صفحة الكاتب : د . سعد الحداد

أدب الحلة وأدواره الستة
د . سعد الحداد
مازال اعتقادي قائما أنّ في الحلة كنوزاً باهرة مما خلّفه أبناؤها، لكن بعض الأحفاد جعل من تراث أجداده صندوقا مقدسا لايجوز المساس به أو إخراجه الى النور، مما يعني حرمان الآخرين من الفائدة المتوخاة من ذلك الإرث . وفي الغالب يتبادل الابناء الأدوار ذاتها . وهذا تكريس للجهل بعدم نشر ثروة هي بحكم الحق العام وليس حكراً على بيت من البيوت أو شخص من الأشخاص اذا علمنا أنهم لم يستفيدوا من طمرها شيئا . 
أسوق هذا المفتتح وبين يدي كتاب جديد للمرحوم الدكتور جواد احمد علوش ( المتوفى سنة 1975م) استطاع الأستاذ الدكتور صباح نوري المرزوك انتشاله من خانة الضياع ليظهره للناس بحلة بهية ويقدمه زادا معرفيا مهماً يسلط الضوء على تاريخ الحلة الأدبي .اسماه مؤلفه ( أدب الحلة ) . 
والمؤلف هو الأستاذ المشارك الدكتور احمد جواد علوش ولد في الحلة سنة 1926م على الأرجح ، حصل على الليسانس من كلية الآداب في جامعة القاهرة سنة 1950م ثم الماجستير سنة 1952م بعدها عاد الى العراق ليعمل مدرساً و معيدا ثم مدرسا مساعدا في كلية التربية جامعة بغداد ، حصل سنة 1976 على الدكتوراه من المملكة المتحدة / كلية الدراسات الشرقية في جامعة درم ليعود للعراق فيشغل منصب مساعد رئيس الجامعة المستنصرية وأستاذا في كلية الأصول وكلية الفقه وانتدب للتدريس في الجامعة الأردنية وشارك في العديد من المؤتمرات العربية الخاصة بالجامعات ، توفي رحمه الله في الخامس والعشرين من كانون الأول سنة 1975م. 
كان الدكتور علوش أستاذاً ومربيا جليلاً وباحثاً دقيقاً ،خلّف إرثا من العطاء تمثّل في مؤلفات مطبوعة وأخرى مخطوطة ، وأشهر كتبه المطبوعة ( أدباء حليون ) المتضمن دراسة لشعر عشرة شعراء حليين مشهورين ومغمورين وكتابه ( شعر صفي الدين الحلي) الصادر سنة 1959م وغيرها . أما كتابه الذي يرى النور اليوم والمعنون بـ( أدب الحلة) فهو واحد من الكتب التي سار به على النهج الذي اختطه لنفسه في إظهار واجب الاهتمام بهذه المدينة وأدبها، التي اتسعت نهضتها الفكرية والأدبية بفعل عوامل ازدهار متعددة أهمها ثلاثة على رأي المؤلف :
أولها ان الأمراء المزيديين الذين أسسوها يحبون الأدب ويكرمون الأدباء والشعراء ويجزلون لهم العطاء، وقد شاركوا مشاركة فعلية في النهضة الأدبية ويستمعون الى قصائد الشعراء وينقدون مايستحق النقد .
وثانيها انّ بيئة الحلة عربية خالصة لأنها قريبة من البادية موطن الفصحى الأول، ولأنّ المزيديين عرب اقحاح من بني أسد .
وثالثها لأنّ الحلة تمتاز بجمال مناظرها الخلابة وسحر طبيعتها الغانية وهذا مما يحسّ به بشعر جميل رقيق وقد سلمت هذه النهضة الأدبية من هجمات المغول من الدمار و الخراب . 
استهل المؤلف كتابه مجيبا عن تساؤل أطلقه بقوله: من هو الأديب الحلي ؟ ليصل بالنتيجة الى اعتماد التعريف الذي اتخذه منهجا في تأليف كتابه قائلاً( الأديب الحلي هو الذي أنتج أدباً في الحلة متأثراً بها ، ومتّسماً بسماتها ، متّصفاً بخصائصها ). ثم يخطو الى الأدوار التي مرّ بها الأدب الحلي بين الارتقاء والانحدار ، متوقفا أمام جملة من الأدوار السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ولّدت اختلال الحياة الأدبية وأخرى أنتجت ازدهارها . لذلك قسّم المؤلف الأدوار الى ستة ادوار : 
الدور الأول ( فجر النهضة ـ الحلة في ظل المزيديين 495ـ 545هـ ) ابتدأه بالحديث عن نشأة المدينة وتأسيس حضارتها من خلال أبنائها من الشعراء والوافدين عليها مشبّها الإمارة المزيدية بالإمارة الحمدانية في حلب في القرن الرابع الهجري من حيث أصالتها العربية ومباركة الخلفاء العباسيين لقيامها والاحتفاء بالمبدعين على اختلاف مشاربهم من قبل حكامها وإقامة مجالس العلم والأدب والشعر . وماكان يحصل من إجزال العطاء وكثرة الهبات لما تتمتع به خزينة الدولة من ثراء وغنى ، فضلاً عن المقارنة الأخرى في قِصَر عمر الإمارتين لخوضهما حروبا متعددة . وكان الوافدون من الشعراء لهم النصيب الأوفر في ازدهار الحركة الأدبية فيهما ، أمثال الشاعر أبو الطيب المتنبي في إمارة الحمدانيين والشاعر محمد السنبسي الطائي الهيتي في إمارة المزيديين . وقد عقد المؤلف فصلاً مستقلاً عن الأخير دارسا في سيرته وشعره. 
 
