بسم الله الرحمن الرحيم
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ{80}
تروي الاية الكريمة ما دار بين ابراهيم (ع) وقومه , وفيها عدة منحنيات للتأمل :
1) ( وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ ) : في بداية دعوة كل نبي او رسول يتعرض لمجادلة القوم , هو يدعوهم الى عبادة الله عز وجل , ويأتيهم بالايات المعجزة , والحجج الباهرة , وهم ينبرون للدفاع عن اصناهم واوثانهم .
2) ( وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ) : عندما يفشل الكفار في الدفاع عن الهتهم امام الحجج الباهرة , يلجئون الى طريقة التخويف والترهيب , لئن تركت عبادة الاصنام فسوف تصيبك بسوء او ضر ما , لكن مثل هذا الامر لا يخيف الا ضعاف القلوب , اما الرسل والانبياء ومن تبعهم من المؤمنين , لا يخشون ذلك ابدا .
3) ( إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً ) : اداة استثناء , تبين ان الضر والنفع لا يصدران الا منه جل وعلا , اما هذه الاوثان والاصنام فلا يصدر منها ذلك , لكن في احيان كثيرة , يلجأ الكهنة ممن لديهم مهارات في علوم السحر والشعوذة الى ايقاع الاذى بكل من خالف عقيدتهم عن طريقها ! .
4) ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) : علمه عز وجل وسع كل شيء , لا يوجد شيء في الارض ولا في السماء الا وعلمه وخبره واحاط به جل وعلا .
5) ( أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ) : دعوة للتذكر .
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{81}
تروي الاية الكريمة على لسان ابراهيم (ع) , حيث خوفه القوم بغضب وانتقام الاصنام منه ان ترك ونبذ عبادتها , فيرد (ع) عليهم الرد الامثل , تخوفوني بنبذ عبادة اصنام ولا تخافون انتم ان اشركتم بالله تعالى من غضبه وانتقامه وعذابه الذي اعده للمشركين ! .
الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ{82}
تنتقل الاية الكريمة الى الجانب الاخر , جانب المؤمنين , فتؤكد ان المؤمنين الذين امنوا به عز وجل , ولم يخلطوا ايمانهم بشرك ( أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ) من العذاب , وستحل عليهم الطمأنينة والسكينة وستكتب لهم السلامة , ( وَهُم مُّهْتَدُونَ ) الى طريق الحق الذي ينبغي ان يسلك .
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ{83}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاث محاور :
1) ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) : كما بينت الايات الكريمة السابقة احتجاج ابراهيم (ع) على قومه بأفول كوكب الزهرة و القمر والشمس , وما دار بينه (ع) وبينهم من جدال , كان (ع) الغالب فيه , ينسبها النص المبارك الى الله تعالى , اتاها ابراهيم (ع) .
2) ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ) : الانبياء والرسل (ع) يتفاضلون فيما بينهم بالدرجة , فلا شك ولا ريب ان يرتقي ابراهيم (ع) الى درجات رفيعة , ولا شك ايضا ان يكون النبي محمد (ص واله) في قمة تلك الدرجات , كذلك الصالحين والمؤمنين يختلفون فيما بينهم بالدرجة , بعضهم اعلى من بعض , فيسأل المتأمل بأي شيء يرتفع ويرتقي النبي والرسول , الصالح والمؤمن ؟ , هناك الكثير من الاراء , كل مفسر وصاحب رأي يطرحه بما يتناسب مع عقيدته ومذهبه , وهناك من يرى ان الاية الكريمة اجابت على هكذا سؤال في ختامها ! .
3) ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) : ان الله عز وجل حكيم في صنعه , وله في خلقه شؤون , يضع الاشياء في اماكنها المناسبة , وهو عز وجل عليم في ملكه وملكوته .
لعل الاختلاف والتفاضل بالمنزلة والدرجة يعتمد على مقدار حكمة وعلم النبي او الرسول , وكذلك هو الحال بالنسبة للصالحين والمؤمنين , ويلاحظ في النص المبارك , تقديم الحكمة على العلم , عند ذاك , لا يخفى على المثقف والمتابع ارتباطهما مع بعضهما البعض ! .
