صفحة الكاتب : كامل المالكي

هكذا عشت اليوم الاول لثورة 14 تموز1958
كامل المالكي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
  صحوت كعادتي في ساعات الصباح الاولى في يوم قائض جديد من ايام الصيف وكان بالتحديد يوم الاثنين الموافق للرابع عشر من تموز1958 حيث اعتادت العائلة النوم فوق سطح المنزل هربا من الجو الخانق في الغرف الضيقة التي شيدت بشكل عشوائي وبنوافذ صغيرة وقليلة في حي طيني يقع في  رصافة  بغداد بين منطقتي باب المعظم جنوبا والاعظمية شمالا وقبالة هذا الحي الطيني المكدود الذي اسكنه مع عائلتي وكان يعرف بأسم خان الحاج محسن, يقع حي الوزيرية الراقي بقصوره الواسعة وثرائه الواضح وحدائقه الغناء وشوارعه المعبدة ومازلت  أتذكر من اصحاب تلك القصور في حي الوزيرية  الوزير برهان الدين باش اعيان القريب من المعهد البريطاني والقائد العسكري غازي الداغستاني والشاعر محمد مهدي البصير وغيرهم اضافة الى العديد من سفارات الدول الاجنبية كالسفارة اليابانية التي تقابل الحي تماما وخلفها تقع سفارات تركيا والهند وباكستان وعلى يمينها تقع السفارة المصرية قرب الجسر الحديدي والتي تشغل بنايتها في ايامنا هذه اكاديمية الفنون الجميلة وكنت ادخلها قبل الثورة من غير بابها الرئيس للحصول على صور ملونة للرئيس جمال عبد الناصرولم اكن اتجاوز الثانية عشرة من العمر تلبية لرغبة شباب المنطقة الذين كانوا يخافون من الشرطة السرية التي ترصد السفارة باستمرار, تحركت كعادتي نحو الشارع العام كما كنا نسميه وهو شارع ابي طالب , حينها ذهلت مما شاهدت حيث لم يسبق لى ان رأيت جنودا مدججين بالسلاح وبكامل تجهيزاتهم الحربية بما في ذلك الخوذة الفولاذية التي ارعبتني كثيرا, تسمرت في مكاني وانا اقف خلف الجنود على مبعدة امتار قليلة لاادري ماذا أفعل ولماذا يقف هؤلاء الجند بهذا الحشد الكبير أمام حينا وهم يتطلعون باتجاه منطقة الوزيرية , ولحظة قراري بالعودة الى ادراجي التفت الي احد الجنود بحذر ونهرني بما بدا من حركات يده بانه مستاء من وجودي خلفهم , ركضت خائفا ودخلت  المنزل ذاهلا لاسمع بعد حين كلمات من قبيل  قتلوا الملك , صارت جمهورية 00, في وقت كان فيه المذياع العراقي يذيع وبشكل مستمر نشيد (( الله اكبر )) الذي الهب حماسي بموسيقاه التي كانت غريبة على مسامعي الصغيرة  وهو يردد كلمات مثل المعتدي والمظلوم وغيرها  حينها أدركت السبب الرئيس لوجود هؤلاء الجنود وان مايحدث ربما هو القضاء على الملك واتباعه وان جماعة ما قامت بهذا الفعل غير الاعتيادي بالنسبة لحياتنا في تلك الايام ,تحركت مرة اخرى ولكن بحذر وانا اتطلع الى الشارع ومازال موضوع قتل الملك يحتل مخيلتي , كما ان عملية القتل بحد ذاتها امر مرعب بالنسبة لي كطفل لم يعتد على سماع اخبار من هذا النوع فكيف سيكون وقع الخبر على حينما يتعلق الامر بملك العراق الذي كنا نغني له يوميا في المدرسة 000مليكنا 00مليكنا نفديك بالارواح 00الخ ,تلفت يمنة ويسرة قبل ان تراني أعبر الشارع الرئيس الذي يفصل بين خان الحاج محسن ومنطقة الوزيرية بعد ان انسحب الجنود منه , لاجد