صفحة الكاتب : بهاء الدين الخاقاني

حرية الاعلام والسلطة
بهاء الدين الخاقاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 (موضوع من وحي ادانة الاعتداء وجرح طاقم المجلة المصرية في مصر الكنانة الابية)

 

إنّ تجربة الصحافة في الحرية هي من أقدم وأكثر التجارب تنوّعًا واكتمالاً بين المهن والثقافات والاختصاصات. لقد تميّز دور الصحافة خاصة والاعلام عامة، بالتعاطي المباشر في الحرية والا لم يكن اعلاما ولم تكن صحافة سوى كونها انشاء او نوع من انواع الادبيات أو مؤسسة مدح لسلطة أو شخص، على مستوياتٍ من الوطني والوطنيين، أو السياسة والسياسيّين، وعلى المستوى الشعبيّ والجماهيري العامّ. 

بدأ تعاطي الاعلام في الحرية قبل نشوء التنظيمات والمؤسسات، ولقد خَبِر الاعلام عموما الحرية، من موقعَي السلطة والمعارضة والجماهير، واتّخذ الخيارات والمبادرات في مفاصل تاريخيّة أساسيّة، وتواصل مع المحيط المختلف بحكمة ودراية وبمرونة تمازجها صلابة، وذلك نتيجة لممارسة فنية وأدبية طويلة وإن تخللها بعض الاخطاء.

لقد كانت الحريّة، المتأصّلة في الاعلام عقائديا وإجتماعيًّا وأخلاقيا، عامل اطمئنان للانفتاح على اتجاهات وتيّارات، في الداخل والخارج، كثيرًا ما كانت متضاربة مع الاعلام ثقافيًّا وسياسيًّا ورؤى، وإن كانت هذه الحريّة قد انكمشت، في بعض مراحل الخوف والقلق، وشكّلت عاملاً سلبيًّا شدّ مسيرة الاعلام عامة والصحافة خاصة إلى الإنطواء والإنكفاء. 

 إنّ الانفتاح على العالم فتح أمام الاعلام الرؤية الحرّة، الرحبة وعالميّة الانتماء، للتواصل مع دول وثقافات وحضارات متنوّعة كسبًا للمعرفة. كما كانت الحريّة عامل انفتاح على الداخل، أيّ على الغير، فساهم الاعلام في نشر العلم والمعرفة وفي اتّخاذ خيارات أساسيّة كان لها أكبر الأثر في الحياة الوطنيّة والانسانية عموما في العالم وتهميش الشر ونشر الخير.

 

الكلام عن علام الحر:

عندما نتكلّم عن الاعلام وبالاخص الصحافة وعن الحرية نعني: 

أوّلاً: الاعلام كمرجعيّةٍ فكرية تتعاطى شأن الحرية والا لم يكن اعلاما.

 وثانيًا: أبناء الاعلام والصحافة خاصة على مختلف انتماءاتهم واتّجاهاتهم في بلدهم او في العالم هم انفسهم لا غيرهم.

ثالثا: إنّ مصير الاعلام الحر سياسيا واجتماعيا وفكريا انطلق من ارتباط انساني وثقافيّ، جعل منه مؤسسة لها وجهها المميّز، من خلال الخيارات الأساسيّة التي غلّبت فيها مبدأ الانفتاح والوصل على مبدأ الانغلاق والفصل، فتعاون مع الغير بغية خلق إرادة عيش مشترك وهذا ما يشرح رفض الاعلام عموما خاصة أن يكون له بلد يتفرّد به وحده، وتفضيله دومًا العيش المشترك.

 

الحقبة التاريخية:

لقد تبلورت العلاقة المتبدّلة بين الاعلام والحرية، عبر حقبتين تاريخيّتين: 

* حقبة الأنظمة الأمبراطوريّة التي استمرّت حتى الحرب العالميّة الأولى.

*  وحقبة الدولة التي بدأت منذ مطلع القرن الماضي.

أوّلاً: الحقبة الأمبراطوريّة:

من الاعلام، من كان كثيف الحضور في الشأن الزمنيّ للدول، التي تولّت شؤون شعبها في غياب دول الحرية كمنهج، وكان ذلك بفعل التاريخ، وما كان أثقله على الاعلام والمثقفين عموما والشعوب الصغيرة الناشئة والطّالعة من قلب المحن والمنازعات الدينيّة والعنصرية والتنظيرية والزمنيّة، لقد عاش الاعلام عموما وسط محيط واسع، تميّز حتى القرن العشرين بالأنظمة الامبراطوريّة، وهي على التوالي الأنظمة البيزنطيّة والعربيّة والمملوكيّة والعثمانيّة. 

فالكلام عن علاقة الاعلام بالحرية يفرض الرجوع إلى ظروف نشوء هذه العصور والثقافات لدى السلطة، كما يفرض الكلام على إسهام هذا الاعلام عموما في خلق وطنٍ تعدّديّ، يضمن لهذا الشعب أو ذاك الحريّة والأصالة والحصانة، في مواجهة مرحلةٍ من الضياع والفوضى بمبادرات لسدِّ فراغ قياديّ وحفظ الرعيّة من التشتّت والارتهان. 

ولمّا كان الجبل الاعلامي الحر خاليًا من أيّ تنظيمٍ سياسيّ، بعيدًا عن الحياة السياسيّة والمنازعات الدينيّة، في الأمبراطوريات، فقد نظّم الاعلاميون حياتهم تنظيمًا معينا كل حسب خصوصيته، حسب العرف السائد آنذاك، فكان له بذلك دورا محوريا، خصوصًا زمن الحروب الداخلية والخارجيّة والمحن والمنازعات والفتن عموما، لأنَّ الشعب كان يَثِقُ بالاعلام ويعتبره المرجع الأخير للمعلومة، وان اكتفى الاعلام لفترة من الزمن بتوجيه الشعوب وقت الشدائد والملمّات فقط.

