صفحة الكاتب : محمد الحمّار

تونس وكل العرب: اليوم سهرٌ وغدا أمرٌ
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

بالرغم من أننا لا نتّهم الشاعر امرؤ القيس ولا "النواسيين" من التونسيين بتأبيد المقولة الشهيرة "اليوم خمر وغدا أمر"، إلا أننا نشجب تقمص المجتمع للحالة النفسية والعقلية التي ورثها عن الأثر عموما، سواء كان هذا الأخير مستقًى من الأدب أم من التراث الديني (الخاطئ).
وتنطبق قولة امرؤ القيس النواسية المعدَّلة، بالتوازي مع انطباق عقيدة دينية خاطئة، على وضعية الشعب في الظروف الراهنة و التي تشهد فيها تونس أزمة حادة يسندها حراك سياسي غير مسبوق( ولو أنه يتسم حسب اعتقادنا بالعقم للأسباب التي سنشرحها لاحقا). وتتلخص الوضعية في سماح الناس لأنفسهم بالمتعة والتمتع، وباللذة والتلذذ، وبالسهر وإقامة الحفلات، اليوم قبل الغد وبلا مراعاة للوضع السياسي الشائك، لا المحلي ولا الإقليمي ولا الدولي. إنهم، نواسيًّا إن جاز التعبير، "يسكرون" الليلة ولا يأبهون لما قد يحصل غدا من مكروه. كما أنهم، دينيا، وبصفة معكوسة لِما ينبغي أن يكون، يعملون لدنياهم (لا لآخرتهم) كأنهم يموتون غدا.
نحن في هذا المستوى في قلب الإشكالية الأزلية التي تتخبط فيها لا فقط تونس وإنما البلدان العربية بأسرها إن لم نقل المجتمع العربي الإسلامي كله. ألا وهي مدى تأقلم الناس مع الواقع المعيش ومن ثمة مدى اشتغال العقل المجتمعي بتزامن (لازم) مع هذا الواقع ابتغاء تعديله و تطويره و تغييره. 
وكنتيجة لأعمال استقرائية قمنا بها في هذا الصدد اتضح لنا إجمالا أنّ المجتمع يسير في واد وعقله في واد. وتبين لنا أيضا أنّ المِعول الأساس ذي المفعول السلبي على العلاقة بين الواقع المجتمعي والعقل المجتمعي، والذي يحرم الاثنين من التوافق والتناسق والتناغم إنما هو قضية "تطبيق الشريعة".
لقد سجلنا موقفين اثنين يبدوَان مختلفين لكنهما يؤشران على نفس الحالة من الجمود. ويصدر الموقف الأول عمن يسمون بالسلفيين والأصوليين والإسلاميين السياسيين، ويتمثل في كونهم ينتظرون اللحظة التي سيحققون فيها حلمهم بالصعود إلى سدة السلطة ومن ثمة التمكن من تطبيق الشريعة، بينما في الأثناء يسمحون لأنفسهم بالقيام بأفعال حتى لو كانت لا تجوز شرعا مثل الزنى بدعوى جهاد النكاح، وذبح المسلمين (سوريا) بتعلة استباحة دم المرتد والكافر، ناهيك الأفعال اليومية المشينة مثل الاحتكار التجاري والكذب والنفاق وعدم احترام حق الآخر وغيرها.
أما الموقف الثاني فيصدر عمن يفنّدون فكرة "تطبيق الشريعة" ويعتبرون أنّ الدين مسألة شخصية لكنهم في الأثناء لا يطرحون البديل عن فلسفة التشريع الدينية ولا يؤصلون فلسفة التشريع الكونية في الثقافة المحلية. ولئن يبذل هؤلاء ما في وسعهم للتموقع ضد الشق الآخر المطالب بالتطبيق فإنهم يشاركون خصومهم الانتظارَ المرَضي، انتظار أن يُحسمَ في أمر الهوية (لفائدتهم، أي بتوخي "اللاهوية") كشرطٍ ليتوقفوا هم أيضا عن اقتراف الأفعال السيئة التي لا يرضونها لأنفسهم، وهي عموما أفعال مشابهة لأفعال خصومهم، من حيث رداءتها ولاأخلاقيتها.
بكلام آخر، إنّ الشقين متفقين على أن يقبع كلاهما في مكانه منتظرا هزيمة خصمه لكي يدشن عصره الذهبي، إنْ عصر تطبيق الشريعة أم عصر تطبيق القانون الوضعي على التوالي. لهذا السبب ترى راشد الغنوشي (الشق الأول) مثلا يشيطن حزب نداء تونس وقائده (الشق الثاني) اليوم ويُبرئه غدا (الحديث لقناة نسمة). ولهذا السبب ترى الباجي قائد السبسي(الشق الثاني) يزعم استقلالية القرار التونسي للتوّ لكنه في الأثناء يتفاهم مع أطراف سياسية ومالية أجنبية لا تخفى أجنداتها على أحد.
بل و للسبب نفسه ترى الشعب العربي ينتظر أن يصبح عربيا بينما عَلمو، جزافا وإجحافا، أنه مطالب بأن ينتظر حتى يصبح مسلما. فهو يستاء ويحزن لما يحصل في بلد مسلم (أفغانستان) وفي الأثناء لا يبني مجتمعه آية قدرة تمكنه من تلافي أزمنة مماثلة قد تحل ببلد عربي. ثم يُستعمر العراق وينعاه الشعب العربي من دون أن يتحسب للمستقبل. وفي سنة 2011 (في 20 مارس/آذار، أي في نفس اليوم الذي اختل فيه العراق)،  ينهال الناتو قصفا على ليبيا بدعوى لا أدري ماذا وبعنجهية لا تبررها إلا فظاعة الانتظار المكبل للإرادة وللعقل العربيين. وأخيرا (وقد لا يكون آخرا) هاهي سوريا تجني ما زرعه العقل العربي المنتظِر بينما الشعب ساهر وكأنّ الغد باهر.
والغريب في الأمر أنّ لا أحد من الشقين، المتأسلم والمتغرب، في المجتمع العربي، يجرؤ على إنجاز الاتساق بين العقل والواقع بطريقة تحوّل الصراع الحاصل بينهما من نهج الافتعال (إسلام/حداثة وإسلام/علمانية) وإعادة إنتاج الافتعال، إلى النهج الميداني المتوخي للمقاربات الفطرية والعقلية من أجل الحسم في ثنائيات طبيعية مثل جهل/علم، مرض/صحة، فقر/ ثراء، بطالة/ شغل، حرب/سلم، خطأ/صواب،حق/باطل وما إلى ذلك. 
 
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/02



كتابة تعليق لموضوع : تونس وكل العرب: اليوم سهرٌ وغدا أمرٌ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net