صفحة الكاتب : د . حميد حسون بجية

أضواء على مدرسة النجف اللغوية المعاصرة
د . حميد حسون بجية

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أضواء على مدرسة النجف اللغوية المعاصرة
          يقتصر المقال التالي على التداولية باعتبارها احدى مظاهر علم اللغة
الحديث.
التداولية في العالم الغربي
      نتيجة للجهود اللغوية الغربية في اظهار علم اللغة linguistics على اعتباره
علما وما يقتضيه كون العلم بطبيعته يخضع الأشياء المشمولة بدراسته لكل ما يقتضيه من
دقة وضبط، لم يكن بالامكان اخضاع علم الدلالةsemantics  لذلك العلم، تلاه ظهور علم
جديد يدعى علم التخاطب أو التداولية أو المقاميات pragmatics. وقد تطور هذا العلم
على أيدي علماء من قبيل أوستن Austin و ليتشLeech و سيرل SearleولفنسونLevinson
وغيرهم. فصرنا نستخدم كلمات من قبيل المقولات utterances  بدلا من الجمل
   sentences. ويعرف علم التداولية على أنه "دراسة كيف يكون للقولات-أي المقولات-
معان في المقامات الخطابية"(د.محمد يونس علي، 2004 :13). فبينما يعالج علم الدلالة
معاني الجمل، تعالج التداولية معاني المقولات.

          على أن أول من بدأ دراسة من هذا القبيل في العالم المعاصر -كما قلنا- هو
الفيلسوف الانكليزي جي أل أوستن    في كتابه(كيف تفعل الأشياء بالكلمات)(1962).
فقسم المقولات الى خبريةconstative  وهي ما يمكن وصفها انها كاذبة أو صادقة. وأخرى
انجازية performative أي التي ننجز عملا عندما نتفوه بها. والأخيرة لا توصف بأنها
صادقة او كاذبة بل موفقة أوغير موفقة.

          وفي مرحلة لاحقة طور أوستن نظريته. فوسع المقولات الانجازية لتشمل جميع
المقولات التي ينطق بها المتكلم بما فيها الخبرية، اذ ان المتكلم ينجز فعل الاخبار
عندما يتفوه بالجمل الخبرية. وقد أجبر أوستن على القول أن ما من مواصفات لغوية تميز
بين المقولات الانجازية وغيرها(كولتهارد، 1985: 15)(وهذا ما توصلت اليه مدرسة النجف
منذ أمد ليس بالقصير– كما سنرى). وبذلك ميز أوستن ثلاثة أفعال ينجزها المرء عندما
ينطق بقول معين(عزيز،1997: 163). وهي فعل النطق locutionary act و فعل الانطاق
illocutionary act و فعل الاستنطاقperlocutionary act. ويمكن الرجوع لهذه التطورات
في مظانها.
التداولية عند اللغويين العرب القدماء
يظن الكثير من الباحثين أن هنالك ارهاصات لعلم التداولية في أعمال الكثير من
اللغويين العرب القدماء. فقد قسم العرب العبارات-ويشار اليها احيانا بالجمل- الى
خبرية وانشائية. وهو ما يقابل النوعين المذكورين أعلاه-أي الخبرية والانجازية.
ولكنها ظهرت تحت مسميات مختلفة. فمثلا يرى هشام الخليفة(2007: 225) أن العرب قد
عرفوا التداولية بكل أبعادها. وكانت نظريتهم في هذا الاطار متكاملة، لكنها متناثرة
في كتب اصول الفقه وكتب علماء الكلام واللغويين والبلاغيين. وهو- أي الخليفة- يرجح
ان المكتشفين الأوائل لها هم علماء الأصول. فقد اكتشفوا الانجازيات بأنواعها
وفرقوها عن الأخبار. وهم مدركون تماما لأنواع وعناصر التداولية الثلاثة التي جاء
بها أوستن-فعل القول و الفعل الكلامي والتأثير الكلامي. لكن الفرق كان في التسمية
والأمثلة التي أخذوها من اللغة المكتوبة-وخاصة لغة القرآن الكريم والحديث الشريف،
بينما استخدم الغربيون أمثلة من الحياة اليومية. وقد أسموا افعال الكلام
والانجازيات تسميات أخرى من قبيل الانشاء- الطلبي والايقاعي. وعبروا عن فعل القول
ب(ارادة احداث الصيغة)، وعن الفعل الكلامي ب(ارادة الدلالة بالصيغة على الفعل)،
والتأثير الكلامي ب(ارادة الفعل او الأثر المطلوب أو نتائج الكلام).

 
التداولية عند الامامية: مدرسة النجف الفقهية اللغوية
     نتناول في هذه العجالة آراء مدرسة النجف من علماء الامامية المحدثين من قبيل
المرحوم العلامة كاظم الخراساني قدس سره(1839-1911) الذي توفي عام ولادة أوستن،
والمرحوم العلامة أبو الحسن الأصفهاني المتوفى عام 1941-أي قبل نشر أوستن لنظريته،
والمرحوم السيد الخوئي.