وكان الدور الثاني ( دور الارتحال) وتضمن أدب الحلة تحت الحكم العباسي ( 545ـ 656هـ ) وأرّخه بوفاة ثامن الأمراء المزيديين علي بن دبيس مما أدى الى تقويض الآمال وإصابة الحياة العلمية والأدبية بالفتور . فضرب كثير من الأدباء والعلماء الحليين في الأرض متجهين صوب الحواضر الإسلامية والمدن الكبيرة الشهيرة . فمنهم من سافر للعمل والكتابة وذهب بعضهم الآخر للتدريس أمثال شرف الدين محمد بن جيا ( 579هـ) الذي رحل الى بغداد وابن أبي الهيجاء الحلي الذي رحل الى اربيل ومات فيها سنة ( 561هـ) وشميم الحلي الذي رحل الى بلاد الشام ثم الى مصر ثم الى الموصل ومات فيها سنة ( 601هـ ) ومهذب الدين بن الخيمي الذي غادر الى الشام ثم الى مصر ومات فيها سنة ( 642هـ) ، وآخرون كثيرون . وبالمقابل وفد الى الحلة مشاهير من أدباء وشعراء منهم الشاعر أبو الفوارس بن شهاب الدين .
وعقد المؤلف فصلاً للشاعر راجح الحلي ( 570 ـ 627هـ ) ممثلاً لهذا الدور واصفاً إياه بسفير شعراء الفيحاء الى الشام والشهباء ، وتحدثاً عن سيرته وشعره .
 
أما الدور الثالث فحمل عنوان ( دور الازدهار ) وتضمن أدب الحلة في أيام المغول والتركمان ( 656 ـ 914 هـ ) ومفتتحه سقوط بغداد بيد هولاكو وما آل ببغداد من خراب وتقويض لأركان العلم والأدب فيها . فعمد قسم من أربابهما الى الهجرة نحو مدينة الحلة التي سلمت من طيش الغزاة ودمارهم . فذاع صيتها أكثر واهتم بها السلاطين والأمراء ، وكان ولاتها من العرب وكثير منهم من أهل الحلة نفسها ، فأفادوا المدينة وأهلها ودفعوا بركب نهضتها شوطاً بعيداً من التقدم . وقد وصلت الحلة في هذا الدور الى الذروة في نهضتها العلمية والأدبية .
وازدادت أهميتها بزوال الدولة الايلخانية التي خلفتها الدولة الجلائرية، وكانت لها صولات في عالم السياسة والحرب والعلم والأدب . وبرز في تلك الحقبة كثير من العلماء والفقهاء ونحوهم أمثال آل طاووس وآل معيّة الهذليين وآل نما الربعيين وآل وشاح الاسديين والسوراويين و القائمة تطول .
وقد خصّ الدكتور احمد جواد علوش هذا الدور بالحديث عن الشاعر صفي الدين الحلي ( 677ـ 750 هـ ) متناولاً سيرته وأدبه وشعره .
 
