الظلام مطبق في كلّ الإرجاء ، والوحشة متمركزة حول مشهد كانت عيناه تلتقطان صورة الوحش الذي يتحرك بسرعة ومشوشة في أغصان السدر وسعف النخيل ، في حينها كان يتصاعد معه عواء الريح المخيف في دائرة نظره ، تنفتح عيناه ؛ لترى الأشياء تترجرج ، وقد ازدادت شيئاً فشيئاً ، واستمر العواء ؛ ليشتد به الخوف والتنفس السريع بتنهد عميق ، إذ يرى الليل البهيم يدنو منه هبوطاً على حسرات غابات النخيل .
النهر من أمامه موغل في الظلام سوى انعكاسات الأشعة القادمة من نور القمر حول انكسارات الماء ، أما أشجار النخيل فخلفه معتمة ، يتشظى من السعف في كثافته أصوات متضاربة ومطعمة بحفيف متصاعد تدريجياً.
لم يهداً قلب " سعيد " إذ تتسارع نبضات قلبه ، يجرّ أنفاسه ، وهو يحرس جانب السدة في نطارته المعهودة خوفاً من اقتحام الماء المتعالي بقوته وجريانه ذلك المكان ، اعتاد الناس في نطارتهم الليلية أن ينشغل أحدهم بآلة الصيد ( الفالة ) عند مجاري المياه القريبة من فتحات النواظم المغلقة إذ يتواجد السمك بالقرب من تلك الفتحات بسبب المياه النابعة بفعل الماء الطافي فوق نهر الفرات في موسم( الموح ) وعندما يرجع النطّارة إلى محل سكناهم يجلبون إلى عوائلهم أرزاقهم في كلّ يوم من السمك عند الصباح الباكر يكون قوتاً ليومهم ومعاشاً يتربحون منه في السوق هكذا دأبهم ليلاً وتجارتهم نهاراً .
لكنّ " سعيد " كان وحده يقوم بعمله وحراسته ، هكذا اعتاد في كلّ ليلة وهوطيلة حياته لم يصبه شيئاً من الهلع إلا في هذه الليلة التي سرقت الراحة من عينيه .
يموت الظمأ في بلعومه ، وتتحشرج حنجرته في لحظة سماعه تلك الأصوات القادمة بأنفاس ملتهبة كأنّها أشباح خرجت من عالم سفلي والتفت حول أغصان السدرة الملتفة حول نفسها ، إنّها مثل شجرة الأرائك بكثافته أو أنّها غيمة سوداء بارقة راعدة في آن واحد ، يمرق النظر فلا يجد شيئاً ، إنّه الألم والخوف والحزن والوجع الشديد الذي يزيد الشعور اختناقاً كونه يخترق شغاف القلب ، ليسرع في دقاته بلا هوادة .
لم يعرف " سعيد" ذلك الفتى المؤمن الصبور أنّ الشبح هو نفسه " الطنطل " الذي يتلون بأصواته وحركاته ؛ ليرهب المارة المسافرين والقادمين إلى منازلهم بعد منتصف الليل فيصيبهم بالجنون ، وربما يسلب منه ( شماغه ) أو(كوفيته ) أو( عقاله ) ، فيجد الناس تلك الأشياء ممزقة ومعلقة في أغصان السدر أو سعف النخيل أو عند حافات المياه ملطخة بالطين كأنّ هناك يد إنسان ما قد عبث بها متعمداً ، وهو في أسوء حال من الحيرة والدهشة أو يصيبه جنة لا دواء لها إلا بالأوردة والحجابات القرآنية عند ( فتّاح فال ) أو عرّاف القرية .
إذ كان البحارة والصيادون يسمعون تلك الأصوات ورمي الأحجار عليهم من بعيد ، وتأتيهم من خلف أشجار السدر ونواظم المياه والنخل الكثيف ، تتكاثف الأصوات ، فيشعرون أنّهم يرجمون بها ولا يدركون سرّها ، حكايات كثيرة في مثل هذا المسبار الملتوي بحسب التواءات الأنهر وينابيع الماء الجارية يتقلب فوقها الأسماك المزخرفة فيظن الصياد أنّه الرزق الوفير ، وقد نزل من السماء فيقذف آلته الحديدية ذات خمس شعب مسننة في عمق الماء كأنّها رمح فلا يصيب شيئاً إذ تختفي بسرعة فيشعر أنّها كالسراب للرائي في الصحراء ، يستغيث بها فتتلاعب في عمق الزورق أشباحاً ملونة في هيئة الأسماك ، فيفرح بها لكن بلا جدوى لا تصل أنامله إليها .
بعد دقائق من منتصف الليل اقتحم أذنيه همس وليد ، ووقع نظره فجأة عليه وأدار وجه الشاحب على طائر خائف مبلل كان أنيساً له في تلك الليلة ، لشدة الظلام يميل إلى البياض و قدغمرته راحة جميلة وتمتم بدعاء شاكر ؛ ليغفو على سجود طويل بدموع حرى وصوت خافت وقلب خاشع إلى حين انتشار الضوء الأبيض ، بعدها نظر إلى الطائر فلم يجده ، فشعر أنّ الأنيس في منتصف الليل جاء بحكمة الكائن الأنيس ؛ ليذهب شبح الخوف التي تسلل إلى أعماق نفسه ذلك الشبح المخيف الذي كان يسكن كلّ سدرة كانت سامقة على سدة شاطئ الفرات وعند كل ناظم قديم يسمى بـ( كسرة ماء ) في السدة الترابية المعروفة بـ( الطوفة ) وفوق كل نخلة تسمى بـ( الفحل ) .
عاد " سعيد " إلى بيته قبل طلوع الشمس بلا قوت يومه ولم يحمل معه سوى قصة الطائر الأنيس علّها تأخذ أثرها في نفوس أولاده ، فتصبح أرثاً يتناقلونه جيلاً بعد جيل في ساعة من ساعات مسامراتهم الليلية .
________________
*ورد في القصة بعض المفردات الدارجة في اللهجة العراقية :
( الفالة = آلة صيد حديدية ، الموح = موسم الفيضان ، الطنطل : تسمية للجن الشائعة في جنوب العراق ، الشماغ والكوفية والعقال = زي الرجل المتعارف في الجنوب ، فتّاح فال = المستخير بالفأل ، كسرة الماء = ناظم الماء ، الطوفة = سدة ترابية على شاطيء الفرات لوقاية المدينة من الفيضانات الموسمية، الفحل = ذكر النخيل الحامل لحبوب اللقاح )
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat