صفحة الكاتب : د . نبيل ياسين

مهرجانات .. صعود المسرة.. ستينات وسبعينات بغداد
د . نبيل ياسين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 لست اترك تلك الذكرى للنسيان . لقد تفتح هناك ، في قاعة الشعر ذلك الحب الذي كان يخفق في الممرات والساحات وقاعات الدرس في الجامعة ، بين جيل من الشباب ، لؤلئك القادمين من أرياف المدن أو من المدن أو من بغداد ليجدوا أنفسهم وقد تفتحوا مثل زهر الربيع العابق بالشذى . حلموا طويلا وهم يسمعون قصائدنا في قاعة الشعر في الجامعة.هتفوا لقصائدنا لأنهم أحبوا أن يحيوا في تلك العاطفة الجياشة التي انطلقت من قلوبهم مثل نبيذ في كأس. هي أيضا ، ندى ، وجدت في تلك المهرجانات الشعرية نشيدها الملحمي الصاعد من معابد البلاد يغني لعشتار وتموز في عناقهما الأبدي من اجل الولادة والخصب في بلاد مابين النهرين . فيما بعد انضم إلى مهرجان الشعر هذا شعراء جاءوا من السجون ومن النسيان , ومن الإرث العراقي الذي أصاب البلاد في ذلك الطور ، ارث الانقلابات والعسكر والأحزاب والدم .

صعد معنا ، نحن الطلبة ، شعراء مثل يوسف الصايغ وعبد الرزاق عبد الواحد ولميعة عباس عمارة وغيرهم. ، تنقلوا معنا من كلية الآداب إلى كلية الصيدلة ، ومن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلى كلية الهندسة، حتى صار الشعر في تلك الأعوام زاد الجامعة. زاد الأطباء والمهندسين والصيادلة والاقتصاديين.زاد جيل من أبناء البلاد الذين بدل أن يصعدوا زقورات بلاد النهرين هبطوا إلى جحيمها السفلى في الاقبية والسجون نهاية الستينات ، خاتمة الستينات الفاجعة كانت افتتاحية لسنوات السبعينات التي ستطلق في بداية مضيئة من التحدي والصعود تيارات جديدة ومختلفة من الثقافة والنمو الفكري سرعان ما ستثير شهية الهراوة التي ستتخندق أمامها لتوقف زحفها البشري المختلط بأحلام وآمال الأجيال الجديدة التي رأت في البلاد ميدانها الحي الضاج بالعنفوان للان تحقق ذاتها وتؤكد عزيمتها على إعادة مجد البلاد ووضع إكليل غار ثقافي على هامة عانت من الخراب والضمور. أكثر من ألف مستمع يحتشدون في قاعة ألحصري, في كلية التربية, التي ستصبح كلية الآداب, فتفسح الممرات الأرضية والممرات في الطابق العلوي بلاطها لمقاعد الدرس التي تسحب من الصفوف إلى الممرات لتنضم إلى لهيب القاعة التي تنشد الشعر وتنشد للشعر . لم يكن ذلك إلا لان روح هذا الجيل قد رفرفت في سماء حلم لم يطل به الوقت. سرعان ما اخذ، على حين غرة إلى ساحات التدريب لينضم إلى عسكر ومدرعات وألغام ومدافع ورشاشات ورمانات يدوية ومصفحات ونجوم لامعة على أكتاف أنصاف متعلمين جاء بهم النظام على عجل ليؤلف منهم جيشا عقائديا بديلا وليخوض بهم حروبا لا تنقطع إلا بعد أن تقطعت أوصال البلاد مثل لحم ذبيحة من ذبائح النذور. . أين أصبحوا؟ أين انزوت تلك النظرات التي كانت تتسرب خلسة إلى عيني فتاة أو إلى وجهها ، على خجل من البوح.أتذكر اؤلئك الطلبة الريفيين الخجولين القادمين على جناحي حلم خجول وهم يسرون إلي حبهم لهذه أو تلك ، وأتذكر رسائل بعضهم التي سعوا إلى أن تصل إلى محبوبا تهم دون أمل، فقد خانتهم شجاعتهم ، وخانهم الخوف من فقدان الأمل ,فظلوا يعيشون على ذلك الأمل الخفي الندي الطري الذي أخذوه معهم ، ربما إلى الخنادق التي سقطوا فيها ،أو السجون التي اعدموا في ساحاتها،أو النسيان الطويل الذي طواهم في ضجة بلاد لم تسمح بنشيد حب أو قصيدة غرام أو أغنية ذكرى :