لقد مكث الاعلام في هذا المعتصم مدّةً من الزمن، يمكن قسمَتُها إلى مراحل: 

مرحلة أولى: من نهاية القرن السابع وبداية الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر، تميّزت بالانطواء على الذات، سحابة أربعة قرون وبالتكيّف وبالتطبع، وقد كان تأثير هذه المرحلة عميقًا وحاسمًا، فانطبع الاعلام خلالها، بالبيئة الجديدة المتغيرة، وأصبح اتجاها صلبًا، متراصّ الصفوف، غيورًا على كيانه وحريته، واستمرّ الاعلام يقوم بمهمّات التحرر والانسانية قياديا، يرشد العقول في الأمور المختلفة من النهضة والحرية والاخلاقية والحضارية، فكان الاعلام والصحافة خاصة يعيشون إلى جانب الناس، يشاركونهم أفراحهم وأتراحهم وصلواتهم وقضاياه المصيريّة. 

والمرحلة ثانية: كانت مرحلة امتحان عسير، امتدت سحابة قرنين من الزمن، أكدت حرص الاعلام على الحريّة وعلى الأصالة، فلا عدوّ لهم سوى عدوّ حريتهم. والحريّة بالنسبة إليهم هي الحريّة المدنيّة السياسيّة، بدونها لا مجال للحفاظ على أيّ حريّة أخرى، دينيّةً كانت أم غير دينيّة.

أمّا المرحلة الثالثة: فقد تمثّلت بحكم العثمانيين تقريبا بالنسبة للمسلمين وامة العرب، سحابة أربعة قرون أيضًا، وكانت مرحلة بناء الداخل الوطني، وامتداد مساحته الجغرافيّة من شماله إلى جنوبه، وان لم يكن هناك حكم بالشريعة الاسلامية لانها كانت مقاطعات مملوكة لافراد فحصل هذا الانتشار بتشجيعٍ لهذا السبب، أي يكتفون بجمع الضرائب وان كانت باهظة، ولكنّهم يتركون للرعايا الحريّة عموما بما لا يمس الدين بشئ. 

هذا الوضع كان يناسب الاعلام، لذا حصل بينه وبين الأمراء تعاونٌ ما، وقد بُني على أساس المصالح المشتركة، لتربح الحرية الاعلامية ولو نسبيا.

رغم الصراعات فقد قوي نفوذ الاعلام وانتشر في الداخل، كما اتّصل بالخارج محاولا كسر الطوق الثاني من طوق الجهل، فكان العمل الثقافيّ التعليميّ إنشاء المدارس، لتخريج الكفاءات، حتى أتى بونابرت بالمطبعة إلى مصر. وبفضل هذه الإنجازات، دخل الاعلام في عصر الحداثة وأسهم فعليًّا في النهضة العربيّة وانفتح على الحضارة الغربيّة ونقلها إلى المعاصرين، بعد أن قام بتكييف المفاهيم الأوروبيّة للحريّة والتقدّم على الواقع الشرقيّ ليفتح باب صراع المفاهيم والاصالة بين تراث عظيم لامتنا وبين حضارة معاصرة للغرب على رغم قسوة هذا الصراع ولكن كان ايجابيا، حيث بالتدريج ومازال يلاقى هذا الدور الترحيب من جميع شعوب المنطق ضد السلطات المسؤولة عن حقبة الانحطاط. 

إنّ أهميّة مسيرة الاعلام وبالاخص في المحيط العربي تكمن في أنّها قامت أساسًا على مستوى اللغة والثقافة العربيّة المتنوّعة من دون أن تفرض نمطًا معيّنًا في التفكير، وإنّما أطلقت المجال لبروز تيّارات وحركات دينية بناءة ومدنيّة وعلمانيّة ونسائيّة وفكريّة منها القوميّة العربيّة ومقاومة الخطر العدواني وترسيخ العقيدة كرسالة انسانية اخلاقية خلاف المدعين، وصولاً إلى الهمّ الإنسانيّ الكونيّ. وهكذا نشر الاعلام العلم والمعرفة في المحيط رغم قسوة السلطات والانفراد بالمسؤولية والعروش.

انها مرحلة امتحان قاسٍ في القرن التاسع عشر، حيكت خلالها الدسائس من الداخل والخارج، خصوصًا بين الأمبراطوريّتين العثمانيّة والبريطانيّة، والتي كانت تنتهي بمآسي وأدّت بالتالي إلى منهج الهجرة نحو الغرب أو اماكن أخرى، طوال هذه المدّة، وخلال المحن القاسية، لم يغب عن بال الاعلام نبذ الأحقاد وأقبل مصرا على التعاون لإنجاح تجربة العيش المشترك بين البشرية والاوطان ونشر الحرية، حيث ترسيخ خيار الانفتاح على الآخر والعيش المشترك وتعميم التعليم للوصول إلى أعماق المجتمعات الحضارية، وضرورة إرجاع الرقعة الفكرية الانسانية إلى ما كانت عليه من الاتّساع، وقد فعل الاعلاميون ذلك بحسٍّ وطنيّ، غير آخذين باعتبارات طائفيّة ضيّقة أو عنصرية خطرة، علمًا بأنّ خيارات الانفتاح والتواصل لم تكن دائمًا محلّ إجماع فيما بين الاعلام والمتلقين لاسباب ثقافية وعرفية ومع من حولهم، ولم يتحقّق سعيهم التوحيديّ إلاّ بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى، وإثر انهيار السلطنة العثمانيّة، سنة 1918.

والمرحلة المعاصرة:

 منذ 1920 إلى اليوم، ففي مرحلة ما قبل الدولة، دخل الاعلام عالم الحرية على صعيدي الجماعة والوطن، فالحرية في الوسط الاعلامي قديمة العهد، تبلورت بعد قيام الدولة الحديثة، عبر نشوء الاتجاهات المتنوّعة التوجّهات والأهداف، ساهمت في إغناء الحياة السياسيّة والاجتماعية والثقافية عموما.

وكان الاعلاميون، عبر مسيرتهم، داخل الوطن وفي المغتربات من خلال الجاليات، أصحاب مبادرةٍ ساهمت في بلورة محطّات تأسيسيّة في تاريخ بلدانهم الحديث: 

 في قيام الانظمة املا بالحرية والنهضة، وفي نشوء الدولة الحديثة في مطلع العشرينات املا في إنجاز الاستقلال المتلازم مع النهضة العلمية والمعرفية وحقوق الانسان وفي إعادة اللحمة إلى الامة والبلاد، واملا في إقامة نظامٍ سياسيّ واقتصادي يسهم في اسعاد المواطن والبشرية وفي حركة صعود متواصل، وعلى صعيد المبادرة وفي حركة التواصل مع الآخرين، في الداخل والخارج.

 

الاشكاليات وانعدام مفهوم السياسة الصحيحة:

إنّ تلازم الاعلام مع الحرية هو نتاج فكري انساني وطنيّ صرف، شكّل مدخلاً إلى تسوية تاريخيّة لمعضلة رافقت نشوء الدولة وفهم السلطة، وصراعاتها ما بين الاعتدال والواقعيّة. أمّا الهدف فكان إيجاد صيغة للتلاقي بين المفاهيم. 

ان منهج الحرية الملتزم هو، في الواقع مشروع حياة، حيث التوافق على جميع المسائل المطروحة، بل التوافق على صيغة تقوم على المشاركة الحقيقيّة القائمة على التوافق والمساواة والتوازن. وهكذا يكون البُعد الداخليّ للحرية قد تأمّن، لأنّه حفظ معادلة التوازن، ثمّ إنّ هذه الصيغة تعالج، بشكل أساسيّ، البُعد الخارجيّ للحرية، أيّ الاستقلال والتعاون الانساني على المستوى العالمي مع خصووصية الانتماء الوطني.

إنّ البُعد الخارجيّ للحرية، وتحديدًا البُعد الإقليميّ بالذات، كان الأكثر عرضةً للتقلّب والانتكاسة، لأنّه لا يرتبط فقط بالوطن الواحد، خصوصًا في أوقات الأزمات الإقليميّة الحادّة، وهو محيط كان يبحث عن نفسه مع انتهاء مرحلة الحكم العثمانيّ له. وأخذت حاله تزداد تعقيدًا، في الخمسينات، بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، وفي ظروف بالغة التعقيد، محليًّا وإقليميًّا ال يومنا هذا، في دوامة صراعات الشعارات والإيديولوجيّة، والخيار الحضاريّ، وعناوين التعدّديّة ومناهج السياسيّة وكيفية إدارة هذا التنوّع من حوار وتسويات ومن واقعيات لمجتمع بين الانفتاح والاعتدال من عدمهما. وبهذا برز واقع التجاذب الحرية على قياس امة كامتنا وطبيعة نظامها السياسيّ وأشكال العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين مواثيق وطنيّة عربيّة لا تتّفق مع الحالة العالمية. وزاد من هذا التجاذب عدم القدرة، حتى اليوم، على استكمال بناء الدولة المدنيّة والحضارية المستقرّة، القائمة على عمل المؤسّسات الوطنيّة، غير المرتهنة للمتغيّرات الإقليميّة والدوليّة وغير المقيّدة بالتجاذب الطائفيّ والعنصري، كدولة لجميع مواطنيها من دون تفرقة أو تمييز، تتفاعل مع مستجدّات العصر في إطار الحريّة والديمقراطيّة التوافقيّة.

ان الاعلام دوما يحاول تفعيل مؤسّسات الدولة وإطلاق مشاريع إصلاح وتنمية بتكييفً واقعيًّ ومعتدل للحرية الوطنيّة، وقوّةً دافعةً لعمليّة إصلاح إداريّ واسعة النطاق، ومحاولة جادّة للإنماء الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتوازن. وإنّما كان لسوء استعمال السلطة، من قبل بعض الأجهزة الأمنيّة، كبير الأثر في ضرب منهجية الاعلام الوطنية، وفي عودة الخوف والقلق من جديد. 

حيث باتت دوما البلاد في صدام مباشر بين منطقين متناقضين: 

منطق الدولة الساعية إلى الحفاظ على سيادتها ومصالحها وعلى الاستقرار الداخليّ، ومنطق الثورة الساعية إلى التوسّع السياسيّ والعسكريّ بشتّى الوسائل المتاحة، وفتح الجبهات العسكريّة على الحدود.

إنّ هذا التناقض وجد، للأسف، أرضيّة خصبة، نتيجة الخلل وعدم التواصل الذي كان يحكم علاقات الأطراف بعضها مع بعض مؤثرا على منهجية الاعلام وحريته.

أوجدت هذه التطوّرات الأرضيّة الملائمة لاندلاع الحروب، وهي، من بدايتها إلى نهايتها، سلسلة حروبٍ داخليّةٍ وإقليميّةٍ متداخلة، الى جانب صراعات غير مكتملة الفكرة والمنهجية لمسائل أخرى تمحورت حول إصلاح النظام السياسيّ، محدثة أزمات اختلطت فيها مسألة المشاركة في السلطة من عدمها .

صراعات مقلقة للشعب ومؤخرة للوطن على صعيد المواقف حيال التغيير في هيكليّة السلطة، ما بين ثورات أو إضعاف صلاحيّات، مع الطروحات التغيير والتأقلم مع معطيات الواقع، فخلق تشابك المسائل المطروحة، بالاخص في السبعينات وما بعد، إشكاليّة قدرة التيّارات السياسيّة على إحداث التغيير المطلوب الذي يمكن أن يستجيب لقائمة المطالب الواسعة والمتراوحة بين مشاريع الإصلاح السياسيّ أو تغيير الانظمة ودعم المنظّمات الجماهيرية وقطاعات الشعب، مرورًا بالمطالبة بتغيير النظام. كما أدّى إلى تغييب معنى المشاركة العالمية ومعنى تجربة العالم الحضاريّة القائمة على نموذج العيش المشترك وعلى قبول الآخر شريكًا مختلفًا كامل الشراكة، وعلى التواصل مع الآخر الذي يغدو جزءًا من تعريف الذات.

فتكون المفاهيم الواردة في خانة التجاهل في مواجهة الاعلام والقضاء عليه، بتهم مختلفة اقساها الخيانة، فضلا عن منهجية الفتاوى التكفيرية، كالحريّات السياسيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة والثقافيّة، أو مفهوم دولة القانون، الى جانب مفاهيم استقلالية القضاء وفاعليته، والنفي والإلغاء لأسبابٍ سياسيّة والاستهداف المبرمج. 

 

الحروب والانظمة المستبدة:

جاءت الانظمة المستبدة والحروب، لتنتج عنها خسارة لا سابقة لها، في تاريخنا الحديث، فالحرب هي الحرب والنظام الظالم هو الظلم، بأوجاعها ومآسيها. وقد عاشها الناس، وعانا منها الاعلام ما عانا. لقد نتج عنهما القتل والتهجير، في الوقت الذي يسعى الاعلام بالعودة إلى الثوابت الوطنيّة ومنها الحرية، رافضين الاحتكام إلى السلاح والاستقواء بالخارج لحلّ المشاكل الداخليّة، لأنّه يضرب صيغة العيش المشترك القائمة على ثقافة الانفتاح والتوسّط والاعتدال، ولأنّه، وفي مختلف الأحوال، يضرب قيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان. وشهدت السنوات نزاعاتٍ مسلّحة بين أحزاب وقادة وتخلف للبلدان . 

دفع هذا الوضع المأساويّ الاعلام إلى تركيز جهوده على وقف دوّامة العنف من جهة ومن جهة اخرى مواجهة الانظمة المستبدة، التي كانا كلاهما يشتدّا يومًا بعد يوم حتى باتا يهدّدا المصير الوطنيّ والوجود الانساني برمّته. فعمل الاعلام من هذا المنطلق على تشجيع بلورة الأسس والمفاهيم كمدخل لطيّ صفحة الصراعات من أجل العدالة والحريّة، وإلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته، بما يثبّت أولويّة العيش المشترك على كلّ ما عداه، ويجعل منها أساسًا للشرعيّة، حيث لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. 

رائع عندما يكون نظام الدولة كفكرة قائما على ان البلد واحد موحّد، سيّد، حرّ، مستقلّ ونهائيّ لجميع أبنائه وعلى كامل أرضه، وهو عربيّ الهويّة والانتماء، ويلتزم بكونه عضواً مؤسّسًا في الجامعة العربيّة وفي منظمة الأمم المتحدة وفي الإعلان العالميّ لحقوق وهو نظام جمهوريّ ديموقراطيّ برلمانيّ، يقوم على احترام الحريّات العامّة، لاسيّما حريّة المعتقد، وعلى العدالة والمساواة ومبدأ الفصل بين السلطات والشعب هو مصدر السلطات، عندها لايكون هناك شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

لقد تمكّنت سلطة الوصاية على انسان وحريته دوما، من تحوير المضامين لتضربها في الصميم مما يؤدّى إلى إفراغ الدولة من مفاهيمها، وإفراغ الحياة السياسيّة من السياسة، وبوضع خطّط استهداف مبرمجة تتّخذ أشكالاً متنوّعة، من استهداف سياسيّ عبر اعتماد قوانين انتخاب لا تراعي التمثيل الصحيح، واستهداف أمنيّ يطول التنظيمات والشخصيّات السياسيّة والشباب والمفكرين والمواطنيين عموما، واستهداف ديمغرافيّ في بعض الاحيان لتدمير خصوصية البلاد من أجل مصالح اتجاه أو سلطة .

ساهمت الحروب والانظمة المستبدة في إضعاف نظام القيم عموما، وشهدت السنوات ممارسات سياسيّة بعيدة عن القواعد الأخلاقيّة ومصادرة الاعلام والراي الاخر. فلكي يستقيم الأداء السياسيّ وتستقيم المصلحة العامّة، فمن الملحّ أن يتجدّد السياسيون فكريا وتجربة، ويستندوا في عملهم السياسيّ إلى أرضيّة صلبة من المبادئ والقيم والفضائل عدلا وحرية وسلاما وغير ذلك. على السياسيون أن يعملوا لإعادة البريق والمعنى إلى هذه القيم، فيخدموا وطنهم مستقين من إيمانهم بعقيدتهم التي اتت بهم الى السلطة على أقل تقدير المبادئ الأساسيّة، ويساهموا في تراجع العنف والكراهيّة والظلم والاستبداد، ويبنوا مستقبلاً أكثر إنسانيّة، فيرفعوا صوتهم عاليًا للتنديد بمظاهر الفساد السياسيّ والاجتماعيّ، ويشهدوا للقيم الانسانية والاخلاقية والحضارية في وطنهم، فتكون هذه القيم العين الساهرة ليظلّ النظام السياسيّ والاجتماعيّ في خدمة الإنسان وللدفاع عن الفقراء والمهمّشين والمرضى، ويعملوا على خلق فرص العدالة والمساواة بين الجميع.

 

رؤية الاعلام المعاصر للحرية ونهضة البلاد:

- استكمال بناء الدولة المدنيّة الحديثة، القائمة على حكم المؤسّسات الوطنيّة، وعلى وجوب ممارسة سلطتها وسيادتها على جميع المقيمين على ترابها الوطنيّ، إلى جانب مشاكل أخرى ترتبط بمعالجة الفساد والهمّ المعيشيّ الذي لا يميّز بين المواطنين وفي احترام حقوق الإنسان وفي أن يكون القضاء سلطة وسلطة مستقلّة.

- إعادة بناء علاقات طبيعيّة مع العالم على قاعدة التكافؤ والمساواة والمصالح المشتركة، عبر مراجعة شجاعة لتجربة الماضي، على اعتبار أنّ كلفة التفاهم تبقى أقلّ من كلفة النزاع. وإذا كان صحيحًا أنّ بين الدول والشعوب تباينات عميقة في طبيعة النظام السياسيّ وفي مسائل أخرى، فإنّ ذلك لم يلغ المشترك في الجغرافيا والتاريخ والحضارة وفي التزام القضايا الوطنيّة والانسانية الكبرى، وفي مقدّمها قضيّة التحرّر والاستقلال وفي التواصل المستمرّ بين الشعوب عبر التاريخ.

 

التحديات الاعلامية :

إلا أنّ أهمّ التحدّيات المتّصلة بالشأن الاعلامي وبالاخص في خصوصوصية الحرية ومنهج العدالة وتحقيق السلام هي:

1- تبقى بالعودة إلى الهويّة الانسانية آخذين بعين الاعتبار انتشار الاعلام وحريته.