نفسي مع مجاميع صغيرة من الناس من مختلف الاعمار تسير مسرعة  على غير هدى  وانا اسير معها داخل المنطقة الراقية حتى وصلنا قرب المعهد البريطاني وقبالة منزل الوزير برهان الدين باش أعيان وقفت لارى  بأم عيني عملية اعتقاله  حيث تم اقتياده من داخل منزله ووضعوه في سيارة عسكرية صغيرة وانطلقوا به مسرعين ’ تذكرت السفارة المصرية وبدأ ت جموع غفيرة تظهر هنا وهناك قادمة من الاحياء والشوارع المجاورة ومن منطقة تعرف آنذاك منطقة ((خلف السدة )) موقع حي الجامعة المستنصرية حاليا أي  خلف السد الترابي وكان يحمي بغداد من الفيضان في تلك الايام وهي متجهة الى باب المعظم واخرى نحو البلاط الملكي الذي يقع في منطقة الكسرة وهو قريب جدا من خان الحاج محسن ويشغل مكانه الآن نادي الضباط الذي اقيم على انقاضه , فيما تتجه مجاميع اخرى نحو السفارة المصرية والجميع في فرح ونشوة واحتفال , اما انا فقد تحركت نحو السفارة المصرية دون ان احسب اي حساب للشرطة السرية 00دخلت باطمئنان من بابها الرئيس مع حشد من الناس دون ان يعترضنا أحد وكان الجمبع  يردد هتافات وكلمات لاافقه منها الشىء الكثير سوى انها كانت تمجد ما يسمى بالثورة انذاك ولكن هذه الهتافات كانت لها دلالاتها لانها تنطلق من حناجر موحدة فرحة جذلى بانتصار هذه التي يسمونها  الثورة ولم يختلف اثنان على ترديدها , شاب يقبل آخر ونساء يطلقن زغاريد الفرح , تساءلت ونفسي ما حقيقة ما جرى كل ذلك لانهم قتلوا الملك وتحولت الملكية الى جمهورية ؟ وكانت الجموع على عجل من امرها وهي تعدو داخل السفارة ولم تمض لحظات حتى جاء شاب يقود دراجة بخارية اخترقت الحشد الجماهيري وبعد هنيهة  خرج السفير المصري وكان منتشيا وهو يلوح بيده للمحتشدين في باحة السفارة التي دخلتها خلسة ذات يوم معبرا عن زهوه وفرحه بالثورة وكان هذا الشاب يسحب خلف الدراجة  صحيفة صدئة وضع داخلها رأس تمثال تم قلعه من جسمه عرفت فيما بعد انه تمثال الجنرال الانكليزي (( مود)) وهو أحد قادة الاحتلال الانكليزي للعراق بعد الحرب العالمية الاولى وصاحب العبارة الشهيرة ( جئنا محررين لافاتحين ) وكان هذا التمثال يقع في جانب الرصافة على رأس جسر مود ( جسر الاحرار حاليا ) الذي يربط بين منطقة الصالحية وشارع الرشيد هدمته الجماهير المحتفلة بالثورة ادانة للاحتلال الانكليزي   بينما انشغل قسم آخر من المحتفلين في الهتاف للثورة والاتجاه نحو منطقة باب المعظم أو العدو باتجاه احدى باصات مصلحة نقل الركاب ( الامانة) التي تحولت الى واسطة مجانية للتجوال بالمحتفلين, مالذي يجري ؟ تساءلت ونفسي كلما تصاعدت موجات الفرح حيث بدات الامواج البشرية تتدفق من كل صوب على شكل مجموعات بعضها يحمل الاعلام الملونة وصور الرئيس جمال والآخر يلوح بسعف النخيل وهذه الامواج اما ان تدلف  الى السفارة المصرية التي بدأت تغص بهم أو يتجهون نحو باب المعظم أو نحو البلاط الملكي في منطقة الكسرة .. بدأت ساعات النهار تتقدم نحو الضحى وفي غمرة تزايد هذه الاحتفالات وتوسعها لفت انتباهي موكب آخر كان قادما من منطقة الكرنتينة ومتجها نحو السفارة المصرية وهويضم اعدادا من المراهقين وصغار السن000 تراهم تارة يركضون رافعين رؤوسهم واخرى ينظرون خلف دراجة نارية اخرى كتلك التي جاءت برأس الجنرال الانكليزي مود يقودها شاب مفتول العضل تفاقمت حمرة وجهه الابيض من شدة الحر وكنت اعتقد ان ثمة تمثال جديد اطيح به ’ تحركت بسرعة نحو هذه الموجة البشرية الجديدة وتحرك معي آخرون ولما دفعتني قطعة من هذه الموجة  البشرية على مقربة من الدراجة  تراجعت وتملكني شعور بالخوف بل الهول مما رأيت ,انها جثة رجل ميت يكاد يكون بلا رأس ولا ملامح وكل ماتبقى مما يحمله الرأس شعر يتدلى من فروته المتبقية اما جسده ورغم تراكم بعض الاتربة عليه فانه كان شديد البياض  , دخل موكب الموت السفارة المصرية لكنه سرعان ما خرج باتجاه الشارع القريب من السفارة وكان المشاركون الذين يرافقون الدراجة التي تسحل الجثة يهتفون بما يشير الى ان صاحب الجثة هو نوري السعيد رئيس الوزراء في العهد الملكي , رغم اني اعتقدت للوهلة الاولى انه الملك الشاب فيصل الثاني ( ملك العراق) ولكني ايقنت بعد حين بان الجثة ليست لنوري السعيد أو حتى للملك الذي سمعت بمقتله عند الصباح   , ولكنها بكل تأكيد لاحد العاملين في قصر الرحاب  الخاص بالامير عبد الاله الوصي على عرش العراق وهو خال الملك , ثم مالبث ان ابتعد المتظاهرون بالجثة الى مكان آخر, وحين عدت الى الخان شاهدت حشدا من الشباب يتجمع قبالة المنزل وهو يتزاحم للنظر الى صورة مطبوعة بحجم مجلة او يزيد قليلا وباللون الاسود والابيض , اعتقدت للوهلة الاولى بانها قد تكون صورة جمال عبد الناصر , حشرت جسمي الصغير بين الحشد الذي يتطلع بشغف الى الصورة واشرأب عنقي لكي ارى صاحبها فشاهدت صاحب الصورة رغم ان احدهم حاول منعي من مضايقته واذا به رجل عسكري يحمل رتبة عسكرية لاأفقه كنهها وبدا شعره غير مرتب وعيناه مفتوحتان على وسعها بما ينم عن رهبة وحذر شديدين ولم افلح بقراءة اسمه المدون تحتها رغم انه طبع بالخط العريض لكثرة تلقف الصورة من قبل الشباب وبعد برهة سمعت منهم بان صاحب الصورة اسمه الزعيم (( عبد الكريم قاسم )) وهو قائد الثورة  ثم مالبثت ان قرأت الاسم جيدا, الكبار منهم كان يقبل  تلك الصورة والآخر يرفعها عاليا ويهتف بحياته , وتساءلت ونفسي هل  هذا  هو الرجل الذي قتل الملك ؟او هو قائد الجماعة التي قامت بتنفيذ ما سمعت عنه وهو( الثورة )؟ , ولم تمض لحظات حتى انطلق الحشد من سكونه حاملا تلك الصورة وهو يعدو باتجاه منطقة باب المعظم وانا اعدو معه علني اكتشف المزيد عن كنه هذه الثورة,وكلما مررنا من شارع ينظم الينا آخرون وحين وصلنا قرب سجن الموقف المركزي الذي كان يقع قبالة مقبرة الشهداء واقيمت على انقاضه وزارة الصحة الحالية المحاذية لجسر باب المعظم من جهة الرصافة انحرف المتظاهرون باتجاه مقبرة الشهداء وقد بدا قسم منهم دون ملابسه العليا بل راح بعضهم بخلع تلك الملابس التي كانت تبدو كأنها قد غمست بالماء من شدة الحر والقيض والعرق المتصبب وراحوا يلوحون بها وأقاموا احتفالية لم اشهد ها من قبل , كيف لا وتموز يصب جام غضبه بعد ان انتصف النهار واصبحت الشمس عمودية حارقة , أي احتفالية هذه التي تقام بين المقابر ؟