أخلاقية الصبر في القرآن
محمد قاسم الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد قاسم الطائي

يستعرض القرآن في العديد من آياته الكريمة أن مسيرة الانسان المؤمن لن يكتب لها الفلاح والفوز والنجاح الأكيد مالم تتسم شخصيته الإيمانيّة بأخلاقيّة الصبر، وهو على ثلاث مستويات: صبر السلوك والأخلاق، وصبر العقيدة وصبر العبادة؛ الصبر لغة ضد الجزع، وأصلُ الصَّبرِ الحَبسُ والمَنع، والصَّبرُ: حَبسُ النَّفسِ عنِ الجَزَعِ، وقيل: أصلُ الكَلِمةِ مأخوذ مِنَ الشِّدَّةِ والقوَّةِ، ومِنه الصَّبرُ للدَّواءِ المَعروفِ؛ لشِدَّةِ مَرارَتِه، وقيل: مَأخوذٌ مِنَ الجَمعِ والضَّمِّ، فالصَّابرُ يجمَعُ نَفسَه ويضُمُّها عنِ الهَلَعِ والجَزَعِ، ومِنه قالوا صُبرة الطَّعامِ، والتَّحقيقُ أنَّ في الصَّبرِ المَعانيَ الثَّلاثةَ: المَنعَ والشِّدَّةَ والضَّمَّ[ يُنظر صحاح الجوهري ولسان العرب]، وإصطلاحاً: هو حَبسُ النَّفسِ عن مَحارِمِ اللهِ، وحَبسُها على فرائِضِه، وحَبسُها عنِ التَّسَخُّطِ والشِّكايةِ لأقدارِه، ثم يُقسَّم إلى ثلاث مراتب صبر على الطاعة، وصبر عن المعاصي والمنكرات، وصبر على المكاره والابتلاءات، وهو من أجل المقامات عند أهل المعرفة والسالكين، الصبر مثابة المُحرِّك للخيرات والطاعات والدرع الحامي من مخاطر المهالك والجزع، تنوعت الآيات الكريمة على أنحاء عديدة تجاوزت السبعين آية في مادة الصبر، خُلق الصبر مفتاح الظفر والفلاح، وبحسب كلمة أمير المؤمنين: عليه السلام" لن يعدم الصبور الظفر وأن طال به الزمان"، الصبر تلك الطاقة الخفيّة المكنوزة التي تمنع الانسان من الإنهيّار والسقوط والمهلكة، ومن اللطيف أن المولى في القرآن يأمر بالاستعانة والاستقواء بالصبر والصلاة على حدٍ سواء، ثم هذه الاستعانة تنتهي عاقبتها بمعيّةِ الله تعالى مع الصابرين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة: 153] وعاقبة الصبر تختلف بحسب المورد تارة تنتهي بالنصر والفوز والنجاح من قبيل قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [ سورة آل عمران: 200] وتارة أخرى سبب للمغفرة والأجر الكبير، قال تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [ سورة هود: 11] أخلاقية الصبر لن تكون أخلاقية مالم تكن ملكة نفسية وسجيّة باطنية اعتاد عليها الانسان في حياته ونشاطاته اليوميّة.
وبتعبير علماء الأخلاق الخُلُق حالة للنفس داعيةٌ إلى أفعالها من غير فكرٍ ولا روية، مسيرة الانسان من دون خلق الصبر مُكلفة ومتعبة، قد تنتهي بمصير الإنسان للهلاك والانتحار إذا ما فُقد صمام الصبر والإيمان، بل كان بعض الصالحين يعدّها علامة مميزة لإيمان المؤمن قال: « ما كنا نعدُّ إيمان الرجل إيمانًا إذا لم يصبِر على الأذى»؛ وهذا هو سر مقولة الحديث أن الصبر من الايمان بمثابة الرأس من الجسد، ولا خير في الجسد بدون الرأس، كذلك يفهم من لسان بعض الآيات أن مراتب الانبياء ومقاماتهم في التفاضل والدرجات العالية على أساس الصبر: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[سورة يوسف:90]، ونفس أخلاقيّة الصبر لها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب منازل الصابرين، فقد صنّف بعض أهل المعرفة : « أن أهل الصبر على ثلاث مقامات : الأول : ترك الشكوى ، وهذه درجة التائبين، الثاني : الرضا بالمقدر، و هذه درجة الزاهدين، الثالث : المحبة لما يصنع به مولاه ، وهذه درجة الصديقين» وقد ورد عن عبد الله بن عباس: أن «الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء فرائض الله - تعالى- فله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله - تعالى - فله ستمائة درجة، وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة» [جامع السعادات ج2-ص442]
بل القرآن يؤكد أن المعيار في دخول الجنة على أساس أخلاقية الصبر والمجاهدة تلك التي حصلّها المؤمن في دار التكليف الدنيا، قال عز اسمه:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران:143] وقال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، ومن اللطائف القرآنية الرائعة أن البشارات لأهل الجنة المؤمنين والثناء عليهم خصتهم جزاءً بما صبروا على مكاره الدنيا ومشقاتّها، بل أن عاقبتهم الحميدة كانت بسبب خصلة الصبر، وهكذا تلقي الملائكة عليهم التحيّة والسلام إثر هذه المزية العظيمة قائلين: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)، وبهذا المعنى أيضاً قال المولى عز وجل بحقهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat