صفحة الكاتب : ستار عبد الحسين الفتلاوي

قصة قصيرة مجرد ولد صغير
ستار عبد الحسين الفتلاوي
الآن ، في هذه اللحظة بالذات ، يكون التلاميذ الأكبر على الطريق الترابي الضيق . متجهين إلى المدرسة ذات الأكواخ الطينية ، وأيديهم في جيوبهم وعيونهم مغبشة بالنوم . يضربون قطع الحجارة التي تعترضهم ، فيتصاعد الغبار إلى رؤوسهم الضائعة ، أحذيتهم المطاطية تصدر اصواتاً مضحكة تشبه أصوات مؤخراتهم الملوثة بالبراز.
الشارع يمتد متعرجا مع امتدادات النهر المتماهل في جريانه ، شجيرات (الغرب) بأوراقها العريضة المزرقة ، تعرش على جانبي النهر . ذكور السلاحف الكبيرة خانسة في ظلال الشجيرات   ، السرطانات الصغيرة بمقصاتها البيضاء اختفت في حفائر الجرف ، غير آبهة بوقع الأقدام المتعثرة فوقها . تنسحب غيمة بخار خفيفة عن وجه النهر . وتضيع في غيمة الغبار المتصاعدة من بين اقدام الاولاد .
تتمايل حقائب الأولاد المصنوعة من أكياس (الجنفاص) والمزينة بخيوط ملونة ، تتمنى لو تذهب معهم ، كي تقرص المعلمة خديك ، اذا قرأت لها نشيداً ، أصواتهم الواهنة تختلط ببكاء تلاميذ الصف الأول ، تبصق خلفهم عدة مرات . بنت الجيران البلهاء تدير رأسها , وتحك باستفزاز شعرها المغبر المليء بالقمل ، تلوح لك بمودة فتتجاهل ان ترد عليها . هي اعتادت ان تقابلها بوجه خالٍ من أي تعبير. لا تحبها ، ولا تكرهها ، دائما تبقي مسافة ثابتة بينكما .. مسافة فارغة محشوة بالصمت واللامبالاة . تقول لك : أنت تحب بقرتك الحمراء أكثر مني.
تشعر بأنك غير معني بان تجيبها ، حين كبرت قالوا لك : ان البقرة الحمراء هي التي غذتك بحليبها حتى فطامك . لان الحليب نشف عن صدر أمك او لسبب آخر لا تعرفه . ينطق شرود ملامحك المغبرة بالتراب : طبعاً أحب تلك البقرة فهي تعطيني حليبا وتجعلني امتطي ظهرها ، اما أنت فمجرد بنت منبوذة . ماذا تعطيني؟
تأخذ يدك المتعرقة بين يديها ثم تضمها إلى صدرها: حيث اكبر سأكون أمك.. أليس ذلك جميلا؟
تسحب يدك بعنف : لا ليس جميلا ، انا لدي أم ولا احتاجك . 
- لكن هذه المرأة المظلمة ليست أمك ، انها لا تحبك . الا تضربك كل يوم؟
تغمض عينيك وتتخيلها بفمها الواسع ، شفتيها المزرقتين ، ووجهها الطيني وابتسامتها البليدة التي لا تفارقها ، حتى وأنت ترشقها بالحجارة . تمسك بيد طرف ثوبها المرفوع إلى خصرها ، وبيدها الأخرى تضع حقيبتها على رأسها ، تخوض في المياه المخضرة للمبزل.
ترفع صوتها لتسمعك : انظر السمكات الصغيرات يتجمعن حولي آه .. إنهن يدخلن بين ساقي.
تراقبها بصمت وتكف عن رشقها بالحجارة ، كأنك أشفقت عليها 
تقول لك : اسمع لا تخبر أحدا بما رأيت . انه سرنا.
اسمع زقزقة العصافير فأتذكر الفخاخ التي نصبتها لاصطياد القبرات . من يتفقدها الآن؟ لا أحد ، أخفيتها تحت طبقة من التراب وتركت حبات الحنطة ظاهرة لإغواء القبرات بالاقتراب منها.
الحجرة معتمة ، وأنا أشعر بخدر في ساقي النحيلتين .. يداي مركونتان على صدري . أتصنع عدم الاهتمام بالعقوبة التي تنتظرني ، لم اخرج الأبقار من مراحها إلى المرعى . صوت رغائها الحزين يتردد في أذني.
أعاند نفسي في النهوض من فراشي . أفكر .. أمي الآن تحمل حزمة من أعواد الرز الجافة لتقدمها للأبقار الجائعة ، ترفض الابقار الأكل في البداية . تدور مرة او مرتين حول المربط ، تهز رسنها ، يائسة من قدومي لاصطحابها إلى جنتها ، حيث العشب الطري اللامع بخضرته ، والتحرر من قيود رسنها ، حبلها على غاربها ، وشيئا فشيئا ينطفأ بريق الترقب من عيونها السوداء الكبيرة.
تتشمم الأعواد اليابسة . ترفع رؤوسها للمرة الأخيرة نحو الباب , تنفث الهواء والمخاط من أنوفها المفلطحة ، ثم تبدأ بالتهام الأعواد في ذهول صامت . من المؤكد انها حاقدة علىّ ، ولو قد رأتني ستبقر بطني بقرونها .. آه لا أظن البقرة الحمراء ستسمح لي بامتطاء ظهرها العريض مرة أخرى.
يزداد صوت الخربشة في سقف الحجرة ، افتح عيني ، فأجدها تتلوى وهي متعلقة بإحدى حنايا السقف ، تفقد توازنها وتسقط على الأرضية الصلدة للحجرة ، تسكن عن الحركة للحظات ، أتوقع انها ماتت ، ستكون خسارة كبيرة ان تموت حيتنا الرمادية.
كنت أراها بين حين وآخر متعلقة بعضادتي الشباك او تخطف قريبا مني لتنسل تحت الأغراض . أمي تقول دائما : لا تؤذوا هذه الحية والا أكلت الجرذان عيوننا.
صحوت في إحدى الليالي مفزوعا ، وأطلقت صرخة مدوية ، شقت ستار السكون الجاثم على الحقول القصية ، كانت ثمة جرذ يحاول قضم إصبعي ، لم تفزعه صرختي . وبالكاد ضربته أمي فهرب , وهو يطلق صريرا كصرير الباب.
منذ ذلك اليوم تصالحت مع هذه الحية الرمادية . تسامحت في وجودها بيننا مقابل ان تخلصنا من الجرذان بعد موسم الحصاد ، تراقبنا بصمت بعيونها الصغيرة ، في بعض الأحيان ، أمي تجلب لها اسماك الخشني النافقة في حقول الرز المغمورة بالماء.
تختفي الحية لأسابيع بعد التهام وجبتها من السمك.
تصدر عن الحية حركة خفيفة . ترفع رأسها وتنظر ناحيتي ، تنسل بهدوء تاركةً خلفها بقعة دم صغيرة.
أعاند نفسي ولا انهض من الفراش . انظر إلى فراش أمي الخالي ورائحة عفنة تفسد الهواء وتثقله . أمد يدي إلى عيني , أردت إزالة الرمص المتجمع في أطرافها ، لكن لا .. ستكتشف أمي إني كنت مستيقظا حين تجد عيني نظيفتين.
ينفتح الباب ، ويسقط ظل أمي على وجهي ، النور يجتاح الحجرة المعتمة أمي تقف وسط الباب المفتوح ، فيما كان النور يسيل من جانبيها إلى الداخل ، نهر رقراق جارف من الضوء . أتصنع الاستغراق في النوم . قلبي يدق بسرعة وأجفاني ترتجف . تمد يدها وتصفعني على رأسي . تغمغم من بين أسنانها المصفرة : فعلتها في الفراش مرة أخرى يا ابن الملعونة.
أوقفتني على قدمي ، ونزعت (دشداشتي) المبلولة إلى الأسفل . ارمق وجهها المتشنج من بين رموشي . فتصرخ بي : افتح عيونك يا ابن القحـ.....
خشيت ان تصفعني مرة أخرى . فتحت عيني ، منكساً رأسي انظر إلى عورتي الذاوية.
تلبسني (دشداشة) ثانية ، وأنا أترنح في وقفتي . تقودني من يدي إلى الخارج ، وتحكم  إغلاق رتاج باب الحجرة . تضع يدها تحت مؤخرتي واليد الأخرى خلف ظهري ثم ترفعني إلى صدرها ، أشم من أثوابها رائحة روث البهائم الذي دافته بالماء ، وصنعت منه أقراصا دائرية معتمة الخضرة . 
تصل إلى كوخ النار . بابه المنخفض يحتم عليها ان تنحني . قدماي يخطان قرب ركبتيها . تنزلني من حضنها بسرعة ، كما لو انها تريد ان ترميني بالموقد.
بضع جمرات متوقدة ومخبوءة تحت الرماد . يرقد بينها قدر مسودُ الحواف فيه حليب مغلي ، وتطفو على سطحه قشرة صفراء.
انحنت أمي لتخرج من باب الكوخ , فاحتجزت الضوء المنسكب بقامتها الفارعة وعظام كتفيها القاسيين . اتصورها في سري مثل محراث التنور . تزداد نحافةً وسواداً سنة بعد أخرى . يأتي صوت جدتي مهتدجاً مبحوحاً من زاوية الكوخ : إستيقضت يا مدلل أبيه  .                                                         تحدجني بنظرة مبهمة ، وتسند العجل الصغير ليرضع من ضرع أمه المنتفخ.
تشرأب أعناق الأبقار على صوت جدتي ، تتراجع البقرة الحمراء إلى الخلف ، فتصبح مؤخرتها فوق رأسي . ترفع ذيلها وتطلق تياراّ قوياً من بولها . أسبح في بولها الحار ، وتنطفئ جمرات الموقد ، يمتلأ قدر الحليب بالبول.
أيست من امتصاص قشدة الحليب اللذيذة. أرفس قوائم البقرة الخلفية فلا تتزحزح من مكانها ، وكأن الموضوع لا يعنيها ، كانت مصرة على إطلاق آخر دفعة بول من مثانتها . تهرول جدتي ملوحة بيديها ، وقد نتأت عروق وجهها الزرقاء ، وبان وشم ذقنها الأخضر - وسط الغضون - كريهاً ومرعباً ، تقول: لولا إصرار زوجة أبيك على بقائك لطردتك إلى أخوالك.
اهرب منها مجتازا عتبة الباب . أحدق في وجهها بغضب . اصفق بيدي بترنيمة سريعة ومستفزة ,واردد : (الغراب اخذ منك حلاتك والبومة حماتك...)
أعيد ترديد الكلمات بسرعة أكثر . تركض نحوي كأنها جرادة تقفز فوق عشب كثيف . اقفز مرتين في الهواء زيادة في استفزازها ثم أطلق ساقي للريح ، وأنا اشعر بالخزي من (دشداشتي) المبلولة ببول البقرة . أتوقف عند نخلة الخضرواي القصيرة ، أتسلقها مستعينا بالكرب اليابس . اجلس على إحدى السعفات ، فتحرقني مؤخرتي المحصفة . تنغرز بعض الخوصات المدببة في أردافي . التقط حبات التمر الناضجة ، ثم انفخ الغبار العالق بها ، والتهمها دون ان امسح الدموع المتجمعة في عيني . وفي الأسفل المح كلبتنا ، وقد لبدت بين الفسائل المتشابكة ، كانت منهمكة تلاعب جرائها العمياء ، وتوجهها ببوزها الأسود إلى امطائها الممتلئة بالحليب.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ستار عبد الحسين الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/07/11



كتابة تعليق لموضوع : قصة قصيرة مجرد ولد صغير
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net