صفحة الكاتب : د . محمد عبد الرحمن يونس

قراءة في ديوان الشاعر جابر علي خليل(( طيف))
د . محمد عبد الرحمن يونس

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لعلّ التيمة الجمالية الأساسية في ديوان الشاعر جابر علي خليل هي تمية الحب، هذا الموضوع الذي نال فضاء واسعا في الخطابات الإبداعيّة العربية المعاصرة، سواء أكانت قصة أم رواية أم مسرحا، وهي ترتدي عند الشاعر حلّة بهيّة ألقة، تحتفي بالمرأة احتفاء رومانسيا مهما جدا يليق بها، ولا نغالي إذا قلنا إن الشاعر جابر خليل من أهم شعراء الرومانسية المعاصرين في مدينة اللاذقية السورية، هذا الشاعر الشفيف الذي يتدفق عذوبة وبهاء على المستوى الإنساني والإبداعي والاجتماعي، ولا أقول هذا الكلام لأن الرجل صديق لي، بل لأنّ قصائده الناضحة عذوبة وصفاء وتألقا تبوح وجدا وعمقا شعريا، وصورا متجددة، على الرغم من رومانسيتها. وتشكل الأنثى في خطابه الشعري بنية رئيسة، فهي المعادل الموضوعي لغربة الروح والجسد، وإذا ما هجمت المواجع العديدة: مواجع الروح والغربة والوحشة، والإحساس بالفاجع والقتامة، فإن سحائب الأنثى هي الخيّرة المطيرة، وهي القادرة على قهر هذه المواجع، وهي البلسم لروح جريحة توّاقة إلى الطمأنينة والأمان والمحبة، والأنثى وحدها القادرة على النفاذ إلى مسامات الروح، وشغاف القلب.
يقول الشاعر:
\"لا تعجلي...
قبل الرحيل تمهلي...
عندي إليك من المواجع حفنة
ومن الهموم...
سحابة لا تنجلي
إن ترحلي...
مع من أقاسم غربتي...
مع من سأشرب قهوتي...\" ص 17 ـ 18.
 عرفت الشاعر جابر خليل من ديوانه الأول \" ضفائر من خيوط الشمس\"، هذا الديوان الذي نال احتراما وتقديرا  يستحقهما بجدارة في الأوساط الأدبية، ومنذ تجربته الأولى في هذا الديوان، لا يزال يعمل بصمت بعيدا عن كواليس الصحافة وشلليتها وعلاقاتها، ولم يكن همه أن تسلط عليه أضواء الكاميرا، وأضواء الصحف والمجلات الأدبية، ولم يسع هو إلى أضواء الشهرة، وأضواء الاحتفاءات الصاخبة ومفرقعاتها.
 هذا ولم يقتصر إبداع الشاعر على تشكيل النصّ الشعري، بل تعداه إلى كتابة القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، فقد نشر عدّة قصائد، ولديه مجموعة قصصية جديدة لم تنشر بعد، بالإضافة إلى كونه قارئا متميزا في شتى صنوف المعرفة وألوانها. هو يقرأ بصمت، ويشكّل قصائده بصمت، وتدفعه روحه الوثّابة، لأنّ يظلّ متابعا لما يكتب في الساحة الثقافية، إبداعا وفكرا ونقدا ودراسات، يضاف إلى ذلك هذه الروح النبيلة التي تنضح عذوبة وإنسانية ودماثة، والتي يكتشف ملامحها النبيلة كل من يتعامل معها.
 وأعود إلى خطابه الشعري الذي يحتفي بالمرأة احتفاء الفراشات بالورود، واحتفاء النوارس بالبحار الأليفة والمرافئ التي لا تهدأ صواريها، فالمرأة هي الحبيبة، وهي اللغة، بل هي معاجم اللغة وقصائدها وحروفها. يقول:
\" أنت الحبيبة
والحروف على فمي...
لغتي..
لساني...
معجمي وقصيدتي...
قلمي...
أنا كيف أكتب...
لو فقدت أناملي!\" ص 19.
هي الغيث، وهي الربيع، وهي الأقمار المشعّة، والمناهل العذبة، التي تملأ خبايا الروح والذاكرة ارتواء وعذوبة وشفافية:
\" ياقطرة الغيث المندى
هل نويت على السفر
ياماء
صحرائي جفاها الغيم
وامتنع المطر
إن ترحلي
يغد الربيع بلا اخضرار
والسماء بلا قمر
يا منهلي الفرات الخصب\". ص 20.
 ويذكّرني احتفاء الشاعر جابر خليل الرومانسي بالأنثى المعطاءة، الأنثى الخصب، الأنثى الأقمار المشعّة في حياة الفرد وخبايا روحه، بأنثى الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب في ديوانه\" أنشودة المطر\"، ولا نغالي إذا قلنا إن جابر خليل هو آخر الشعراء الرومانسيين في مدينة اللاذقية.