أكفن صدر الليل بالحزن والرؤى    واجرح صمت الأرض في خطو نشوان
أصوغ لك الأشعار يا نور خاتما            واخفي لك الميلاد في طي أكفاني فبالأمس ماتت في العيون قصائدي  وغادر طير العشق في الفجر أغصاني
في رنة رومانسية وفي بحة جيل يحاول أن يحيل رمل خيباته الماضية إلى ميلاد جديد تصاعد نشيد رافديني في قصائدنا في ذلك المناخ الاحتفالي الحاشد ألطقوسي حيث سيخرج الشعر إلى العالم محمولا على أكتاف التحدي التي واجه بها جيل جديد تحولات ذلك الزمن الساخن. ذات يوم ، في مهرجان عام 1969 ، دخل قاعة الشعر الطلابية تلك ، التي ذاع صيتها ، شعراء مؤتمر الأدباء ذلك العام . دخل ادونيس, وصعد احمد عبد المعطي حجازي معنا ، على المسرح ليلقي قصيدته(هذا هو اسمي). (مرثية لاعب سيرك ). وطلب آخرون أن يلقي ادونيس .واصطف شعراء عرب آخرون هناك. وكأن قيامة الشعر قد بدأت في ذلك المكان الذي سينفى منه الشعر بعد أعوام ويقتصر على خطب طلبة تبح أصواتهم وهم يدعون إلى الحرب وإبادة الآخرين. قبل أن نودع تلك المهرجانات ، ونودع منها تلك الأحلام التي رافقتنا ، بانت علائم سحب في الأفق القريب:
حملت قطارات الحنين مسافتي      فحبوت ادفن في الطريق رثائي
وأنا الذي حمل الفرات بثغره          وسكبته مطرا على البيداء
أخفيت في صمت الشوارع غربتي    ودفنت في جرح المغيب سمائي
 
هل حقا دفن ذلك الجيل سماءه في جرح المغيب الذي شمل سماءنا الأولى ? كيف حدث ذلك ، وفي لحظة من النهار حل انكسار الضوء عائدا إلى النصف الثاني من الكرة الأرضية الذي توقف في بلاد الرافدين ليبقى الليل الذي تخرق صمته المراثي والمناحات وشجى أصوات الندابات في هياكل ذلك التاريخ النابت كالأعشاب المتسلقة على الأطلال؟ كل قصيدة في ذلك المكان .. كانت ندى هناك. تعرف أنها معنونة إليها ، فماذا تبقى مني ، من ذلك الزمان القديم؟ أكاد أضع كهولتي في فنجان قهوتي اليومية لأراها تترجرج في ذلك السواد الطاحن الذي يبدو وكأنه يغطي أعماقا سحيقة من عالم سفلي تحت الارضين السبع التي تكون منها عالمنا القديم . كل يوم أتساءل ماذا تبقى مني ? وافزع وأنا أصيح بصمت وقور : يا إلهي ، من أين لي كل هذا العدد الهائل من الأعداء؟ ;من الذي صنعهم ورباهم وأطعمهم وقوى فيهم غريزة تلك العداوة التي ترفع برقعها منذ أول لحظة ? لقد بقيت زمانا طويلا آخذ نفسي إلى حجرات تحليلي لأرى فسلجتها وسيكولوجيتها وبيولوجيتها وجيناتها واحدث بافلوف وفرويد ومندل واذهب إلى تاريخ نظرية أخلاط البدن وأجرب المزاج الصفراوي والمزاج البلغمي والمزاج الدموي والمزاج السوداوي عليها وكل يوم تظهر نتائج ليست مدهشة ولا عجيبة. لقد بقي هذا الكائن الذي تلبسني يتنقل من مختبر إلى آخر في ظروف متغيرة دون أن يطرأ عليه أي تغيير : الأعداء هم الأعداء يزدادون بعد كل اختبار ويقرعون طبولهم ويهزون بيارقهم ويصيحون صيحة الحرب مشهرين سيوفهم اليمانية ورماحهم الردينية .