, لقد هزتني هذه الحادثة بل انها النار التي الهبت رجولتي المبكرة  وأوقدت حب  الثورة في داخلي وبدأت العاطفة تتدفق من عيني دموعا بريئة بكت لحالهم تأثرا وهم يخاطبون الشهداء في مراقدهم بين القبور المتناثرة حاملين صورة الزعيم  وهاتفين بأعلى اصواتهم بما يشبه الاهزوجة (( ياشهداء الجسر جينه انبشركم  عبد الكريم قاسم حرر وطنكم )) وهذا كل ماتذكرته من تلك الاهزوجة وربما اثرت بي هذه المقدمة وظلت عالقة في ذهني  , ايتها الدموع من  اين بدأت منابعك ؟هل من الفقر والبيوت الطينبة أم من الجوع والعوز الذي يلف قبور الاحياء ؟ ام بسبب الساكتين على ضلمهم رغم جوعهم ؟  , وحينما كنت مبهورا بهذه الواقعة علمت فيما بعد ان هذه المقبرة تضم رفات شهداء الجسر العتيق في وثبة كانون اي جسر الشهداء الحالي الذي يربط منطقة الكرخ باسواق بغداد الشهيرة كسوق  السراي لبيع الكتب وسوق االقماشين وسوق العطارين ( الشورجة ) وغيرهما والتي هب فيها الشعب عام 1948 ضد النظام الملكي ومعاهدة بورت سموث عندما اراد  النظام توقيعها مع المحتل الانكليزي لكن الشعب بوثبته ودماء شهدائه افشل مساعي النظام وابطل توقيع المعاهدة , وكلما كانت تتعالى اصوات محتفلي المقابر كانت تتلاشى احيانا لحظة مرور مجاميع اخرى محتفلة على طريقتها وهي تقطع الشارع راكضة هاتفة فرحة بهذا الحدث العجيب الذي لم أحض بمثله من قبل لا في الافراح ولا في الاحزان ولا اعلم الى اين تتجه , وكم حدثتني نفسي ان اغادر مجموعتي لانضم الى مجموعة اخرى اكثر تنظيما وتنوعا في مظاهر الفرح 000 وحين انفض محتفلو المقابر من احتفالهم  سلكوا الطريق باتجاه ساحة باب المعظم التي تحيط بها قاعة الشعب المعروفة وتقابلها دائرة مصلحة نقل الركاب  وكانت كلما تأتي مجموعة من المحتفلين سرعان ماتضيع أو تتلاشى بين الحشود البشرية الهائلةالتي بدأت تتجمع لتمارس احتفالاتها العفوية قرب وزارة الدفاع المجاورة لقاعة الشعب  حتى بدت تلك الجماهير وكانها بحر متلاطم الامواج , اما انا فقد انصهرت بين الجموع ولم اعرف اين اصبحت مجموعتي بل تحول الحشد باكمله الى مجموعة هائلة جديدة شعرت بالانتماء اليها طالما انها وصلت بنفس الطريقة التي وصلت بها ولنفس الهدف وهو الاحتفال بانتصار الثورة التي يبدو انهم يحبونها حد العشق وكان أخي يحبها ايضا فمن الضرورة ان احبها انا ايضا وان احتفل بها احتفالا طفوليا ولكن على طريقتهم , لم يكن الاحتفال منظما أو معدا مسبقا والجميع كان يحتفل ويهتف ويغني او ينشد الاناشيد ويطلق صيحات الفرح على طريقته وانا استمع الى الكثير مما يقولون , وكان مايقولونه بحق الثورة يتردد نفسه على مسامعي طوال الطريق من منطقة خان الحاج محسن وحتى باب المعظم , بدات الامواج البشرية تتزاحم أمام مقر وزارة الدفاع حيث يتواجد الثوار وقائدهم صاحب الصورة اياها (الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ) فوجدت نفسي امام بوابة الوزارة العريضة والشاهقة وبدا المنظر امامي مهيبا من خلال جمال الريازة والمدافع العسكرية الرمزية