والحديث في الدور الرابع المعنون ( دور الجمود والانحدار) يتضمن أدب الحلة في أيام المحنة و لظى النزاع بين الصفويين والعثمانيين( 914ـ 1240هـ) وحملات الوهابيين التي عصفت بالمدينة الآمنة وأثارت فيها الرعب والدمار مقرونة بعمليات السلب والنهب . مما أدى الى تضاؤل سوق الأدب والعلم نتيجة انشغال الناس بأمور الحياة العسيرة التي رافقت الأحداث الجسام بصورها المريرة وتكالب حثالة البشر من الأوغاد على حاضرة المعرفة الآمنة الوادعة ، كذلك هجرة بعضهم الى بلدان وحواضر أخرى كأبي الغنائم محمد الحسيني وجمال الدين محمد بن عواد الهيكلي الى الهند ، والسيد يحيى بن احمد الاعرجي وابنه السيد حسين الاعرجي الى إيران ، وهاجر آخرون كثر استقروا في أنحاء متفرقة من العراق . وأدى هذا الوضع الى انتقال مركز العلم والأدب الى مدينة كربلاء وبذلك استطاع الحليون الحفاظ على ما أسسوا من نهضة علمية وأدبية وانتشالها من الموت والفناء بعد تعرضهم لموجات الغدر والهمجية الرعناء .
ويعرج المؤلف الى التأكيد على امتياز هذا العصر بامتزاج الأدب العربي بالآداب الأجنبية وتأثرها به ، كالأدب الفارسي والأدب التركي. وقد ظهر في هذا الدور فنّ نثري جديد هو( البند) . ومن ابرز الذين أبدعوا فيه الشيخ محمد ابن الخلفة الحلي .
ويقول الدكتور علوش ( كان معظم أدباء هذا العهد فقراء محتاجين ، ولا يتكسبون بشعرهم وأدبهم فمالوا الى الاشتغال بالحرف والصناعات .... لكن هذا العمل لايلههم عن تلقي الأدب ودراسة العلم ونظم الشعر وتأليف المصنفات وعقد الاجتماعات الأدبية) .
واختار المؤلف نموذجا مثّّل هذا الدور بتنقلاته وعودته الى المدينة وما أنجزه من أدب وشعر وهو الشاعر الشيخ احمد الخياط النحوي( المتوفى 1183هـ) .
 
واستكمل الحديث عن الدور الخامس واصفاً إياه بـ( دور النهضة الجديدة) وتضمن أدب الحلة في عهد الولاة العثمانيين ( 1241 ـ 1340 هـ) إذ كان بعض الولاة من المحتلين قد أحسوا بضرورة الإصلاح ومنهم علي رضا باشا وعمر باشا ومدحت باشا واخذوا يشجعون الأدباء والعلماء ويقدرونهم حق قدرهم . فضلاً عمّا كان يحدث من نهضة حديثة في سائر العلوم والفنون في لبنان ومصر ، وظهور الصحافة الذي أدى الى بروز ظاهرة كثرة الأدباء والشعراء في الحلة تحديداً. وأصبح الكبار منهم يعدون بالعشرات أمثال محمد بن مطر ومحمد بن سليمان وصالح الكواز وآل القزويني وآل العذاري وآل الفلوجي وآل سليمان الحلي والقائمة حافلة بأسماء المبدعين .. غير أن الدكتور علوش آثر الوقوف عند شاعر الرثاء الكبير السيد حيدر الحلي ( المتوفى 1304هـ) ليفرد له فصلاً مستقلاً في سيرته وأدبه وشعره.
 
