صفحة الكاتب : عمار طلال

نهار مهترئ بالمثقفين والكتب
عمار طلال

 مشيا على الاقدام كعادتي في النزهات، مارست استجماما هندسيا، صباح الجمعة، اسبح عائما، في لجج المعرفة، موجة كتاب عالي البهجة، وسورة نص يغرقني في الحزن.
يتحدد ضلعا شارع المتنبي، بزاوية، مع سوق السراي.. سراي الحكم العثماني، المعادل لـ (المنطقة الخضراء) الآن.. من دون تشابيه.
سمي سرايا؛ لانه حكومي.. رسمي، مرتبط بالدولة، منذ كانت خلافة عباسية، تفتتت الى دويلات متناحرة، كقرون ثيران تتناطح حول بقرة شبقة في موسم التسافد.
العراق بقعة منفلتة؛ لم تطالها يد المماليك، لبعدها عن ارض الكنانة مصر؛ فظل منفلتا الى ان التهمته الدولة العثمانية.
عند شاطئ نهر دجلة، تهاديا من الباب المعظم، الى الميدان، عبر شارع الرشيد، دلفت نافذا الى المتنبي.. الشارع وليس الشاعر!
مرددا:
هل غادر الشعراء من متردم
ام هل عرفت الدار بعد توهم
هلا سألتِ الخيل يا ابنة مالك
ان كنت جاهلة بما لم تعلمِ
بيت شعر قاله عنترة العبسي منذ اكثر من الف وخمسمائة عام؛ فماذا بقي من شارع المتنبي، لم يستهلكه الادباء والصحفيون والتشكيليون وكاميرات الفوتوغراف والتلفزيون توثيقا؛ يوجب الانتباه الى مناطق ذوقية صغيرة اغفلتها عين الرصد الصحفي والتأمل الادبي والدهشة الفنية.
قبل الوصول.. مشيا على الاقدام.. الى شارع المتنبي صادفني بائع خردوات، لا اظنه يبيع، وهو نفسه لا ينتظر من احد ان يشتري: بطانية قديمة لبدت عصيات السل في نسيجها وفردة حذاء وسخة وطبق المنيوم تشققت حواشيه بفعل القدم وعربة دفع يدوية تهرأ خشبها؛ وراح يئز مع كل هبة نسيم خفيفة، قد لا تحرك قشة من موضعها على الثرى، صباحا، وقمجيات مقززة.. خراطيم شاهت.. كالافاعي.. عن اراجيلها، تسعى.
من ذا الذي يحتاج تلك المهملات فيقتنيها!؟
راع يسوق بضع غنمات.. صغيرة وجميلة ومعافاة.. المنظر الوحيد الذي يسر الناظر في صباح هذه الجمعة، يهش عليها بغصن بان، يحثها على الاندفاع الى وسط ساحة الميدان، يشاكس السيارات التي تنعطف طائعة خباله.
ورهط من (همرات) الجيش امام مبنى (كان) وزارة (بلديات) قبل ان يفجره الاهابيون لينالوا من د. عادل عبد المهدي.. نائب رئيس الجمهورية، قبل ان يستقيل، نجا واستشهدت صديقتي.. واعز من اختي.. المهندسة نداء عودة.
تكررت البسطات غير المبررة، تسوقني مثل اغنام الراعي المشاكس، الى التساؤل:
-          هل ثمة مشترون يتبضعون سقط المتاع هذا؟
اجاب بائع بلهجة بغدادية قح:
-          الله وامان الله ماكو مشترية.
مرتجيا مني منفعته بالشراء؛ فـ...
يتحدى المثقفون الموت، ببعث الحياة في شارع المتنبي صباح كل جمعة، لهم خصوصية مستترة مع المكان لا تبوح باسرار الحماقات الجميلة التي ترتكب خلف جامع الحيدرخانة على الجهة المقابلة لـ (المتنبي) من شارع الرشيد.
ثمة ما لم يألفه سواهم من التأملات الهوجاء.. تأملات غير منتظمة في سياق معنوي.. دهشة لا مسماة.. انهم يندهشون بالفراغ، يرى المرء دهشتهم، لكنه لا يرى مم يندهشون ولماذا.
يتهيأ القادم الى (المتنبي) منذ ساحة (الميدان) او (الرصافي) من الجهة المقابلة، لرائحة الكتب المعتقة كالنبيذ، لكنه يصطدم باحدث الطبعات تبدد نكهة المتنبي.
سوق السراي وشارع المتنبي افشيا اسرارهما؛ فقد اشترى احد القصاصين حذاءً من المتنبي وليس كتابا؛ ما يعني ان بضائع دخيلة، امتهنت حرمة المكان تهجن خصوصيته.. الكتب.
كتب تباع بربع دينار، اي مائتان وخمسون دينارا، على الرصيف، مهداة من مؤلفيها الى اناس باعوها من دون ان يفتحوا التصاق اوراقها غير المعرشة.
احدهم، عاد من غربة اربعين عاما في بيروت؛ ليستنشق رائحة الورق المعتق في كتب مرزومة، فوجد طبعات بيروت التي خلفها وراءه.
خلف الواجهات المطلة على شارع المتنبي ازقة يتعفن المتشردون.. نساءً ورجلا.. فيها، ينامون الليالي من دون طعام.. على هامش الوجود، اظنهم لم يجردوا في التعداد العام للسكان، مع انهم وريثو بغداد الحقيقيون.. ابا عن جد.. سحقتهم التغيرات السكانية ومسختهم الثورات العسكرية، الى مهمشين في نطاق منسي من ذاكرة بغداد.
من ذا الذي يتخيل، هذا المتشرد السكران ملطخا بغائطه، كان ومازال يسكن دارا منيفا كالقصر تطل على دجلة، تقدم المجتمع وتطور العمران، وظل هو معتدا بكرم محتده، فتخلف عن الآخرين، ولم يعرف كيف يواكب تسارع التطور؛ فلاذ بالسكر ليطويه الادمان.. بشعا فظيعا مقززا.
مسقفات سوق السراي التي استحدثت في التسعينيات، بلبلت ذاكرتي الممتدة الى ثمانينات الطفولة وانا آتي الى السوق مع اصدقائي قاطعين الفيافي بالباصات، من ديالى الى بغداد.
استجد في المنطقة تقدم الكتب، منفلتة من عقال (المتنبي) و(السراي)  الى جهتي (الرشيد) من حولهما (الرصافي) و(الميدان) كما شهدت المنطقة تجديدا آخر هو تحويل (المدرسة العسكرية العثمانية) الى (مركز بغداد الثقافي). توسعان جديدان لتقليدين قديمين.
دخلت مطعم (كبة السراي) الواقع في الزاوية الفاصلة بين الشارع والسوق؛ كي انهِ هذه الجولة، التي لن تنته، اذ صادفني الفنان التشكيلي الكبير قاسم سبتي؛ قدمني الى زميلة من الوسط الثقافي، فردتني عليه:
-          اتعرفني الى عمار؟ انه صديقي الذي اموت عليه.
قال قاسم: لماذا تموتين عليه بدلا من ان تعيشي لاجله!؟
ما يدل على انتشار حب الحياة بين العراقيين، اذ دعى الفنان سبتي الى نبذ شؤم الماضي والتماهي مع تفاؤل المستقبل.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عمار طلال
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/11/03



كتابة تعليق لموضوع : نهار مهترئ بالمثقفين والكتب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net