صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

المعرفة الحسيّة إشكاليّة وحلول (1)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 قديماً عرّف المناطقةُ الإنسان بأنّه حيوان ناطق. ولعلّهم في هذا التعريف قد لمسوا جانباً معرفياً مهمّاً, إذ الفكر صفة أساسيّة تميّز جوهر الإنسان عن غيره من ذوات الحياة. نعم فالفكر (الحكمة- المعرفة) هو وحده الذي يميّزنا من الأقوام المتوحّشين والهمجيّين, وحضارة الأمم وثقافتها إنّما تقاس بمقدار شيوع الفكر الصحيح فيها, ولذا فإنّ أجلَّ نعمةٍ ينعم الله تعالى بها على بلد من البلاد تتمثّل في أن يمنحه حكماء حقيقيّين ومفكّرين بارعين, وبذا كان مدادُ العلماء خيراً من دماء الشهداء, وغنيمة المؤمن وجدان الحكمة...
وبعد: تعتبر إشكاليّة المعرفة الحسيّة من المسائل المهمّة التي وقع النزاع فيها قديماً وحديثاً, حتّى أضحت من ألغاز الفلسفة, والفلاسفةُ فيها على مذاهب ومشارب: فهناك من اعتبر وجود الحسيّات أمراً بديهياً يصادر عليه الإنسان, ويسلّم به تسليماً لا يحتاج إلى برهان. وقباله من أنكر وجود الحسيّات من أصل والواقع الموضوعي ككل, وبين هذا وذاك أقوال اُخر.
في هذه المقالة التي كتبناها شتاء (2011م) ثم أضفنا عليها بعض التغيّيرات الطفيفة, حاولنا استعراض إشكاليّة المعرفة الحسيّة والاتجاهات والمذاهب في حلّها. وقد حظي الإتجاه الذي تبنّاه الشهيد الصّدر (ت 1980م) في معالجة الإشكاليّة بإهتمامنا الأكيد, فسلّطنا الضوء على معالجته بشيء من التفصيل. وستكون خطّتنا أن نستعرض في البدء صورة الإشكاليّة وخيارات حلّها, بعد ذلك نستعرض المذاهب التي أدلت بدلوها في المعالجة, فنبدأ بالمذهب الأرسطي ثم المدرسة التجريبيّة باتجاهاتها, وأخيراً نقف عند معالجة السيّد الصّدر في كتابه القيّم (الأسس المنطقيّة للاستقراء). وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب.
٭٭٭٭
صورة الإشكاليّة وخيارات الحلّ
تحتلُّ التجربة مكانةً ساميةً في عرش المعرفة, وتشكّل في الوقت ذاته حجرَ الأساس لكثير من الاختراعات والاكتشافات, ففي ظلّ التجربة يصل الإنسان إلى سُنَن الكون, وبها يتسامى ركب الحضارة إلى القمّة. ولا شك في اعتماد العلوم التجريبيّة على الظواهر الحسيّة فهي الميدان الذي ترعى فيه هذه العلوم, فالأساس الذي تركن اليه التجربة هو الإحساس البشري, بل حياة الإنسان كلّها قائمة على تعامله مع الحسيات. يقول المعلّم الأوّل أرسطو طاليس (384- 321 ق. م): «كلُّ إنسان بطبيعته مشوق إلى المعرفة, والدليل على ذلك أنّنا نشعر بلذّة من عمل حواسّنا, فعلاوة على ما تقدّمه لنا الحواس من نفع فإنا نحبّها لذاتها خاصّة حاسّة البصر التي تعلو على الجميع, فهي مفضّلة ليس فقط لما تقوم به من عمل, بل لأنّنا حينما لا نرغب في القيام بأيّ عمل نفضّل النظر للأشياء بالبصر, والسبب في ذلك أن البصر يأتينا بقدر أكبر من المعلومات التي تجعلنا ندرك الفرق بين الموجودات»(1).
بل أكثر من ذلك فقد رأى أرسطو في كتاب البرهان أن من يفقد حسّاً يفقد علماً من العلوم, وأن الذي يفقد الحس لا يمكنه اقامة البرهان, وذلك لأنّ جميع ما يعلمه الإنسان لا يخلو إمّا أن يكون علمه حاصلاً بالاستقراء أو البرهان, والبرهان إنّما يكون من المقدمات الكلّية, أمّا الاستقراء فيكون من المقدمات الجزئية. وتلك المقدمات التي يعتمدها البرهان لا سبيل إلى تحصيلها إلا من خلال الاستقراء, ذلك أن تلك المقدمات الكلّية الموجودة في الذهن مجرّدة عن المواد, فإذا أراد الإنسان التأكّد من صدقها فإن طريق ذلك هو الاستقراء, ومتى فقدنا حسّاً فلا طريق إلى استقراء جزئيات تلك القضايا, ومن ثم يُفقَد العلم بتلك المقدمات فلا مجال للبرهان, وهذا معناه أن المعارف إنّما تحصل في النفس بطريق الحس(2).
فعلى سبيل المثال يريد العالم الفيزيائي من تجاربه الخروج بقوانين عامّة كالقول بأنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة, ولا شك أنه لكي يخرج بهذا القانون لابدَّ من إجراء تجارب استقرائيّة حسيّة على قطع الحديد لكي يتحقّق من صدق هذا القانون. والسؤال الأساس هو: كيف يمكننا التأكّد من واقعيّة هذا القضايا الشخصيّة التي نرتبط بها بواسطة الإحساس والتي نريد من خلالها التثبّت من صدق هذا القانون ؟ فما هو السبيل المنطقي لإثبات أن ها هنا حديداً له واقع موضوعي خارجي كي نختبره ونتأكّد من وجوده وبالتالي صدق القانون العلمي؟. ذلك أنّنا لا نملك في ممارسة هذه التجارب سِوى الحس, والحس إنما يعرّفنا على الأشياء كما نحسّها ونراها لا كما هي, فحين نحس بشيء يمكننا أن نؤكّد وجوده في إحساسنا, أمّا وجوده خارج نطاق وعينا وبصورة مستقلّة وموضوعيّة سابقة على الإحساس به, فلا سبيل إلى إثبات شيء من ذلك.
والإجابة عن هذه الإشكاليّة بحسب الفيلسوف الألماني فريز Fries (1773- 1843م)(3), تقف على مفترق ثلاثة طرق:
الطريق الأوّل: أن تُتَّخذ مسلّمة تسليماً أعمى من دون أيّ دليل أو برهان, بمعنى أن يُصادر عليها ويُعتبر وجودها أمراً مفروغاً عنه لا يحتاج إلى استدلال.
الطريق الثاني: أن نعتمد في ذلك على يقيننا الذاتي بالمعلوم بالذّات أو المحسوس بالذّات (الصورة الحسيّة). بمعنى الركون للنزعة النفسية (السايكولوجيّة). فبما أنّنا نحس بها فهي موجوده.
الطريق الثالث: أن نقيم الدليل على المعرفة الحسيّة من خلال الإختبار والتجريب لصدق القضايا الحسيّة الشخصية.
إذن فنحن على مفترق ثلاثة طرق, وكلُّ طريق منها مبتل بمشكلة؛
أمّا الطريق الأوّل فهو يستلزم التسليم الأعمى (الدوجماطيقيّة)(4). والتسليم الأعمى أكبرُ مُمحاة للعلم, إذ أن العلم عبارة عن: مجموعة قضايا تكتشف بالدليل, والذي يسلّم بأمر من دون دليل يخرج عن حريم الإنسانيّة.
وأمّا الطريق الثاني فالمشكلة فيه أن اليقين الذاتي لا يبرّر المعرفة وكونها مطابقة للواقع, وقد قيل: إنّ الاعتقاد لا يغيّر من الواقع شيئاً, وذلك لأنّ اليقين عبارة عن حالة نفسيّة (سايكولوجيّة) والحالات النفسيّة لا تبرّر الواقع الموضوعي خارج إطار النفس.
ولنعم ما قاله جون ستيورات مِل (1806- 1873م) حيثُ رأى مِل: «أن القول بأن الحقائق الخارجة عن دائرة العقل, قد تعرف عن طريق البديهية أو الشعور, مستقلّة عن الملاحظة والتجربة, هو فيما أعتقد في عهدنا هذا الدعامة العقلية الكبرى للنظريات الباطلة والنظم الفاسدة, فمن إجراء هذه النظريّة يتاح لكلِّ إيمان متأصّل وكلِّ شعور قوي ممّا لا يتذكّر أصله الأوّل, أن يكون في غنى عن الإلتزام بتبرير نفسه عن طريق العقل, فيصبح مستنداً قائماً بذاته مستقلاً بنفسه, أنه لا وجود لمثل هذه الأداة المبتدعة لتقديس الأحكام المبتسرة المتأصّلة»(5). والقاعدة في ذلك: «..أن اليقين والظن والاحتمال هي مفاهيم ذاتيّة ترتبط بالعالِم لا المعلوم, ومن ثمَّ فهي موضوع بحث النفس, وليست هي الواقع الموضوعي الذي يبحث العلم عنه. وعلى هذا الأساس فما يرتبط بالسيكولوجية يجب حذفه من دائرة العلم الموضوعيّة, وبهذا يكون التصديق بكلِّ درجاته مسألة ذاتيّة, ويكون اليقين بعامّة أمراً ذاتياً»(6).
أمّا حال الطريق الثالث وهو إقامة الدليل التجريبي والإختبار لها, فمشكلته أن هذه التجربة التي نحاول تعميمها هي بنفسها قضيّة شخصيّة حسيّة تحتاج إلى ما يبرّرها لنا, وتبرير الأخيرة بتجربة ثالثة يَرِد فيه ما تقدّم ومن ثمَّ الوقوع في شراك التسلسل والإرتداد اللانهائي.
يقول فيلسوف العلم المعاصر كارل بوبر (1902- 1994م) مستعرضاً مثلّث خيارات فريز: «ومشكلة أسُس الخبرة أزعجت بعض المفكّرين بشكلٍ كبيرٍ ومنهم فريز الذي قرّر: أنّه إذا كانت قضايا العلم لا تقبل على أنها آراء فإنّه ينبغي علينا أن نبرّرها, وإذا طلبنا تبريراً بالحجّة العقليّة بالمعنى المنطقي, عندئذ فإنّنا نكون ملتزمين بالرأي القائل: بأنّ القضايا يمكن أن تبرّر فقط بقضايا. والمطلب القائل بأنّ القضايا يمكن تبريرها منطقياً -كما وصفها فريز بأنها: «تنبؤات لغرض البراهين»- هو مطلب يؤدّي إلى إرتداد لا نهائي, والآن إذا أردنا أن نتجنّب خطر (الدجماطيقيّة) والإرتداد إلى ما لا نهاية, عندئذ فإن الأمر سيبدو لنا كما لو كنّا نعود إلى النزعة (السيكولوجيّة) أي إلى المذهب القائل بأن القضايا يمكن تبريرها ليس فقط بقضايا ولكن بالخبرة المدرِكة»(7).