2- وبأن يبقى الاعلام الوطني مختبرًا للحوار بين الاطراف في عالم يشهد انقسامات بليغة في هذا المجال.

3- وفي التضامن مع العالم وبالاخص العالم العربيّ لدحض مقولة صراع الحضارات التي تضع الافكار في مواجهة بعضهما البعض.

4- يرى الاعلام أنّ البشرية هي اليوم أمام دوائر ثلاث تتداخل في ما بينها وتؤثّر الواحدة على الأخرى: 

الأولى: مرتبطة بواقعها ومستقبلها وسيادتها واستقلالها وحريّة قرارها.

 والثانية: مرتبطة بالمخاض الحضاريّ الذي يعاني منه العالم العربيّ.

 والثالثة: مرتبطة بما راح يعرف اليوم بالنظام العالميّ الجديد. 

والرابعة: حقيقة الفوضى الخلاقة ونظريتها المعرفية.

وهذا التداخل بين المحطّات الاربعة يتمّ في زمن يشهد فيه العالم تسارعاً هائلاً لحركة التاريخ، الأمر الذي يجعل الفصل بين تحدّيات الداخل ومشكلات الخارج أمرًا صعبًا وربّما مستحيلاً. فعلينا أن نحدّد موقفنا ودورنا في عالم متغيّر يبحث عن ذاته، وسط تساؤلات كبرى وصعوبات متفاقمة.

 

المفهوم الاعلامي للعيش المشترك:

يتأسّس دورنا على تجربة المميّزة في العيش المشترك الذي هو قدرنا، ولكنّه أيضًا خيارنا الحرّ. فنحن كما العالم، خبر العيش المشترك، بحريّة ومسؤوليّة على مدى قرونٍ طويلة، فكانت حقباتٌ مضيئة، لم تخلُ من بعض الصعوبات. لذلك، فالعالم جميعا يتحمّل مسؤوليّة ترسيخ هذا العيش، وتخطّي ما لحق به من خللٍ ومشاكل، لأنّ ما يجمع بين البشرية هو أكثر مما يفرّق.

يتخطّى العيش المشترك مستوى التساكن أو التعايش بين المجموعات، فهو نمط حياة يؤمّن للإنسان فرصة التواصل والتفاعل مع الآخر بحيث تغتني شخصيّته من تلقّيها جديد الآخر، وتغني هي بدورها شخصيّة الآخر، وذلك من دون إلغاء للخصوصيّات والفوارق التي تصبح في هذه الحال مصدر غنى للجميع. إنّه نمط حياة يقوم على احترام الآخر في تمايزه وفرادته، فلا يسعى إلى إلغائه أو استتباعه، ولا يفرض عليه انصهارًا يلغي خصوصيّته أو توحّدًا يختزل شخصيّته ببعد واحد من أبعادها. إنّه نمط حياة يقوم على احترام الحياة في تنوّعها وغناها، من دون إخضاعها لترابية تفقدها غناها، أكانت هذه التراتبيّة ثقافيّة أم اجتماعيّة أم عدديّة، فتفرز الناس أقليّات وأكثريّات، وترسم فيما بينهم خطوط تماس سرعان ما تؤدّي إلى التصارع والتصادم. إنّه نمط حياة لا يحدث في داخل الإنسان ذاته شرخًا بين انتماءاته المتعدّدة التي تتشكّل منها هويّته، وتاليًا لا يضعف تماسك شخصيّته وتكاملها، ويفسح في المجال أمامه للبحث عن خلاصة موحّدة لمكوّناته المتعدّدة. 

تشكّل هذه المنهجية مساهمة اعلامية في إغناء الحضارة الإنسانيّة. وهي مساهمة ضروريّة في هذه الحقبة من تاريخ البشريّة، التي تشهد مخاضًا صعبًا يتمحور حول سؤال من طبيعة وجوديّة: كيف يمكن أن نعيش معًا مختلفين ومتساوين؟ وهي أيضًا مساهمة ضروريّة لوضع حدّ لدوّامة العنف التي تتسبّب فيها التقابلات التي تضع وجهًا لوجه هويّات ثقافيّة وسياسيّة متنوّعة، فتجعل من كلّ واحدة منها خطرًا يتهدّد الأخرى، وتدفع صاحب الهويّة إلى العمل على إلغاء الآخر المختلف باعتباره مصدر خطر عليه. 

 

المثقف والاعلام:

 ان الاعلام متفاعل بانفتاح مع التاريخ السياسيّ للمحيط الذي تنتمي إليه. إنّ حضوره يملي على السلطة والانظمة أن تكون في وسط المجتمع الذي تعيش فيه علامة لحضور الانسان الحق العادل والحر في عالمنا. إنّ الاعلام وبالاخص الصحافة، المتمسّك بأصوله وثقافته، يعيش انتماءه إلى الشرق بوعي أبنائه لدعوتهم ورسالتهم، وهو جزء من المسيرة الحضاريّة، في هذه المنطقة من العالم، لا ينفصل، إلى جانب مساهمتها الثقافيّة في إحياء التراث العربيّ والتعريف عنه الى جانب مقومات الاسلام عدالة وحرية وسلاما. فقد التزم الاعلام والاعلاميون قضايا امتهم وكوكبهم في ان واحد، وساهموا في بلورة الوعي السياسيّ، عبر الدور الرائد في الحداثة والاصلاح، وفي حركة التحرّر، وفي الفكر والصحافة، والمفكّرون الاعلاميون كانوا من أوائل الذين حذّروا من الخطر الماسي الانسانية وامبراطورياتها .

يشكّل الاعلام المؤسّس على الحريّة والمساواة، والقائم على التنوّع في إطار وحدة تحترم الاختلاف على الصعيد العامّ، حاجة مستمرّة لتفاعل خلاّق بين البشرية باختلافها واختلافاتها، يمنح أبناءها فرصة الاغتناء الروحيّ والمادي المتبادل. إنّ هذه الحاجة أصبحت اليوم أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى، ذلك أنّ المواجهة بين الشرق والغرب أخلت مكانها لمواجهة بين الشمال والجنوب. ولم تعد هذه المواجهة تعّبر عن نفسها بصيغة سياسيّة: الرأسماليّة في مواجهة الشيوعيّة، وإنمّا بمحاولة إعطائها صيغة دينيّة: الاتجاه الديني المتطرف ايا كان مع الاتجاه الاصولي ايا كان. 