          ونبقى ضمن التصنيف الرئيس: أي الخبر والانشاء، مما توارثته تقليديا مدرسة
النجف من اللغويين العرب القدماء. فالأول هو ما كان لنسبته واقع خارجي قبل التلفظ
بالجملة، ولهذا فهو يحتمل الصدق والكذب، وبذلك تعرف الجملة الخبرية على أنها"كلام
يكون لنسبته خارج في أحد الأزمنة الثلاثة تطابقه أو لا تطابقه"(مصطفى جمال الدين:
1980:258 نقلا عن المطول: 38)، والثاني هو ما ليس لنسبته واقع خارجي بل أن التلفظ
به هو الذي يوجد واقعه، أي أن الانشاء موجد لمعناه، أما الخبر فهو حاك عنه، وبذلك
يعرف البلاغيون الانشاء على انه"كلام ليس لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه"(نفس
المصدر السابق).
          بيد أن علماء الامامية من الاصوليين لم يوافقوا على ذلك. وعبروا عن آراء
أخرى مغايرة جعلت منهم مدرسة يمكن تسميتها(مدرسة النجف الأشرف في الانشاء
والخبر)(هشام الخليفة، 2007: 336).
          يقول العلامة السيد الخراساني بوحدة مدلول الجملتين الخبرية والانشائية،
وهو فعل القولlocutionary ، وهو ما يسمى الشرط الصدقي، ويخص المعنى بالمفهوم
الدلالي. فالمعنى الذي نستخدم فيه جملة(بعتك الدار) يستخدم للغرضين معا: الاخبار
والانشاء، وهو نسبة البيع الى المتكلم. أي أن (أصل المعنى) واحد في الحالتين. ويسلط
السيد الخراساني الضوء على أن ما يفرق بينهما هو (الداعي)-أي force، أو ما يسميه
علماء التداولية الغربيون المغزى الفعلي illocutionary act. وكان البلاغيون العرب
يستخدمون لذلك مصطلحين هما (المقام و مقتضى الحال) اللذان يقابلان التعبيرين
الغربيين context أي السياق و illocutionary act الذي يعني المغزى الفعلي المتأثر
بمقاصد المتكلم والسياق. أي أن الفرق بين الخبر والانشاء هو المقام: أي أننا نستخدم
التعبير لغرض الخبر أو الانشاء. وبذلك فان صاحب الكفاية يدرك أن دواعي الاستعمال
خارجة عن المعنى المستخدم، وهو ما يسمى في الغربextralinguistic وهو يشمل السياق
ومقاصد المتكلم وما الى غير ذلك.

          أما الاصفهاني، فينكر (ايجاد المعنى في الانشاء والحكاية عنه في الخبر).
ويقول أن هنالك وجودا واحدا للفظ والمعنى، وليس هناك وجودان مستقلان. وفي مجال
التمييز بين نوعي المقولات الرئيسين، فهو يقول أن ما من فرق  بين الخبر والانشاء.
وله آراء أخرى يضيق المجال عن ذكرها.
أما الامام الخوئي قدس سره، فهو ينكر دلالة  الجملة (الخبرية أو الانشائية) على
النسبة التامة. وهو يقول ليست الجملة هي الصادقة أو الكاذبة وانما هو المخبر عنه
الذي يكون صادقا او كاذبا. والكلام لا يوصف بالصدق او الكذب وانما يكون دالا أو غير
دال. وينطبق نفس الشيء على الجملة الانشائية، اذ لا يمكن ايجاد معناها بلفظها.
وبمعنى آخر، هو يعول كثيرا على  ابراز أمر نفساني، أي انه قد اضاف الى ذلك البعد
النفسيpsychological dimension . فمثلا قولنا(زيد عالم) لا يدل على تحقق النسبة
خارجا، ولكنه يوجب تصور ذلك وليس التصديق به. والسيد الخوئي هنا، مثل أوستن، يعتبر
الاخبار-بكسر الهمزة- فعلا كلاميا يخضع للتوفيق وعدمه، وليس للتصديق والتكذيب.
وهنالك آراء أخرى تخص الدلالة التصديقية والدلالة التصورية وغيرهما.

   ويبقى كلام المتخصصين هو الفيصل في ذلك.
                                                   د. حميد حسون بجية     


     


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حميد حسون بجية
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2010/08/16



كتابة تعليق لموضوع : أضواء على مدرسة النجف اللغوية المعاصرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : طالب من : العراق ، بعنوان : احسنت دكتور في 2011/07/13 .

اعتقد انني كنت ابحث فوجدته
شكرا للموقع وشكرا للدكتور حميد حسون على هذه المقالة

• (2) - كتب : احمد ماجد من : العراق ، بعنوان : احسنتم في 2010/08/16 .

السلام عليكم
احسن الله اليكم استاذنا الفاضل على هذا الشرح الوافي





حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net