صفحة الكاتب : محمود كريم الموسوي

الغربة والمو ت في دوائر جابر المربعة
محمود كريم الموسوي
أثار عنوان المجموعة الشعرية الخامسة ( دوائر مربعة ) للشاعر المبدع جابر محمد جابر  جدلا في نفسي ، كيف يمكن أن تكون الدوائر مربعة ؟ ، فالدائرة تشترك مع المربع بأنها سطح هندسي و محيط مغلق ، ولكنها تختلف معه بأن لا ضلع فيها ولا زاوية فماذا يريد الشاعر في ذلك التوحد اللامألوف ؟ ، ولماذا لم يفعل العكس فيجعل المربعات دائرية ؟ 0                              
وقبل أن أقرأ قصائد المجموعة قرأت ما أجاد به قلم الدكتور محمد راضي جعفر مقدمة للمجموعة ، وقرأت تحليلات الأستاذ إسماعيل إبراهيم عبد ، في تخيلات النص الشعري ، التي نشرت بحلقتين في جريدة المشرق الغراء تحت عنوان ( رباعية الليل في دوائر جابر المربعة ) ، فالدكتور الفاضل أوضح رموزا ، وفرش مفاهيما لقصيدة النثر ، والأستاذ إسماعيل فك بعض المغاليق ، وأبقى الباب مفتوحا لفك مغاليق أخرى ، وربما هنالك مقالات أخرى لم أحظ بالاطلاع عليها ، فيها من الانسياح التوضيحي ما يقلل من ضغط الأسئلة 0 
و نظرت أولا في جدول المحتويات فوجدت قصيدة ( دوائر مربعة ) التي صيّرها عنوانا لمجموعته قد احتلت الترتيب الثالث عشر  بين قصائد المجموعة البالغ عددها (22) قصيدة ، وكأني أراه يبغي في أن يكسر طوق الكراهية لهذا الرقم الذي يتشاءم منه الكثير بالتوارث دون سبب ، كما وجدت في عناوين القصائد التي يعتبر إطلاقها جزءا مهما في شاعرية الشاعر ، ما يحتاج إلى فك رموزها بقراءة القصائد قراءة متأنية ، فاحصة ، في أكثر من اتجاه ، وأوسع إدراك 0
 وإذ دخلت عالم جابر الشعري ، وجدت كل قصيدة فيه عالم بذاته ، يحتاج إلى معرفة انزياحات المفردة و ترابطها مع مفردة أخرى ، والغوص عميقا في رمزية وتأويل تراكيبها0 
وحيث تتعدد زوايا النظر إلى النص الشعري ، بتنوع مسافات القراءة له ، وتعددها ، فقراءتنا تحددت في الغربة والموت فقد نراهما قد توحدا في ذات الشاعر  بأكثر من موقع وأوسع من دلالة فنرى إن حياة الغربة قد تحولت عنده إلى دوائر مغلقة فيها من الانكسارات المرئية واللامرئية في مشاعره وأحاسيسه ما جعلته يرى زوايا المعاناة والتوجع والألم قد حولت دوائر  تخيلاته إلى مربعات 0      
ولنقف عند الغربة والموت ، فالموت هو لحظة فك الارتباط بين الروح والجسد ، والغربة هي لحظة وداع بين الأحبة في كل مسمياتهم وبين ذات المعني ، والموت انتقال من حياة إلى أخرى مبهمة غير معروفة النتائج ، والغربة انتقال من حياة مستقرة بادراك مجساتها إلى الإبهام واللاوضوح 0
وعليه فالموت والغربة يشتركان في نقاط ، ويختلفان في أخر، كما هي الدوائر والمربعات ، ومن أهم الاختلافات إن الموت لارجعة فيه ، بينما احتمالات العودة المادية من الغربة لها نصيب محسوس 0                                        
وقد تبدو قصائد المجموعة ، للقارئ ، أوالمتلقي ، للوهلة الأولى ، إنها تشابكات وتناقضيات سطرها الشاعر باختياره المفردة السهلة ، اليسيرة ، من قاموسه اللغوي ليزجها في تراكيب وجمل عصية على الفهم البسيط ، والإدراك المتعجّل ،فاستفاد من قولين لـ ( اندريه جيد) ، الأول: ( إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل) فصب معناه في قصيدته (أسنان الوهم ) ص 21 ،  فيقول في مقطعها الأول :
في ساعة متأخرة من الوهم 
كان صديقي 00
يمتطي جنوني بقسوة ، 
ويعقد هدنة 00
مع الموت ، 
غير مكترث 
بالمر السري 
الذي تساقط لحظتها 
 والثاني ( من السهل أن تعرف كيف تتحرر ولكن من الصعب أن تكون حرا ) فولدت قصيدته ( هو000 وأنا والنهر000 ) ص 89  ، فيقول فيها : 
وحين تحرش النهر بذاكرتي 
رفعت الحروف أشرعة 
في وجه المنطق 
هو00
أصابته وعكة عشقية 
وقد تجاوز الخمسين 
كونه00
لا يملك مناعة عاطفية 
وأنا 
أقف قرب شجرة الترقب 
وقد علمني الموت ، 
أن أعيش لحظة الخوف يوميا 