إنّ الممثقف في الاعلام مدعوّ، في شكلٍ خاصّ، إلى محاربة النظريّات غربا أو شرقا، التي تنظر إلى المسلمين وكأنّهم يشكّلون تهديدًا بسبب ارهاب هنا او هناك، والتي تؤدّي إلى رسم حدود دامية بين الاديان والافكار لمواقف سياسية مستبدة او فتاو ما انزل الله بها من سلطان. ان المثقف الاعلامي مدعو، إلى التصدّي لنظريّة الحروب الدينيّة التي ينادي بها المتطرّفون، او عنصرية او مصالح .

 

حاجة الاعلام:

تحتاج صيغة الاعلام إلى دولة ديمقراطيّة وحديثة قادرة على حمايته وتوفير ظروف تطوّره.

وتقوم هذه الدولة على التوفيق بين المواطنيّة والتعدّديّة، أيّ على الجمع بين دائرتين أساسيّتين في انتماء الانساني: دائرة فرديّة، مدنيّة، تتحدّد بالمواطنيّة التي ينبغي أن تطبّق على الجميع بالشروط نفسها، ودائرة جماعيّة، تتحدّد بالطائفيّة، التي تريد الاعتراف بالتعدد وبحقّ هذا التعدّد في التعبير عن نفسه.

إنّ الاعلام وايضا الدولة المنشودة لابد من أن يؤمّنا:

1- بالتمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الخصوصيات والدولة، بدلاً من اختزال اي فكر في السياسة، أو تأسيس السياسة على منطلقات فكرية لها صفة المطلق.

2- الانسجام بين الحريّة التي هي في أساس فكرة ابداع الانسان والعدالة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات، والتي من دونها لا يقوم عيش مشترك.

3- الانسجام بين حقّ المواطن الفرد في تقرير مصيره وإدارة شؤونه ورسم مستقبله، وبين حقّ الجماعات في الحضور والحياة على أساس خياراتها، في حدود الالتزام احترام كل ال الاخر .

4- إنّ مراقبت الاعلام بحرية للسياسة والسياسيين تساعد في تفعيل الحياة السياسيّة عبر تجديد قياداتهم ومحاسبتها، وذلك عندما يختارون ممثّلين يتمتّعون بالمصداقيّة والشفافيّة والاستقامة المسلكيّة والشجاعة الفكريّة، قادرين على تقديم المصلحة العامّة على مصالحهم الفرديّة والفئويّة، ممثّلين يتحلّون بروح الخدمة والتضحية، ولديهم سعة الاطّلاع في التشريع والقدرة على الابتكار والتجدّد وتحسّس مشاكل العصر، ويعملون بروح السلام والحوار والاعتراف بالآخر، قادرين على التسوية من دون المساومة على المبادئ، ويدافعون بحزم عن حقوق الإنسان وكرامته، ويحاربون الفساد، ويفون بوعودهم ويُؤمنون بالديمقراطيّة والتعدّديّة والحريّات. عندها تبذل المواهب والفضائل المودعة لدى الاجيال، فتنتشر ثقافة الممارسة السياسيّة والاعلامية والثقافية عموما على أسس اخلاقية حرة عادلة في جميع أرجاء الوطن.

5- ان الاعلام والاعلاميين، الذين أظهروا دومًا تعلّقهم ببلدهم، حرّ سيّد ومستقلّ ذي نظام ديمقراطيّ، مدعوّون لأن يتمسّكوا بهذا النظام ويدافعوا عنه، لأنّه الشرط الأساس لبقاءه، وأن يساهموا أكثر في تعزيز الثقافة الديمقراطيّة ومفهوم المواطنيّة الحقّة، أي أن يمارسوا الديمقراطيّة في حياتهم اليوميّة، فيعطوا الأولويّة للنقاش بدل التناحر، ويتحاوروا معتبرين أنّ الحقيقة جزء من تفكير الآخر، ويغلّبوا المنطق على الغرائز والانفعالات الآنيّة، ويبتعدوا عن العنف والكذب في سلوكهم اليوميّ. وبهذا، ينتقلون الى مرحلة انتقال المواطن عموما من مرحلة المواطن المستهلك القابل بما هو مفروض عليه، إلى المواطن الفاعل والمؤثّر في مجتمعه والقادر على التغيير بدءًا من ذاته.

6- إنّ الجيل القادم الصاعد التي تواجهه الصعوبات، وهو يحمل آمالاً وأحلامًا وتطلّعات، مدعوّ لكي يعطي الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة إنطلاقة جديدة. فله\ الحقّ في المراقبة والمحاسبة والتعبير، لأنّ مستقبله مرتبط بوجود مناخ ديمقراطيّ وبيئة سياسيّة سليمة، وهو أمل الانسان وعقيدته التي يحملها والوطن. 

 

مفهوم السياسة الحقيقية اعلاميا:

تتطلّب عمليّة إعادة بناء الدولة المصالحة مع الاعلام واحترامه. فالسياسة في نظر الكثيرين مرادفة للمناورات والخصومات والممارسات المشبوهة واستعمال النفوذ. هي المسؤولة عن المبادئ للاستيلاء على السلطة، وهي الوسيلة الأسهل لتحقيق الثروات الخاصّة على حساب المصلحة العامّة. هذه الممارسة السياسيّة، رسّخت في عقول البعض مفهومًا خاطئًا للسياسة وجعلتها عملاً مدانًا. 

ففهم الاعلام للسياسة من انها شأن نبيل في خدمة الانسان والراعي في خدمة الرعية والجميع رعاة والجميع رعية، لا بل فنّ شريف. لذا يجب إعادة الاعتبار للعمل الاعلامي والسياسيّ، لأنّ السياسة هي خدمة من أجل الخير العامّ بالحقوق والواجبات والاعلام منهج للخير العام وبالمعلومة والحقيقة.

السياسة نضال متواصل وممارسة يوميّة للأفراد كما للجماعات، تنتقل من جيل إلى جيل لإيجاد الحلول لمشاكل المجتمع ولتأمين حقّ الإنسان في الحريّة والعدالة والسلام والعيش الكريم بعيدًا عن الأوهام وتبسيط الأمور، لأنّ لا شيء في السياسة معطى بل هو قابل للتطوّر باستمرار. في اختصار، السياسة هي الاهتمام بالآخرين، والالتفات إليهم، والاستماع إلى مشاكلهم، ومساعدتهم، احترامهم، ومحبّتهم. إنّه لأمر ملحّ أن تعيد السياسة الاعتبار للعمل السياسيّ واحترام الاعلام .

 

ابعاد الاعلام ومثقفيه:

ترتسم، اليوم، ملامح حقبةٍ جديدة، أمام الاعلام، في تعاطي أبنائه بالشأن الاعلامي وحتى السياسيّ. فالاعلام، وإن كان مرتبط بأوثق الوشائج بكيان الوطن، تاريخًا ومصيرًا، إلاّ أنّ البعض بات يعيش في بلدان بعيدة عن البلد الأمّ، ويخضع لأنظمةٍ سياسيّةٍ متنوّعة، تختلف في كثير من الأحيان عن النظام الذي كان يعرفه في بلاده. إنّ هؤلاء يبقون مثقفين وطنيين، من دون شكّ، ولا يدخلون إلى بلدانهم الجديدة، وهم في حال افتقارٍ إلى اعتباراتٍ سياسيّةٍ وفكريّةٍ توجّه تصرّفاتهم، لأنّهم يستنيرون، عفويًّا، بتوجيهات الاعراف الجامعة التي ينتمون إليها، وهي تدعوهم إلى الاندماج في أوساطهم الجديدة، وإلى المشاركة في الحياة العامّة، وسط الشعوب التي صاروا فيها مواطنين مكتملي الحقوق والواجبات. ومن المؤكّد أنّهم أضحوا ملتزمين بالأمانة لأوطانهم الجديدة، كما كانوا ملزمين بالأمانة والإخلاص لوطنهم الأوّل.

لقد بات من الضروريّ النظر، بطريقةٍ علميّة، إلى مسألة الانتشار، وربطها بالحياة الوطنيّة لخدم مصالح بلدانهم. من هنا ضرورة توضيح طبيعة العلاقة بين المغترب أو المنتشر ووطنه الأمّ والتشديد على حقّه في المشاركة بكلّ الوسائل ومنها الانتخاب والترشيح. والاعلاميون مسؤولون، بنوعٍ خاصّ، على صعيد مكافحة أسباب الهجرة، عبر مساهمتها في بناء دولتهم التي تكّرس المساواة في الحقوق والواجبات وتؤمّن الحياة الكريمة لأبنائها. أمّا الأجيال التي لم تعد مرتبطةً بالوطن الأمّ والتي تغار على مواطنيّتها الأصليّة أو المكتسبة، فإنّ انتماءها إلى الحقيقة والعدل والحرية والسلام بات الرابط الأساسيّ بينها، أيًّا كانت انتماءاتها الوطنيّة، وباتت تشكّل جسور حوار وتفاهم بين الوطن الأم وبلاد الانتشار، وهذا مصدر قوّةٍ وغنى الاعلام الذي أضحى مؤسسة عالميّةً.

ويعرف الاعلاميون أيضًا بعض المتغيّرات في حياتهم، في داخل الوطن وفي المنطقة العربيّة التي يكوّنون جزءًا منها. إلاّ أنّ هذه المتغيّرات في الداخل، كما في الخارج، لا تنفي وجود ثوابت عندهم، في تصرّفهم السياسيّ، وفي خياراتهم الأساسيّة، أي في كلّ ما صار جزءًا هامًّا وجوهريًّا من هويّتهم الثقافيّة والروحيّة والاجتماعيّة، ومن التاريخ الطويل الذي ربط هذه الهويّة بكيان الوطن. ولا بدّ من التأكيد في هذا السياق أنّ المثقفين المنتشرين معنيّون بدعوة بلدهم هذه، وبالحفاظ عليها أسوة بإخوانهم المقيمين. فالمهاجر لا يتنصّل في هجرته من تراثه الإنسانيّ والقيميّ. وهو إن فعل، فإنّه يتنصّل من ذاته الجماعيّة ومن إرثه الحضاريّ ويعري جذوره من عمقها التاريخيّ. ونحن نشهد اليوم تثبيتًا لهذا الأمر في اعتبار الحضارات مدعوّة إلى أن تلتقي عند الشعوب، وإلى أن تتكامل في حوار يغني الجميع ويعود بالنفع على الإنسانيّة بأسرها.

ان الهجرة رسالة حضاريّة بامتياز تعني الشرق والغرب والعالم بأسره، وبخاصّة في هذا الزمن الذي يفتّش العالم فيه عن أسباب جديدة للإيمان بالعيش المشترك بين أديانه وحضاراته. وانطلاقًا من هذا الاعتبار، يصبح الاعلام هو الرسالة وهو القاعدة المشتركة في الفكر والعمل عند السياسيّين والمثقفين والاعلاميين وغيرهم.  

 فالاعلام عند المواطنيين يتمحور حول الحفاظ على الوطن القيمة والكيان، الذي يحمل الرسالة ويتعهدها في خياراته كما في عيشه اليوميّ، وحول تطويره بما يتلاءم مع روح العصر، وهو عند المهاجرين يتمحور حول نشر روح الوفاق حيثما وجدوا، وسلوك طريق الحوار الحضاريّ بين الأديان والانتماءات البشريّة على أنواعها، وفي ذلك ما يدفعهم الى التعمق في ذاتهم الحضاريّة وتوسيع أرجائها على الآفاق الجديدة ولو كانت غريبة.

في هذا الإطار الشامل لا يبقى الالتزام بالوطن موقفًا خاصًّا تتّخذه مؤسسات الاعلام مفضّلة وطنًا على غيره من أوطان الأرض، بل يصبح سلوكًا جماعيًا يحافظ به الاعلاميون على إرث ثمين لهم ولغيرهم من الناس. فالوطن كالعراق ومصر وغيرهما مثلا، الذي يتمسّك به الاعلاميون مع إخوانهم الاخرين في الاختصاصات المختلفة هو في الحقيقة تجسيد لقيم ناضلوا معًا في التاريخ لأجل صونها ورفع شأنها، ألا وهي الأمانة لله والحقيقة والانسان مهما كلفتهم، وقيم الحريّة بكلّ أبعادها الروحيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وقيم العيش المشترك الكريم والسلام بين أبناء البشرية وعموما والاديان والافكار في العالم، وسلوك سبيل الآخر مهما كانت صعبة إذ أنّها تقضي بالخروج من الذات. 

هكذا فهم الاعلاميون بلدهم، وهكذا أرادوه منذ البداية موئلاً للحريّة الدينيّة الكاملة وكل وجوه الحريّة، لجميع أبنائه، ومجتمعًا يكرّس المساواة في الحقوق والواجبات بين مواطنيه، بحيث أنّ هذا الوطن لن يبقى على صورته هذه إذا ما فقد لا سمح الله ميزة الحريّة فيه وميزة المواطنيّة المتساوية لكلّ أبنائه، والمشاركة الكاملة في الدولة والحكم في ما بينهم جميعًا. ليكون الدستور المقر شعبيا بوصفه مدخلاً إلى حياةٍ سلميّةٍ جديدة في البلاد، مع التزام لا يقبل الجدل بقيم البلاد الأساسيّة وبتفعيلها بشكل يتلاءم مع هويّتها التاريخيّة ومتطلّباتها.

فلابد للسياسيين كما الاعلاميين، من اجل عالم تسوده الادالة والسلام، يحملون ما ادعوا به عيش مشترك جديدة، ومن قيم إيمانهم وحريّتهم، ومن اداء من ان أيديهم الممدودة للتعاون، حيث أنهم في إعادة إنتاج تحكمهم وسلطتهم، يخشى أن يضيّعوا شيئًا أساسيًّا إن هم ضيّعوا ارتباطهم بتاريخهم، أو إن فقدت اطروحاتهم وتجربتهم عند الحكم شيئًا من وهجها وقيمتها، ليتحول الظالم الى مظلوم والمظلوم الى ظالم، وهذه مأساة وكارثة فكرية وانسانية وربما دموية بمرور العناد والتصلب والتطرف.

 إنّ السياسة الحديثة مترابطة بين موطن ما والعالم، وهي مترابطة حكمًا إذا ما أرادوا الحفاظ على هويّتهم واستقلالهم وحريتهم ومعتقداتهم ونهضتهم، فمن الضروريّ للسياسيين كما لكل المثقفين واصحاب الرؤى أن يكتشفوا هذه الهويّة كي يكون التعاون فيما بينهم جميعًا أكثر فاعليّة في مواجهة المشكلات الملازمة لاستمراريّة هذه الهويّة وهذه المنهجية.

لقد ميّز الله عزوجل، منطة العرب فجعل منها مساحة حوار مع البشريّة جمعاء. وهذا يلقي على الاعلاميين والمسؤولين ومنهم السياسيين مسؤوليّة متبادلة، باعتبار أنّ الجميع جزء لا ينفصل عن حياة المجتمع، كاملو العضويّة في الجماعة الوطنيّة بكلّ ما لهذه الجماعة من حقوق وواجبات. على الجميع العمل على تخطّي الصعوبات ان وجدت، وتوفير شروط التلاقي والحوار البنّاء، فيبقى وطننا العزيز أرضًا طيّبة لعبادة الله ولرقيّ الانسان وحرية كائن من يكون ان اتفق معنا أو خالفنا منهجا أو دينا أو انتماء.

 

وأخيرا:

على رغم ما يلقاه الاعلاميون خاصة والمثقفون عامة من تحد ومآسي، فإنّ قدر الاعلاميين وخيارهم هو أن يتمسّكوا برسالتهم التاريخيّة، وأن يكونوا عامل تواصل في هذا العالم فضلا عن بلدانهم بين مكوّناته المتعدّدة وبينه وبين العالم، وقوة دفع نحو المستقبل في مواجهة التخلّف. إنّهم جماعة لها دور فاعل من خلال تواصلها وتفاعلها مع كلّ الجماعات في رسم مستقبل مشترك لها ولهم، يقوم على المبادئ التي تؤمّن للإنسان حريّته وتحفظ كرامته وتوفّر له العيش الكريم.

وإنّ أهمّ التحدّيات التي تواجه الاعلامين، والمتّصلة بالشأن السياسيّ، تبقى بالعودة أوّلاً إلى هويّة الاعلام، القائمة على قيم الحريّة، ونشر روح الوفاق والعدالة والسلام، وسلوك طريق الحوار والتواصل والانفتاح والمحبّة، فنشهد للحقيقة والعدل والسلام في عالم متغيّر في ظلّ دولة ديمقراطيّة تضمن مساواة الأفراد في الحقوق والواجبات كما تضمن احترام التنوّع في عالم ايضا يشهد انقسامات بليغة في هذا المجال، متضامنين مع العالم العربيّ لمواجهة مقولة صراع الحضارات التي تضع الاديان والافكار عموما بعضها في مواجهة البعض الآخر، فنرتفع إلى مستوى مسؤوليّاتنا وأصالتنا ورسالتنا في هذه المنطقة من العالم، آخذين بعين الاعتبار حرية الاعلام للتشبّث بثوابته وخياراته الأساسيّة، المستمدّة من قيَمه، بهدف بناء مجتمعات تعالج مشاكل الفقراء والمعدمين وقضايا العدل وحقوق الإنسان والنهضة علما ومعرفة. لاقول في تهاية الموضوع ربما صلاحيات السلطة تعطي مفاتيح لاتهام هذا أو ذاك بالخيانة، ولكن بماذا سيوصف السياسي أو الحاكم والمسؤول عند القضاء على الحقيقة في الاعلام .

.................................................................................................

bahaaldeen@hotmail.com

bahaa_ideen@yahoo.com


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


بهاء الدين الخاقاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/03/22



كتابة تعليق لموضوع : حرية الاعلام والسلطة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net