واختتم المؤلف كتابه بالحديث عن الدور الأخير الذي اسماه ( الأمل الباسم) وتضمن أدب الحلة منذ تأسيس الحكومة الوطنية 1340هـ حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز سنة 1958م. وهذا الدور المتداخل مع الدور الذي سبقه أنتج عددا لايحصى من الأدباء والشعراء والعلماء وانتشار مساحة الثقافة ووسائل التعليم المختلفة من مدارس وكليات ومعاهد وبعثات وانتشار التأليف وتطور حركة الطبع وغيرها من الأمور التي أدت الى زيادة الوعي داخل المجتمع الحلي المصاحب لحركة الإصلاح داخل العراق وخارجه ، فكثر شعر المناسبات وتطورت مفاهيم الأدب حتى أصبح قوة جبارة . وكان لبروز أسماء لامعة في سماء الأدب والشعر الحليين ما لايمكن إحصاؤه في القرن الماضي حتى اليوم .
ووقف المؤلف عند الشاعر والصحفي المحامي رؤوف الجَبّوري متتبعاً لسيرته وأدبه . فهو مبدع حلي نابه وشاعر مطبوع ، كره التقليد وأحب أن يكون الشعر صادراً عن فطرة سليمة جياشة ، غير ان المنية عاجلته وهو في ريعان شبابه إذ توفي عن سبع وثلاثين سنة.
 
ويختتم الدكتور احمد جواد علوش كتابه الماتع بدراسة مهمة عن الأدب الحلي وأسباب رقيه وسماته في إحدى عشرة فقرة هي( تشجيع الأمراء ، مشاركة الأمراء ، المجالس الأدبية ، احتفالات المحرّم ، طبيعة الحلة ، بيئة الحلة العربية ، عزوف الأدباء والعلماء عن السياسة وانشغالهم بالعلم والأدب، الترف المزيدي وكثرة العطاء لأهل العلم والأدب ، نجاة الحلة من هجمة المغول ، شراء الكتب من بغداد ونقلها الى الحلة ، المنافسة الخارجية والداخلية ، ثم درس سمات الأدب الحلي في حقلي الشعر والأدب وقيمة الشعر وما يمثله من ادوار حافظ فيها على روحه الخالصة إبان الغزو الخارجي المتواصل.
أما النثر فقد تناوله المؤلف بدراسة مستقلة أوضح فيها عن مميزاته وفنونه في الرسائل والبنود والخطابة والمقامة والمؤلفات .
 
أقول أنّ هذا المؤَلف يقع بـ ( 179) صفحة من القطع الوزيري وهو جهد مميز حدد المحطات التي عاشها الأدب الحلي ، وقدم لنا جانباً من عطاء الحليين المبدعين عبر مسيرة طويلة من الإبداع . وأقول شكراً للأستاذ الدكتور صباح نوري المرزوك الذي بذل جهداً طيباً في نشر وإصدار الكتاب من خلال تحقيقه وحين قدّم له بمقدمة شملت التعريف بالمؤلف والمؤلف ، ولولا جهود الدكتور المرزوك في التحري عن هذا الكتاب لضاع هو الآخر في طي النسيان . فله حسنة إصداره ، وله منّا تحية وتقدير ، ولجامعة بابل ممثلة بمركز بابل للدراسات الحضارية والتاريخية التي نهدت بطبع الكتاب ومازالت تتواصل بنشر كل ما يتعلق بتاريخ مدينة الحلة الفيحاء المتنوع في المعرفة ضمن سلسلة بديعة من العناوين لأساتذة كرام من داخل الجامعة وخارجها خدمة منها للحلة وتاريخها المعطاء . 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سعد الحداد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/04/19



كتابة تعليق لموضوع : أدب الحلة وأدواره الستة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net