صفحة الكاتب : حيدر عاشور

قصة قصيرة المسرة العقيمة
حيدر عاشور
تـأتي المسرة متأخرة بعد طول عناء وشقاء وبعد فصول الكدح والعوز والفاقة ، تفتح ابواب الحظ على مصراعيها  وعليه أن يستريح ويتخلص من عمله كحارس في هذا الملتقى الادبي الكبير الذي يعج بمختلف الشخصيات وصنوف المثقفين ،شعراء وقصاصين ، وصحفيين ورسامين ،كان يراهم ينغمسون في احاديث ونقاشات حادة تصل الى حد التخاصم والعراك لكنهم في نهاية الجلسة يخرجون معا وهم يتبادلون الضحكات .
هل حقا سيغادر اجواء الفقر والراتب الضئيل الذي لا يكاد يسد حاجاته وحاجات زوجته وأولاده الثلاثة وهو يردد اّيات الترحم على ابيه الذي وافاه الاجل في الايام الاخيرة ،واكتشف الجميع انه ترك املاكا وأموالا كبيرة ،وشعر بالنشوة والزهو وقد ابلغ بالتفاصيل ،وان هناك جلسة سيترأسها مع اخوته باعتباره الابن الاكبر .
وحين بدأت الجلسة شعر بأن صدمة مروعة ومفاجأة مرعبة صفعته وأطاحت بكل أحلامه وأماله التي غرق بها في الايام الاخيرة فقد تحدث اخوه الاصغر عن التركة وختم حديثه بأن عدنان لا يستحق شيئا : لأنه ليس شقيقنا ،انه اخونا  من الأم والشرع والقانون والأعراف العشائرية لا تبيح لنا اعطاءه شيئا .
كانت زوجة عدنان بانتظاره لتعرف حجم التركة والورث لكنها فوجئت بأن زوجها غرق بأحزان وصمت غريب ،لم ينم ليلته فقد شعر بانه مخدوع او موهوم وفجأة يكتشف ان الذي كان يمثل اباه هو في الحقيقة ليس بابيه وانطلق الى امه وخاله ابو معتز فهما موضع السر واخذ يصرخ بوجهمها :
- من هو ابي ،ولماذا اخفيتم عني الحقيقة كل هذا العمر ... نظرت اليه الام بحنانها المعهود وطلبت منه الهدوء وان خاله سيقص عليه ما جرى ورمقه خاله بنظرة ذات معنى وبدأ يسرد له الاقدار التي حتمت هذه الصدمة واردف :
- ليس في الامر خداع فابوك تاجر كبير اسمه قيس وحين ولدت نشب خلاف مع الام وتم الاطلاق وبقي الرجل يبعث راتبك الذي اتسلمه من مقر شركته في الكرادة وللامانة فان لديك شقيقة اسمها عدوية وهي دائمة البحث عنك وهي الان تعيش بين سوريا والاردن لادارة الاعمال التجارية الكبرى .
وفي وقت مبكر من اليوم التالي شد عدنان الرحال باتجاه موقع الشركة وقرأ اسم الشركة من بعيد (شركة قيس للاستيراد والتصدير ) لكن عيناه لمحتا  لافته سوداء تحتل مساحة من الواجهة وكتب عليها نعي لوفاة صاحب الشركة قيس عبد المجيد وستقام الفاتحة على روحه في احد مساجد مدينة عمان .
هيمن عليه حزن غريب لموت ابيه الحقيقي وهو لم يره بعد وانقضت ايام وعاود الذهاب الى الشركة ليظفر هذه المرة بالسؤال عن اخته عدوية وقد ابلغ المدير المسؤول بأنه شقيق عدوية وابن المرحوم قيس بعد ان تضايق الجميع من تردده الى الشركة لاكثر من مرة ... دهش الجميع واحتضنوه وابلغوه بأن عدوية اتصلت وستاتي الى بغداد لتصفية الامور المالية والتجارية .
الاحزان تأتي وتغرق الجميع مثل الامطار والسماء اما مليئة بالفقر والنجوم بعيدة والحظ العاثر واما ان تأتي في الختام طوفان يقتلع الجذور ويهز اركان كل شيء ... احتضن اولاده وهو يبكي بحرقة والم للمصير الذي وجد نفسه فيه والاقدار الغريبة التي تحيط  به ... شعر بالغربة القاتلة والى اين سينتمي الى اهله المخدوع بهم ام الجدد الذين  لايعرف عنهم شيئا وبين هذين الاحساسين وجد روحه تعذب على صليب الانتظار لما سيجلبه الغد من اقدار جديدة. 
في غمرة هذه الاجواء المقيتة رن الهاتف قرب وسادته المبللة بدموعه ،كان صوتا ملائكيا :
- مساء الخير ... هل انت عدنان 
- نعم ... من انت .
- امرأة اقرب اليك من حبل الوريد بينك وبينها اقدس رابطه .
- ارجوك ... انا في وضع سيء .
- لاتحزن ياعدنان انا اختك عدوية وغدا يجب ان تاتي الى الشركة لكي اراك وتراني ،فلم يبق الا ونا وانت وذكرى ابينا وامنا .