     أما قول نيتشه ( إن أعظم الأفكار هي تلك التي تأتينا ونحن نمشي ) فصبه في قوالب مقطعية   عنونها بـ (قصائد) ص 70 ، فكان منها المقطع الأول : 
الانتحار 000
محاولة معلنة 
للبحث00 
عن موت جميل 
وكان المقطع الرابع قد ارتفع بمستوى الحس الصوري في توحد الغربة والموت قيقول :
كان الموت ، 
يرش الألوان على جراحي
وهي00
معروضة للفرجة 
صورة شعرية رائعة من صور جابر جسد لنا فيها ألامه وأحاسيسه التي خلقت تلك الجروح الظاهرة في انكسارات النفس المغتربة واضطرابها وقد تجلت أكثر وضوحا في قصيدة (إبهام الظلام ) ص 18 : 
كنت أنقر على الطاولة 
بإيقاع مرتجف ،
لم تطأه أقدام الغربة 
ولم يبعثره00
ضجيج الصمت 
فجأة 
تركت الشارع  
وينقلنا الشاعر في بعده الدلالي لمنطوق (ضجيج الصمت ) إلى عالمه المغترب ، الذي تحول فيه الصمت إلى ضجيج صاخب من الأسئلة المنفعلة ، المتدافعة ، التي شغلت فكره وهو ينقر على الطاولة بسبب القلق الذي يلفه ، ولم يكتف بذلك ، فابتدع للصمت تسميات من خلال التشظيات النفسية التي يعيشها فيقول : (الصمت الراعد) ص 24، و(الصمت الملتبس) ص 29 ، و(الصمت المفاجئ) ص 30 ، بل أوجد للصمت أدوات تعينه في تعمية دلالة المعنى الظاهر الى معاني تأويلية وترميزية ، ففي ترابط الغربة مع دلاليات الموت استخدم للصمت محراثا فيقول في قصيدة (آني تسكنني نخلة ) ص 34
وحين سلمت 
تجاعيد الوحشة 
لامرأة 00
سقتني الغربة 
ضربت بعصاي الأرض
فانقلب اسمي 
على حبال اللامعقول 
00000000
وقبل أن أغلق 
تابوت العمر 
تسلل الغريب 
بمحراث الصمت 
معلنا بدء 00
فصل الموت 
وفي قصيدة (قرد الزمن ) ص 66 ، كان للصمت أشواك ترعبه ، وفي قصيدة (لدي فائض من ذكريات الحزن) س 83 ، عاد إلى وعي الصمت فأحس ببلاغته قائلا : 
قررت 
أن أمتنع عن الجلوس
إلى مائدة الحياة الفاخرة 
00000000
لاحتفظ 00
بجمالية الحزن الهادئ
وبلاغة الصمت،
وكان لمكررات مفردة الموت بذاتها ، أو برؤى دلالاتها ، ما يرسم فضاءات مرعبة عن الغربة تجعل إحساس القارئ ، يهيم في تصورات الخوف منها ، فيقول في قصيدة (خيول الشك ) ص 49 :
في لحظة شرود عاطفي ، 
مع دجلة 00 
00000000
طلبت من الموت 
أن يؤجل الترافع
في قضية موتي 
لحين اتمام مراسيم 
حفل زفاف 00 
ديواني (دوائر مربعة) 
ولم يظهر الموت معنا ، أو دلالة ، أوترميزا ، في أكثر  من قصيدة فحسب ، بل صيره عنوانا ( سأعلن عن موتي قريبا ) ص 59 للقصيدة التي تلت قصيدة العنوان مباشرة فيقول : 
في الربع الأخير من موتي 
كنت أجلس 
في مقهى شعبي
في حي السيدة زينب 
وكنت أحدق 
بربيع عمري 
وهو يهرب من بين يدي   
وفي رؤيا النص التوروية نمسك من أن الربع الأخير من عمر الغربة  كان في حي السيدة زينب وهو يتأمل تلك الغربة ضياعا للعمر الذي يراه يطوي أسرع من قطار في قصبدة ( اسنان الوهم ) ص 22 :
وفي لحظة مسروقة 
من شرعية القدر كان القطار
يسير متأخرا 
بخطوة عن الآخرين
وأنا00 
أنظر اليه 
بنظرات متواطئة  
وفي أجمل دلالات المعنى عما يعتري الشاعر من إرهاصات ، وانفعالات ، تألمية في وحشة الزمن المرعب قوله في المقطع (11) من (قصائد) ص 70 :
الحزن 
يتجول في دورتي الدموية،
يؤسفني أن أرحل 00
وأترك ، 
مسودات أحلام لم تكتمل 
فمتى تكتمل أحلامك يا جابر وأنت تعيش كل تلك المعاناة التي صوّرتها في (22) عالما من عوالم الشعر المنثور الذي تتوالد قراءاته في أكثر من اتجاه ، وها أنت في قلب الوطن الذي كنت تأن إليه وتصب معاناتك في قوالب شعرية ، فأمطرت عيوننا قبل أن تمطر السماء توجعا لقولك في قصيدة (الحاسة الكاذبة ) ص 27 :
وأمضي في نوم شتوي
عبر نافذة كسولة 
أتفرج على أحلامي 
وهي تتساقط 
من فم الوطن 
الذي تركاه خلفي 
عبر ممرات سرية 
حملت جملا مفتوحة
لأسرب إليها
قلقي 
خوفي

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمود كريم الموسوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/08



كتابة تعليق لموضوع : الغربة والمو ت في دوائر جابر المربعة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net