمّته بتنصيبه يوم الغدير: (من كنت مولاه فعلي مولاه)(12) إماما وهاديا من بعده، فحسدوه على ذلك المقام الرفيع، وعملوا على إزاحته منه بالمكر والدهاء والحيلة، فتمكنوا من ذلك عند انشغاله بتجهيز أخيه إلى مثواه، مستغلين سذاجة وانقسام الأنصار.

لقد غصبوا حكم علي عليه السلام، لكنهم لم يتمكّنوا من ازاحته عن مقامه في ارشاد الأمّة وهدايته، فقد باءوا بفشل ذريع أوقفنا على ضعف رصيدهم العلمي والديني، وباءوا بعجزهم أمامه فأقرّوا به مسلّمين له تفوقه ونبوغه عليهم، وبقي أول الناس اسلاما، تبيعا ملازما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفترق عنه في حل وترحال، هو نفسه ذلك المولود المبارك، الذي ولدته أمّه فاطمة بنت أسد في جوف الكعبة، بعد أن انفتح لها الرّكن اليماني منها، دالا إلى اليوم على تفرّد عليّ عليه السلام على من سواه بتلك الخصوصية الفريدة، ففي شهر الله رجب وفي أول أيامه البيض ولد مولى المؤمنين في بيت الله الحرام، ليكون ذخيرة صناعة مجد الإسلام بساعده ومعرفته التي حباه الله بها عن طريق نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

حبّ علي عليه السلام إيمان وبغضه نفاق وكفر، وهذا عهد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم له: (والله انه لمِمَّا عهد إليّ رسول الله، أنه لا يبغضني إلا منافق، ولا يحبني الا مؤمن) (13) وفيه دلالة صريحة، على أنّ عليا عليه السلام مثل علامة إيمان، دالة على أنّ من أحبه كان مؤمنا، ومن أبغضه كان منافقا، ولم يكن المنافقون وخبيثي الولادة إلا ببغضهم لعليّ عليه السلام، محرار مقياس الإيمان حبّ علي عليه السلام، ومحرار مقياس النفاق والكفر بُغضه، وكان حقيق له أن يكون قسيم الجنّة والنّار، فطوبى لمن أحبّه وسلك نهجه وعمل بمقتضى هدْيِه، وخيبة مسعى لمن أبغضه وحاد عن نهجه وحاربه، وأسفا لمن لم يدرك إلى اليوم حقيقة شخص عليّ وبقي تائها عن نهجه، وما هو سوى الإسلام المحمّدي الأصيل، وغير نهجه هجين اسلام الملوك والسلاطين.

حبّ عليّ عليه السلام جُنّة، وبغضه عذابٌ ودَنّة (14) سعِد في الدنيا والآخرة من أحبّه، وتعس في الدنيا والآخرة من فاته حبه، وليس سهلا أن تحب عليّا، فعليّ تجارته مع الله وتجارة غيره من أنفسهم يرفعونها بالتظاهر والتباهي، فمن أحبّ عليا سلك نهجه القويم، ذلك الصراط المستقيم الذي أنعم به الله عليه وعلى من اتبعه، عليّ باختصار كما اختصر هو مدى ارتباط المؤمنين به في قوله: ( لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها (15) على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي أنه قال: لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق. (16)

من كان مؤمنا حقيقيا فعليه أن يسترجع موقفه السلبي من علي عليه السلام، ويعطيه حقّه في الفضل والدّور والمكانة عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، شخصيّة الإسلام الأولى بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أعزّت الدين فأعزّها بثلة من المؤمنين، الذين إذا ذُكِروا فس مجلس سبحت الملائكة بأنفاسهم، وتنزلت الرحمة بفضل تضحياتهم، ولولا علي وأخيارُ أحبائه، لما لأندرست معالم الدين، وذهبت من بعد ذهاب رسول رب العالمين، والسلام على عليّ مولى الموحّدين في ذكرى مولده، نسأل الله سبحانه أن يثبتنا على نهجه، ويزيد من تعلّقنا به حتى نلقاه يوم لا ينفع حب لا يكون فيه حبّ علي عليه السلام.

  •  

 

 

المصادر

1 – مُعابة مَطعونة

2 – مُعلَّمةً

3 – أوقات بروزها

4 – نهج البلاغة الإمام علي الحكمة رقم 117 الطالب العالية ابن حجر ج16ص135// تاريخ دمشق ابن عساكر ج42 ص196/297//

5 – نهج البلاغة الإمام علي الحكمة رقم:469//أنساب الأشراف البلاذري ج2ص119

6 – نهج البلاغة الإمام علي عليه السلام الخطبة رقم 125

7 – الملدوغ أو الجريح

8 – بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 40 ص 345

9 – زهده وعبادته واختلاف المسلمين فيه إلى فرق

10 – الكافي الشيخ الكليني ج8ص57

11 – سورة المائدة الآية 55

12- سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص79ح3713//سنن ابن ماجة المقدمة باب فضل علي بن أبي طالب ج1ص133ح116 وص136ح121// مسند احمد بن حنبل مسند علي بن أبي طالب ج2ص71ح641 وص 262ح950 وص 268ح961 وص434ح1311 وأول مسند الكوفيين حديث البراء بن عازب ج30ص430ح18479 وج32ص75ح19328 ومسند الأنصار حديث بريدة الاسلمي ج38ص32ح22945 ...

13 – مسند أحمد مسند علي بن ابي طالب ج2ص71ح642/ سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص94ح3736/ سنن النسائي كتاب الايمان ج8ص115ح5018/

14 – الكلام الغير مفهوم

15 – بأجمعها

16 – بحار الأنوار العلامة المجلسي ج39ص296

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الرصافي المقداد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/01/25



كتابة تعليق لموضوع : ماذا يعني حبّ علي عليه السلام؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net