غرق الاثنان في بكاء هستيري ارتعبت زوجة عدنان لما سمعت هذه التطورات ومجيء الاخت الى بغداد . وقبل ان يذهب الى موعده مع عدوية ابلغ امه وخاله بهذه التفاصيل وحين تفوه الخال بمزحة اراد بها ان يبدد الاحزان قائلا :
- ان الحياة تبتسم لك يا عدنان فانت واختك الوريثان لاموال وشركات كبيرة.
انتفض عدنان بغضب ولو لا ان خاله صاحب المزحة لثار عليه وعلى الرغم من ذلك نقل مشاعره الحقيقية الى خاله : بأنه لا يهتم بالمال ولا بالشركة او الغنيمة بل يبحث عن اسمه واصله يبحث عن ابيه الضائع ومكانته في المجتمع ،فالانسان بلا اب معلوم هو شبهة بحد ذاته وموضع شكوك باختصار الانسان بلا اب فضيحة مؤقوته وعلي ان ارمم هذه الفضيحة الزاحفة على بيتي . حاول ان يفهم الجميع بأن اموال الدنيا كلها وخزائن قارون لا تعادل وجود اب حقيقي واصل محترم في مجتمع يحفل بالوجاهة والفصل والاصل ،انه يبحث عن شرعية او مظلة النسب التي تحميه من كل الالسن والاقاويل .
اخبرته عدوية عبر الهاتف انها تجلس في السيارة الزرقاء عبر الشارع ... ركض باتجاهها ،ترجلت امرأة في العقد الرابع من عمرها ناضجة الانوثة وعليها ملامح الثراء والترف تبادلا التحية والعناق بارتباك ثم اشارت له بالدخول الى مقر الشركة وفوجئ بأن شخصا ثالثا يشرف على المكان واللقاء وعرف انه محامي الشركة والذي تعرف عليه عدنان ونطق المحامي جملة وهو ينقل نظراته بينهما :
- الميراث حسب الشرع وانا ساكون امينا في توزيع التركة للمرحوم الذي اوصاني وانا التزم بالشرع والقانون ووصية الاب .
صرخ عدنان بوجهه:
- انا لا ابكي على الاموال والتركة والغنيمة ياسيدي هي اوراق نسبي وبرهاني الحياتي والاجتماعي ... انا بلا اوراق رسمية وهذه لا تباع او تشترى .. وكل اموال الدنيا لا تسطيع ان تضع لك وجودا ونسبا .. انا اريد حاضنة حقيقية حتى لا اتهم بكل الشبهات .
قالت له عدوية :
- انني اعوضك .
كانت جملتها غريبة وفيها رائحة المساومة على شيء لم يستطع ان يفهمه .. لا احد يفهم معنى ان تكون بلا نسب أي انك مثل طائر بلا ارض تحمل لعنة او وصمة اللا وجود ،للاسف لا احد يفهم ماكان ينوء به عدنان ... صرخ بوجهها  انه لا يساوم على مال الذي يبدو انها قد تربت عليه واصبحت كالعبد المسير تلهث وراء التركة والارقام والعائدات .
- وفري على نفسك الجهد والمال وكل المساومات ،عليكم ان تعطوني اسمي ... انا الان رجل بلا صفة اتعرفون مهنى هذه الكلمة .
استاء من تلميحاتها بانها لا تهدد ولا يمكن لاي انسان حتى وان كان اخوها ان يصرخ بوجهها وظل يدور في دوامة بحثا عن اوراقه الرسمية الثبوتية وهي تلوح له بالمال والكف عن المطالبة .
ولم يجد بدا وتحت استشارة خاله توجه الى المحاكم لا اقامة دعوى قضائية ترد له اسمه ونسبه والشهود هم اعمامي واخوالي والام والمحامي ،وحتى لو لجأت الجهات المختصة الى احدث الوسائل العلمية فلا بد ان يسترد الضائع ارضه المسلوبة .
وبدأت تباشير التأزم تزداد تعقيدا وظلت زوجة عدنان واولاده لا يرونه كثيرا وقد انقطع عنه سبل العيش والعمل وهو يعدو بين محامي الشركة والمحاكم ويدور في الشوارع بحثا عن الاب الذي غيبته الاقدار ... يعدو لحل اللغز الذي تفتق عليه كاللعنة .... ومع مرور الايام وجدت الزوجة ان عدنان قد تبخر فجأة والتهمه غياب تام فمنذ اسبوع وهو لن يات الى البيت ،هرولت باتجاه امه واخوانه وخاله وابلغتهم عن غياب الغريب وبدأت رحلت البحث عن عدنان هذه المرة والجميع يلهث بين الشركة والمحامي ومراكز الشرطة والمحاكم ،ولم تنبئ الايام عن ظهور عدنان بل طوته الاقدار الغامضة بين طياتها ... لكن هاجسا ظل يستعر في صدر زوجته وعقلها بأن عدوية وراء غياب زوجها .. وبدأت تربي ابنه الذي شب فجأة على ان يسترد اباه مرة اخرى.... 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر عاشور
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/05/07



كتابة تعليق لموضوع : قصة قصيرة المسرة العقيمة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net