صفحة الكاتب : مام أراس

التعليم رسالة ،وأمانة وطنية ..رفقا بها...!!
مام أراس

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في عصرنا القديم لم نكن نعرف شيئا عن الدروس الخصوصية ، ولم يكن بمقدور إباءنا ان ((يؤجروا)) لنا معلما أو مدرسا ليؤهلنا لخوض غمار الامتحانات النهائية ، رغم بساطة عصرنا الذي كان الفقر المدقع من أهم صفاته ومعالمه ، فان الأمور أيضا كانت تسير حسب أجوائها ، بحيث لم تكن أمهاتنا تعرف شيئا عن (سندويج) و (همبركر) بل وحتى الفلافل الذي يعود فضل انتشارها للمصريين ،الذين  جاءوا زحفا للمساهمة في الدفاع عن (بوابة صدام الشرقية)إبان الحرب مع إيران ، وجاءوا بها ليس حبا لنا ،بل لمعالجة تقرحات أمعائهم جراء سوء التغذية التي كانوا يعانون منها ، ولكن كنا وإباءنا وأمهاتنا مقتنعين بالتمام والكمال بما ارزقنا الله بها من نعم ،بمعنى لم نكن  نملك حقائب مدرسية  لنحتفظ بها كتبنا وأقلامنا وفي ذات الوقت نضع فيها ما يقوينا على تحمل الجوع أثناء فترة الدوام ، وما هو مثير جدا وأنا استذكر تلك الأيام  هو انه إذا أمتلك أحدنا حقيبة فان الطلبة كانوا يجتمعون حول هذا الطالب ، وينبشون حقيبته ويتأملون مكان القلم والمسطرة والممحاة، ويتبادلون الآراء حولها ببراءة طفولية..

اذن هكذا كانت الأجواء ونحن نجلس على مقاعد صفوفنا  الخشبية  الخالية من مروحة سقفية أو أرضية التي يمكن الاستفادة منها في الصيف ، وكذلك غرفة الإدارة(المدير) وغرفة المعلمين ، ولكن الفرق هو ان غرفة المدير  كانت تحظى  بخصوصية ،  أي بمعنى ما كان للطالب مهما كانت مكانة والده حق في اقتحام هذه الغرفة.. ليقف وجها لوجه امام المدير ليشمر ساعده ويفتح شهية كلامه مثلما نراه اليوم ،حيث غادرت كل الاعتبارات حجمها ولونها بل وحتى مكانتها..!!

في عصرنا القديم لم تسيطر الماديات على العقول بقدر ما كان الإخلاص والتفاني تنافس عقل المعلم واجتهاداته لتقديم ما هو أفضل ، وكثيرة هي المرات التي لجأ فيها معلمنا المتواضع الى غلق باب الصف رغم الانتهاء من فترة الدرس بسبب ان(زيدا أو عمر)لم يفهما الدرس جيدا ،ولابد لهما ان يفهما بوضوح ، وألا سيكون هناك بعد الانتهاء من الدوام درسا إضافيا لهذا الغرض ، وبذلك كان يحرمنا  من فترة (الفرصة) وهي تعني فترة الاستراحة ما بين  الدرسين والبالغة(عشر دقائق)فقط...

في عصرنا القديم عندما كنا نرى معلمنا وهو يمر كسائر البشر بالقرب من حارتنا نختبئ ألا يرانا ، خوفا من محاسبته لنا في المدرسة وخجلا منه، لان مكانته ليست بمعلم فقط بل كان مربيا  جليلا عازم على رعايته لنا لكي لا نخطئ أو ننحرف ، ومن هنا لا أريد أن أتعمق كثيرا في مفردات الماضي البعيد  ، والجميلة بوقائعها في البيت والمدرسة ، لأصف العلاقة بين إدارات المدارس وأولياء أمور الطلبة ، ولكن لا بد لي أن  أشير هنا الى ان مرشد صفنا الأستاذ يلماز خورشيد وهو تركماني من سكنة مصلى  كان صارما جدا في مادته  بحيث انه إذا  دخل الصف طغى الهدوء والسكينة أجواء الصف ، وما كان بمقدور أي طالب ان يحرك شفتيه دون إذن منه ، ولكن ما كان يشرح صدورنا  هو ان نتائج النجاح في مادته تفوق كل التوقعات ،لسنتين متتاليتين كان نسبة النجاح %100 ، و لازلت أتذكر قسمات وجهه الراضية علينا مبتسما حين كان يوزع   أوراق الامتحانات الشهرية   ، وان نعيدها إليه بشرط أن يطلع عليها أولياء أمورنا ويحمل توقيعهم....