المنصوبة في مقدمتها اضافة الى مجاميع من العسكريين من ضباط وجنود وهم يقفون حاملين اسلحتهم ويبتسمون للجماهير بفخر من حقق انتصارا وهدفا من اجل هؤلاء المحتفلين , هكذا كان انطباعي الاول ولكن حركة الجماهير بدأت تتصاعد كما بدأت تتنوع الشعارات والهتافات , وهنا مازلت أتذكر بان ثمة اختلافا لاافقه عنه الشىء الكثير بدا يطفو على بحر الا حتفال حيث بدات بعض الامواج المحتفلة تطلق هتافات عن أمر ما ثم تقوم موجة اخرى بالرد عليها 00 عندها احسست احساسا طفوليا عجيبا لن انساه ما حييت وربما كان هو الشرارة الاولى للاختلاف الوطني وعدم اللجوء الى لغة الوحدة والاخوة والاتفاق 000 ايها الحزن القادم من وراء المجهول لقد اوجعت هذا القلب الصغير الذي كان فرحا منذ ساعات الصباح الاولى ونحن الآن تحت رحمة ساعات الظهيرة القاسية لماذا هذا الاختلاف بل من اين اتيت ايها الحزن ؟ هاهم يحتفلون في يومهم الاول فلماذا استعجلوا الاختلاف 0-000 انسحبت مع مشاعر حزني وحدسي الطفولي وانا لااعرف الى اي الفريقين انضم ومن هو الفريق الذي على حق فيما يقول , ووقفت اتطلع عن بعد وقد تدنت عزيمتي كثيرا وانا اترقب ما يحدث وفي هذه الاثناء سمعت بان حشودا من ابناء الشعب ذهبت الى قصر الرحاب حيث مقتل العائلة المالكة ومعها خال الملك ( الوصي عبد الاله ) , خطر ببالي منزل شقيقتي حيث تسكن قرب قصر الرحاب في حي سكني طيني هو الآخر يعرف باسم ( قرية ضباط  الصف  ) وهو موقع منطقة القادسية ومبنى مستشفى اليرموك , وهذا الامر شجعنى على ان أواصل مسيرتي الى قصر الرحاب العامر كما كان يسمى في الاعلام شانه شأن قصر الملك القريب منه وكان يسمى قصر الزهور العامر , وقصر الرحاب هذا نفسه تحول الى ماعرف بقصر النهاية التي كان يعذب فيها المناوئون لسلطة حزب البعث الحاكم عام 1968 وما بعدها ثم اصبح يعرف بمبنى المخابرات العامة حتى الهجوم عليه من قبل المواطنين بعد دخول قوات الاحتلال الامريكي الى بغداد وتحطيمه واحراقه والاستيلاء على وثائقه واطلاق سراح مسجونيه , اما قصر الزهور فقد تم الحفاظ عليه الى يومنا هذا ولم يتعرض الى اي طارىء  رغم ان القوات الامريكية قصفت القصر الرئاسي الذي انشىء الى جواره بشدة قبل دخولها بغداد في 9/4/2003 , لاأتذكر كيف قطعت المسافة من منطقة باب المعظم الى منطقة الحارثية قرب ساحة النسور الحالية مرورا  بالقرب من معسكر الوشاش الذي ساهم جنوده بالثورة  والذي اقيم على انقاضه متنزه الزوراء الحالي  هل مشيا على الاقدام أم بالاستعانة بباصات الامانة المجانية ولكني وصلت على اية حال , ومن فوري دخلت قصر الرحاب الذي بدا لى مستباحا من كل شىء , وحين دلفت القصر لم المس باني دخلت قصرا منيفا عاليا مهيبا من قصور الملوك التي نسمع عنها او تلك التي كنا نشاهدها في الصور والافلام السينمائية التاريخية والتي تتميز بالقلاع والقاعات الفخمة بل بدا لي بيتا اعلى وأوسع قليلا من بيوت بغداد الحديثة رغم مايحيط به من حدائق غناء تحولت بفعل القصف المدفعي والرمي بالرصاص الى خراب وحين مددت يدي الى ارض احدى غرف القصر لاتفحص ماتحت التراب لم احض الا بكومة رصاص وقد ملات راحة يدي وكلما عاودت الكرة لم اجد غير ذلك الرصاص الذي يبدو وكأنه قد اطلق على قوات عسكرية كبيرة كانت محاصرة فيه وليس عائلة من بضعة رجال ونساء ومعهما الملك وخاله الوصي وبعض الخدم وحينما تفحصت المكان وجدت ماكنة لقص العشب( الثيل ) من الحدائق ولاادري لماذا هي داخل القصر أما عدا ذلك فقد بدا القصر خاويا من أي شىء آخر وتم نهب جميع محتوياته على الاغلب لاني بعد ان وصلت منزل شقيقتي علمت بأن بعض الاواني والحاجيات البسيطة كانت وصلت الى قرية ضباط الصف التي تسكنها  , اما بقية مناطق بغداد التي مررت بها فقد كانت زاهية بالاحتفالات ولم تتعرض ممتلكات الناس او الدولة الى اي نهب اوسطو رغم اختفاء أفراد الشرطة المحلية وغيرهم تماما من الشوارع خوفا من غضب الجماهير لارتباطهم بعمليات القمع الذي كانت تمارس بقسوة ضد المعارضين للنظام , والملاحظ ايضا انني حينما كنت اتجول في بغداد لم اشهد حشودا عسكرية ضخمة من المدافع أو الدبابات ولم اسمع ازيزا مرعبا للطائرات ولم تكن هناك حواجز عسكرية وكل ماشاهدته اولئلك الجنود عند ساعات الصباح الاولى وقد انصرفوا بعد حين , وحتى حينما دخلت قصر الرحاب لم يمنعني احد ويبدو ان العسكريين المكلفين بالهجوم على قصر الرحاب قد انهوا مهمتهم وانصرفوا الى ثكناتهم تاركين الدورللامواج البشرية الهائلة التي غصت بها شوارع بغداد وهي التي انجحت الفعل الثوري . ثم سمعت بان جثة الامير عبد الاله الذي قتل امام بوابة القصر مع افراد العائلة المالكة عند الصباح مازالت معلقة على واحد من أعمدة جسر الشهداء ربما انتقاما لمقتل عشرات الشهداء على هذا الجسر في وثبة كانون عام 1948 , دفعني فضولى للعودة  ومشاهدة الوصي على العرش معلقا ’ لكني حين وصلت لم اشاهد شيئا وقيل انها نقلت من مكانها وهي معلقة الآن أمام وزارة الدفاع في باب المعظم ولم اجدها , وخطرت ببالي السفارة المصرية وتحركت باتجاهها ومازالت الاحتفالات الشعبية على اشدها وصلت مكانا قريبا من  الجسر الحديدي حيث تقع السفارة على مبعدة امتار منه فوجدت حشدا من الناس يتجمهرون وسط الشارع الاسفلتي وكانت حرارة الشمس قد بلغت اوجها من القسوة والشدة بحيث لاتستطيع الوقوف تحتها بضع دقائق , لكن هؤلاء المتجمهرين وجلهم من الشباب صغار السن لم يعبأوا لقساوة الشمس وبدوا كأنهم يحتفلون على طريقتهم الخاصة في حالة من حالات الانفلات الشديد وحينما اقتربت منهم كانوا يحيطون بشىء ما على شكل دائرة , وقد تملكتني الدهشة حين وجدت جثة بدت لي ضخمة وكانت هي الاخرى بلا ملامح سوى ما تبقى من شعر ينسدل على الارض, وهم البعض بفك رباطها من دراجة بخارية كانت تسحلها عبر الشوارع فعلمت بانها جثة الوصي عبد الاله ’, وبعد لحظات وصلت سيارة عسكرية نزل منها عدد من الجنود في حين تفرق اولئك الشباب  وبادر الجنود الى رفع الجثة ووضعها في السيارة التي انطلقت مسرعة الى مكان مجهول . ثم سمعت بعض الاقاويل المتضاربة بشأنها , فبعضهم ذكر بانها رميت في نهر دجلة القريب من الموقع وآخرون اشاروا الى دفنها وانا ارجح الاحتمال الثاني لدفنها في مكان مجهول لتفادي اعادة سحلها او ماشابه .  اما الملك المسكين فقد نقل جريحا الى مستشفى المجيدية الحكومي ( مدينة الطب لاحقا ) لكنه فارق الحياة متأثرا بجراحه الشديدة كما سمعت من أخي وكان مجندا في القوة الجوية في حينها وشاهد عيان وكان له دور ما, وهذا يعني ان السلطات العسكريةالمسؤولة الجديدة حاولت انقاذه لكنها لم تفلح  , والوحيد الذي نجا من الموت من الحكام المطلوبين من الثوار في البداية كان رئيس الوزراء نوري السعيد بينما قتل ابنه البكر (( صباح )) كما ذكر لي اخي على يد أحد منتسبي الجيش العراقي الذي سمعه وهو يقول انا ابن نوري سعيد , وكان صباح وهو أحد شقاوات بغداد يسب ويشتم الثورة والثوار فعاجله بعدة رصاصات جعلته يتخبط في دمه  , ليتحول هو الاخر الى مشهد ثالث من مشاهد السحل في بغداد ومازلت اتذكر مجموعة الشباب التي كانت تقوم بعملية السحل وهي  تنادي باسمه خلال ذلك المشهد قائلة (( هذا صباح القواد )) عدا هؤلاء لم يسحل من افراد العائلة المالكة سوى الوصي عبد الاله خال الملك وان جميع الذين قتلوا من افراد العائلة المالكة بما فيهم الملك تم دفنهم في المقبرة الملكية في الاعظمية وما اشيع عن سحلهم مجرد ادعاء  لاأساس له كما ان جثة نوري السعيد هي الاخرى لم يجر التأكيد على سحلها.بعد ان راح المذياع يطالب المواطنين بالقبض على رئيس الوزراء الهارب من بيته في منطقة كرادة مريم على ضفة نهر دجلة الغربية الى مكان مجهول ثم مالبث ان تم قتله وسط بغداد وسمعت من أخي وهو يحدث والدي , بأن السعيد كان متخفيا تحت عباءة نسائية حين جرت محاولة القبض عليه ولا أتذكر هل تم سحله هو الآخر أم ان القوات العسكرية قامت بدفنه , لكن بقتله شعرت بالاطمئنان على الثورة الجديدة التي يحبها الناس خاصة وان اخي كان قلقا للغاية خلال ايام اختفاء رئيس الوزراء ربما لدور خطير يمكن ان يلعبه في حالة الافلات من قبضة الثائرين والهروب خارج العراق والاستعانة بقوات اجنبية وقفت على اهبة الاستعداد في لبنان وغيرها للانقضاض على الثورة وهي في مهدها , لكن المد الجماهيري العارم الذي اجتاح بغداد مساندا للثوار وعملية انقضاضهم على النظام اكسب الثورة شرعيتها واكد انتماءها الى ضمير العراقيين الذين كانوا ينتظرون يوم الخلاص على ما يبدو بفارغ الصبر , وان اي قوة في العالم ماكانت لتستطيع دحر الثورة وقد التف حولها الشعب صانع ثورة تموز ومفجرها الحقيقي لتتواصل هذه الثورة في  عملية بناء حقيقية على كافة الصعد بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم وعلى مدى اربع سنوات وبضعة اشهر قبل ان تسارع قوى الظلام الى وأدها في يوم كالح  كان اسمه 8 شبط الاسود عام 1963.
   
 
* الموضوع : ملخص لفصل من رواية للكاتب تمثل سيرة ذاتية على مدى خمسة عقود لم ينته من كتابتها بعد
 
 
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كامل المالكي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/07/12



كتابة تعليق لموضوع : هكذا عشت اليوم الاول لثورة 14 تموز1958
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net