أما أنا ، فانظر من ميداني وحيدا ، اعزل ، عاريا ، فأدافع بحنجرتي التي كلت على كثرة صيحات الغضب والدفاع عن النفس التي أطلقتها . لقد بدا كل شئ وكأنه يحدث مكررا بطبول وبيارق وصيحات وسيوف ورماح آخرين:
وحده الجسد البشري يقاوم والروح تبتعدُ
وحدَه الجسد ُ البشري يتقدم صوب النهار
وحدَه القلبُ ينبض
وحده الرأسُ يستقبل الضجة الموحشة
وحده الفم يقرأ
وحدها العينُ تبصرُ خيطا من الضوء في الأفق الشاحبِ
وحدها اليدُ تحمل همّاً
وحده العنق يذهب للمقصلة
وحدها الأغنية
وحده كل شئ يذوبُ وينحلّ أبخرة وندى
وحده يتعلم أوجاعه وحده يتلقى المصير الجميل... ( وحده 1976) الأشخاص تبدلوا والميادين تبدلت . لكن ما سبب كثرة الأعداء ؟ شئ ثابت ، كل يوم انظر من اجله في المرآة لأرى هذا الكائن البشري صامتا محدقا في المرآة منتظرا أن تخرج من أعماقها السحرية السحيقة تلك الساحرة التي ستقول : لماذا؟ . ومرت أيام طويلة وأعوام ، وعصور ، ولم تظهر تلك الساحرة التي كنت انتظرها من أعماق تلك المرآة التي كانت مثبتة في محمل الثياب الخشبي الأزرق المزين بلون فضي لزخارف بدائية وبإشكال طيور وطواويس وأزهار, ووجه امرأة بشعر اسود مرجل وعيون سوداء نجلاء ورقبة ظبية تمد رأسها إلى الماء . ظلت تلك الساحرة في أعماق ذلك المحمل الذي تكسر ذات يوم دون أن تخرج منه, فنزلت إلى الأرض وما أزال انتظر أن تأتي إلي لترد على أسئلة كهولتي بعد أن صمتت عن أسئلة عصر طفولتي الذي لم ينته حتى اليوم. كل يوم انتظر ساحرتي ، لتخرج من ذلك الصندوق الذي تصورت فيه العالم السري للتاريخ والكون والمخلوقات والآلهة والسحرة والجن والسعالي والطناطل ومحاربي الزمن السحيق الذين كانوا يذهبون إلى مضيق الجبل ليقتلوا التنين بسيوفهم جالبين معهم رؤوسه السبعة المقطوعة ، ملقيها أمام ذلك الحشد البشري الذي خرج من المساكن المعتمة ليروا ذلك الفارس الذي ما قتل التنين إلا من اجل ساحرته . ساحرته التي تقف مع ذلك الحشد بعينيها الفرحتين وشفتيها المتهدلتين بذلك الشبق الذي لا يفصح عنه ظلام الليل. لقد هبطت من مسرتي ، من تلك الأبراج التي أضيئت بضعة ليال وأنا أقف فوقها مثل اله سومري ينظر إلى مياه النهر تتلألأ تحت أنوار إحدى مدن البلاد المقدسة. كنا قد تفتحنا للتو . القادمون من أزقة المدن وشوارعها وهم يتطلعون إلى الغد الناصع في بلاد يعيش فيها أهلهم وأترابهم, لكن الغد سيطول كما طال بنا الليل.
* فصل من كتاب يعد للطبع بعنوان(أوجاع الوردة. سيرة قصيدة .. سيرة رأي) عن سيرتي الشعرية والفكرية.
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . نبيل ياسين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/07/09



كتابة تعليق لموضوع : مهرجانات .. صعود المسرة.. ستينات وسبعينات بغداد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net