 ولا يقف خطابه الشعري عند حدود الرومانسية وأبعادها وآفاقها وتجلياتها المعرفية لغة وصورة وتشكيلا معجميا، بل هو يطعّمها برؤية ساخرة بكل ما هو مستهجن وقبيح في حياتنا المعاصرة. وإذا كانت الرومانسيّة في بنيتها العميقة ـ بالإضافة إلى كونها تحتفي بالحب والمرأة احتفاء خاصا ـ تحمل رفضا للواقع الأسود بكلّ تناقضاته وعيوبه ودونيته، فإنّ قصائد الشاعر جابر خليل هي الأخرى تحمل بنى هذا الرفض، وتحثّ عليه، وتدعو إلى تخطي كلّ ما هو مرذول ومستهجن في واقعنا الروتيني المعقّد، وفي دوائرنا الإدارية المحكومة ببيروقراطية فاسدة وخانعة وبليدة، ففي قصيدته الموسومة بـ \" أيها الشاعر عذرا\" يتقدّم الشاعر إلى دار البلدية ليأخذ ترخيصا لبناء بيت ريفي صغير أملا في أن يلوذ به، من جحيم المدن المعلّبة، قاتلة الروح والفرح، لكنه يفاجأ برفض البلدية، وبالتالي وأد طمأنينته الروحية، وحلمه بامتلاك هذا البيت:
يقول في القصيدة:
\" هل أهاجر..؟!
هل أسافر..؟!
قلت أبني منزلا..
كوخا.. ولكن
القوانين كثيرة...
والمحاذر كثيرة...
أخذوا الأوراق مني
قلّبوا كلّ الدفاتر
حجبوا الترخيص عني
أسدلوا كلّ الستائر
ثمّ أفتوا:
\" هذه الأرض صغيرة\" . ص 36 ـ 37.
 وإذا كانت سمة الحزن والألم، والشكوى من فواجع الحياة ومآسيها إحدى سمات الرومانسيّة الشعريّة العربيّة المعاصرة، فإنّ قصائد الشاعر جابر خليل تحتفي بهذه السمة، فالحياة في الخطاب الشعري عنده، تصبح جحيما، وأرقا يهدد منى الروح، ويقضّ مضاجع الأماني والأحلام، وبالتالي ينكسر جموح هذه الأحلام على صخرة الواقع الصلدة، يقول في قصيدته الموسومة بـ\" هذي الحياة\":
هذي الحياة جهنم يا صاح     فكم استعرت بجمرها اللفّاح
أمسي على نار تهدد مضجعي   أصحو على ألم تئزّ جراحي. ص 39.
 وتجسّد الرؤية الشعريّة بديلا موضوعيا من آلام الحياة وقسوتها باستحضار فضاء البحر. ولعلّ فضاء البحر في الخطابات الإبداعيّة العربية المعاصرة من أهمّ الفضاءات التي تنمو فيها هذه الخطابات امتدادا وعمقا وبعدا دلاليا معرفيا. يقول:
\" يا بحر خذني قد مللت مرافئي   ومواكب التجار والسياح\".
وعلى مرافئ الحياة العربية المعقدّة الموحشة والكئيبة تنكسر أحلام الإبداع وأخلاقياته الجمالية المعرفية، ليحل بدلا منها أخلاق السطوة والتجار، والاستهلاك والسلعة، وأخلاق المال، الأخلاق التي تزيد من انحطاط المجتمع أخلاقيا وإنسانيا ومعرفيا، وتسهم في تخريب بناه الإنسانية والحضارية المعرفية ، يقول في القصيدة نفسها:
وظننت بالأخلاق ترفع رايتي       أسلمت عيشي للردى بسلاحي
أبحرت في شعب البلاد فلم أجد    غير القروش وسطوة الأشباح. ص 40
 إننا نلمح في خطابه الشعريّ صورا جمالية ذات إشارات رمزيّة بعيدة  الإشارة، فعلى سبيل المثال نجد الشاعر يشير إلى أن من يعطي في عالمنا العربي المعاصر، بشرف وكبرياء، باذلا جهوده وتعبه وعرقه لخدمة مجتمعه الإنساني لا ينال جزاء عادلا على عطائه، لأن الأخلاق العامة السائدة في نسق الواقع هي أخلاق الانتهاز والتجارة والسمسرة، والاستهلاك، وليست أخلاق المبدعين والعقلاء علما ومعرفا، يقول الشاعر في القصيدة نفسها:
كالقزّ يخنق نفسه بخيوطه  فيفرّ      من عينيه ألف صباح. ص 40.
 وأترك القارئ الكريم مع هذه المجموعة الشعريّة ليكتشف صورها الجميلة وهموم قصائدها، وبعدها المعرفي والإنساني وخطاباتها الفكرية، وليرى كم هي شفيفة هامسة بالوجد والبوح، والإبداع الثرّ لغة ورؤيا وتشكيلا.

طيف، شعر، جابر علي خليل، دار إدريس للطباعة والنشر والتوزيع، حمص، سوريا، الطبعة الأولى 2010م./1431 هـ

د. محمد عبد الرحمن يونس
باحث وقاص وروائي وأستاذ جامعي


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد عبد الرحمن يونس
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/01/30



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في ديوان الشاعر جابر علي خليل(( طيف))
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net