ربما يسألني أحدهم في أسباب هذا السرد البسيط  لذكريات قديمنا التعليمي  الذي أصبح شريطا فديويا في ذاكرتنا لا يمحيه الزمن ،رغم مرارة فصولها وأحداثها التي عايشناها و نحن صغارا..ولكي أكون أمينا بمستوى حبي لذلك القديم الذي ساهم فيه المعلم لصقل شخصيتنا بحجم مكانته التربوية أقول لقد دفعني الفضول ان أقارن التعليم اليوم بمستوى تعليم الماضي البعيد الذي كان يفتقر إلى وسائل التعليم اليوم الحديثة ، واضعه في الميزان  لأقارن معلم الماضي   بمعلم اليوم في مجال مهنته التعليمية فقط ، ولا أحشرهما في الفوارق  الطبقية والاجتماعية   ، لقد كان المعلم القديم يشعر بخجل وحرج كبير حين يتجاوز نسبة الرسوب في مادته أمام مدير مدرسته ، بل ويتألم وعلامات الحزن بادية على وجهه أمام زملائه المعلمين ، فكان من الغير الممكن ان يسمع أحدا منه بان الطلبة هم أنفسهم يتحملون السبب ، وللأمانة كان عدد الرسوب في مادة ((الانكليزي))للصف السادس الابتدائي في مدرستنا  ((8)) في عام 1963، حل الغضب بمعلمنا الأستاذ((خلف))وكان عربيا بعثيا واحد أفراد (الحرس القومي) وحث مدير مدرستنا (عدنان رشيد سليمان التكريتي)على قبول فكرة إقامة دروس إضافية للطلبة الراسبين  بلا مقابل وإجبارهم للحضور بهدف تعديل معدلاتهم النهائية لضمان دخولهم للامتحانات الوزارية (بكلوريا)... هكذا كان حرص  معلم القديم و إصراره  على الوفاء لمهنته التربوية ، وحين نحاول ان نقارن هذه الحالة مع حاضر تعليمنا نجدها وبأسف شديد وحزن كبير ان الدرس  الإضافي لم يعد له وجود بل تحول الى ظاهرة التي تسميها العامة بالدرس الخصوصي ، وهي ظاهرة انتشرت على مستوى العراق بسرعة كبيرة ، وقطعت معها سبل محاربتها أمام المعنيين بها ، خصوصا بعد أن أصبحت ضرورة عند الطلبة الذين أمطرت سماء عملية تحرير العراق على إباءهم وإخوانهم دررا وجواهر وأصبحوا  ، بين عشية وضحاها من أصحاب المليارات كرسوها لفساد المجتمع خصوصا  في قطاع التربية والتعليم  ، في الوقت الذي وقع  البعض من مسلوبي الإرادة فريسة لإغراءاتهم المادية التي تجاوزت مليون دينار عراقي للدرس الواحد ، ومن اجلها فتح معلم اليوم باب مطبخه ونظم كراسيه ليتحول إلى صف على غرار صفه المدرسي ولكن بنمط جديد ....فيما بقي الآخرون من أولاد المغضوب عليهم ينتظرون كرم هذا النوع من المعلمين ليبسط لهم الدروس داخل المدرسة مثل ما يبذله لزبائنه الطلبة من جهد داخل مطبخ بيته..!!، ولا يفعلها لان فرصته نادرة لتجارة رابحة ، و لم يكن يتخيلها وقد أصبحت حقيقة  ،و شرع المعلم الجديد أبوابه من أجلها على مصراعيه ليبسط ذكائه ومؤهلاته بضمان نجاح الطالب  ، ويقول بل ويروج لها هل من مزيد...؟؟والمصيبة  الأكبر في دوائر التربية التي تقف متفرجا على هذه الظاهرة التي لا يمكن تفسيرها إلا بالاهانة للتعليم والاستهانة بمكانة المعلم  الذي مجده الشعراء والأدباء بأروع القصائد والأبيات...