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{84}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاثة محاور :
1- ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا ) : يروي النص المبارك , ان الله عز وجل وهب ابراهيم (ع) أسحاق (ع) ابنا , ويعقوب (ع) حفيدا , كلا هداه الله عز وجل .
2- ( وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ ) : يروي النص المبارك , ان الله عز وجل قد هدى نوحا (ع) من قبل , ومن ذرية نوح (ع) ( دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ ) , كلا هداهم الله تعالى , ويلاحظ ان الانبياء (ع) المذكورين في الاية الكريمة جميعهم ينسبون الى ذرية نوح (ع) من جهة ابراهيم (ع) , كما ويعرف نوح (ع) انه ابو البشر الثاني بعد حادثة الطوفان , ويعرف ابراهيم (ع) انه ابو الانبياء والرسل (ع) .
3- ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) : ان الله عز وجل حبا الرسل والانبياء (ع) بمنازل ودرجات رفيعة في الهدى والايمان , الحكمة والعلم , اما المؤمنين ممن التحق بركابهم , فسينالون درجة المحسنين , وهي منزلة ودرجة دون درجات الرسل والانبياء (ع) , اعلى وارفع مما دونها من الدرجات .
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ{85}
تعرج الاية الكريمة الى ذكر المزيد من الانبياء (ع) , وتضعهم في منزلة الصالحين , وهذه المنزلة ارفع شأنا من منزلة المحسنين الواردة في الاية الكريمة السابقة ! .
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ{86}
تذكر الاية الكريمة اربعة من الانبياء (ع) , لتختتم بتفضيلهم على العالمين .
الملاحظ في الاية الكريمة وسابقتها الكريمة الفرق بين ( كُلٌّ ) و ( كُلاًّ ) ! .
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{87}
القران الكريم لم يذكر اسماء جميع الرسل والانبياء , واقتصر على ذكر بعضا منهم , يعزى ذلك للعديد من الاسباب , نذكر منها لا على سبيل الحصر :
1- الكثرة العددية للرسل والانبياء كما يروى في بعض الاراء ان عددهم مئة واربعة وعشرون الف نبي .
2- القران الكريم ذكر الكليات ولم يذكر الجزئيات , فذكر ابراهيم (ع) كون اغلب الانبياء ان لم يكن جميعهم يعودون اليه من جهة النسب , اما من جهة الدين , فجميعهم كانوا على ملته (ع) .
3- ذكر القران الكريم الرسالات ذات الشمولية الاوسع , وذكر اصحابها من الانبياء لما في قصصهم من العظة والعبرة , اذا علمنا ان هناك من الرسل والانبياء ممن ارسل الى عدد محدود من البشر , او ان رسالته لم تدم طويلا ( يوما واحيانا ساعة ) .
يلاحظ في الاية الكريمة حرف الجر ( من ) الذي يدل هنا على التبعيض , وذلك لعدة اسباب نذكر منها :
1- ان بعض الانبياء لم يكن لهم ذرية , واخرين كان لهم ولد ( او ابناء ) غير صالح .
2- ليس جميع اقارب الرسل والانبياء كانوا صالحين بالضرورة , فجاء حرف الجر للتبعيض ولمنع التعميم .
ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{88}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين :
1- ( ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) : كل ما جاء به الرسل والانبياء (ع) من عنده عز وجل .
2- ( وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) : عند افتراض الشرك لدى الناس وليس لدى الانبياء والمرسلين (ع) لبطلت اعمالهم , لانه عز وجل لا يقبل مع الشرك عملا .
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ{89}
نستقرأ الاية الكريمة في عدة مواطن :
1- ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) : اشارة الى الرسل والانبياء (ع) وما اتاهم الله عز وجل من الكتب والحكمة .
2- ( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء ) : فأن يكفر بها هؤلاء ( اهل مكة ) من قومك يا محمد (ص واله)
3- ( فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ) : المؤمنون من امة الرسول الكريم محمد (ص واله) .
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ{90}
نستقرأ الاية الكريمة في عدة نقاط :
1- ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ) : اشارة الى الانبياء (ع) الذين تقدم ذكرهم في الايات الكريمة السابقة .
2- ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) : اجعل منهم قدوة لما احتملوا وصبروا على تعذيب قومهم لهم .
3- ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) : { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }الشورى23
4- ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) : القران الكريم موعظة للمخلوقات العاقلة ( الانس والجن ) .