ولا زلت أتذكر أستاذي الكبير والمربي الفاضل عمر محمد كريم الذي كان معاونا لمدير مدرستنا وكيف كان يقف كالطود الشامخ أمام باب المدرسة ليتأكد  من سلامة دخولنا للمدرسة ، ولا زلت أتحسس دفء يديه على رؤوس الطلبة عند دخولهم ، وهذا يعني ان المعلم القديم كان يتجاوز بعقليته الفاضلة على ان دوره يبدأ وينتهي في الصف حصرا ، بل كان بمقام الوالد الذي لابد ان يكون قريبا من هموم طلبته ومشاكلهم التي كانت لا تعد ولا تحصى بسبب الأوضاع  المادية والسياسية فيما كان يخصنا نحن الكورد ، والتي كنا في أسوأ الظروف ،حيث كانت جرافات السلطة البعثية تكتسح البيوت الكوردية أمام أعيننا ونحن نراقب مشاهدها من نوافذ شبابيك صفوفنا المطلة على هذه المشاهد ، وعناصر أجهزته القمعية تلاحق إباءنا و أخوتنا ،  نعم أقولها لقد اثبت الأستاذ الفاضل (عمر )صدق مهنيته التربوية العالية من خلال تفانيه وإخلاصه في تدريسنا لمادة العربية  وقواعدها وبأمانة ، والذي مكننا ألآن ان نكتب ونتحدث بل وندخل مع الأدباء والشعراء العرب الكبار في نقاشات حول الأدب والثقافة بلغتهم العربية دون أن نشعر بالإحراج ، وليس كالذي نراه اليوم حيث الطالب لا يمكن له ان يكتب بضعة أسطر لمادة (الإنشاء) مكتمل الجوانب والمعني.وإذا سألته عن ابسط قواعد اللغة العربية وقف حائرا ،بل ولا يعرف شيئا حتى عن الحروف الأبجدية..!!. و ناهيك عن قوته شخصيته داخل الصف  التي كانت جزأ مكملا لدرجته التربوية ، والذي حرص عليها بمصداقيته المهنية  ، باعتبار ان مهنة التدريس والتعليم  هي ليست في بضعة دنانير يستلمها كل أخر شهر ، بل هي اكبر من ان نضعها في ميزان الماديات التي طغت في هذا العصر على كل القيم ومزايا التربية والتعليم ، والتي غدت هذه الأيام وأقولها بأسف إنها أصبحت ظاهرة خطيرة يدفع العديد من الطلبة ضريبتها الباهظة  ، وفيما لو نقارنها  مع الماضي البعيد نجد ان المعلم القديم قد  جعل من مسؤوليته (أمانة تاريخية )غير قابلة للمساومة  ،وانه من غير المقبول التفريط بأوقاتها وساعاتها ، عكس ما نتلمسه في هذا الحاضر التعليمي الكئيب الذي لا يدور حديثه إلا في تدني مستواه بسبب هذه الظاهرة ، و ظواهر انتشار المدارس والكليات الأهلية على أوسع نطاق التي قطعت الطريق أمام التعليم الصحيح بكل جوانبه الوطنية والإنسانية التي حملها الرعيل الأول بأمانة  ، باعتبار ان التعليم هو الأساس في بناء المجتمعات المتمدنة التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور....

ومن هنا أجد في مقالتي فرصة أن أناشد وزير التربية والمعنيين في قطاع التربية والتعليم بضرورة معالجة هذه الظواهر التي لا تليق بالتعليم ورسالته العظيمة التي حرص الأولون على إيصالها بأمانه وطنية دون ان يفكروا أو يلتفوا إلى المغريات اللعينة التي تفسد النفوس  بل وتهدمها ،  

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مام أراس
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/07/05



كتابة تعليق لموضوع : التعليم رسالة ،وأمانة وطنية ..رفقا بها...!!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net