تحسن الإشارة إلى أن مشكلة المعرفة الحسيّة تختلف عن معظم مشاكل منطق العلم, إذ أن مشاكل العلم تتعلّق بالممارسة العمليّة للبحث العلمي, أمّا مشكلة المعرفة الحسيّة فهي لا تهم العالم كثيراً بما هو عالم منشغل ببحثه, وإنّما تتعلّق أكثر بنظريّة المعرفة, ومن ثمَّ فأهميّتها أهميّة ابستمولوجيّة, وبالتالي فهي مشكلة عميقة وخطيرة تحتاج إلى حلٍّ منطقي منسجم, ولذا حقَّ لهذه الاشكاليّة أن تكون من ألغاز مسائل الفلسفة. يقول بوبر: «...إنّ مشكلات الأسس التجريبيّة - وهي ببساطة مشكلات متعلّقة بالخاصية الأمبريقيّة(8) للقضايا الشخصيّة وكيفيّة اختبارها- تلعب دوراً هاماً من خلال منطق العلم, يختلف إلى حدٍّ كبير عن ذلك الدور الذي تلعبه مشكلات أخرى تعنينا أيضاً. ذلك لأنّ معظم هذه المشكلات ذات علاقة وثيقة بممارسة البحث, بينما مشكلة الأسس الأمبريقيّة تنتمي تقريباً لنظريّة المعرفة...»(9).
يتبع..
 
الهوامش:
( ) نظريّة المعرفة عند أرسطو, مصطفى النشّار: 39, دار المعارف- القاهرة, الطبعة الثالثة 1994م.
(2) تلخيص منطق أرسطو- كتاب البرهان, ابن رشد 5: 422, دراسة وتحقيق: د. جيرار جهامي, دار الفكر اللبناني- بيروت, الطبعة الأولى 1992م. وانظر: الجمع بين رأيي الحكيمين, أبو نصر الفارابي: 99, قدّم له وعلّق عليه: د. ألبير نصري نادر, دار المشرق- المطبعة الكاثوليكية, بيروت, الطبعة الثانية 1968م.
(3) فريز Fries (وبعضهم يعرّبه: فريس وفرايز), فيلسوف ألماني من أنصار نقدية (كانْت) ضد مثاليّة فشته وشلنج وهيجل.
(4) DOGMATISME بمعنى وثوقيّة أو قطعية, له استعمالات أهمّها إثنان: الأول تقال لكلّ فلسفة تقرّر بعض الحقائق بنحو لا يقبل الشك فيها, فيقال إن هذه دوجماطيقيّة. والآخر - وهو استعمال شاع منذ عهد الفيلسوف الألماني عمانوئيل كنت- هو قبول بعض الأمور بنحو يتعارض مع النقد. انظر للتفاصيل: موسوعة لالاند الفلسفية, اندريه لالاند 1: 296- 297, تعريب: خليل أحمد خليل, عويدات للنشر- بيروت 2008م.  
(5) النفعيون, وليم ديفيد سون: 143.
(6) الأسس العقلية.. دراسة في المنطلقات العقلية للبحث في علم أصول الفقه, السيّد عمّار أبو رغيف 1: 92, دار الفقه للطباعة والنشر- قم, الطبعة الثانية 1426هـ .  
(7) منطق الكشف العلمي, كارل بوبر: 136, ترجمة: د. ماهر عبد القادر محمد علي, دار النهضة العربية- بيروت 2001م. تحسن الإشارة إلى أننا في هذه المقالة سنجري مع فريز في اعتبار هذه الطرق الثلاث تمثل اشكاليات, وإلا فالأمر الأول أعني التسليم الأعمى والدوغمائية لا يعبر عن اشكالية مطلقة, وإلا لاستحالة المعرفة وتحولت الى مجموعة من الارتدادات اللانهائية, لأنه لا توجد معرفة تصديقية إلاّ وتنتهي الى مجموعة تصديقات يسلّم بها الإنسان ويجزم بمجرد تصور طرفي كل قضية فيها, وتعتبر قاعدة هرم المعرفة الإنسانية كقضية استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما وأن الكل أكبر من جزئه, ومن الواضح أن هاتين القضيتين يسلّم بهما الإنسان من دون دليل بل تضطر النفس الانسانية للتصديق بهما من دون المطالبة بدليل.
(8) يونانيّة بمعنى التجريبيّة. 
(9) منطق الكشف العلمي: 80. 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/02



كتابة تعليق لموضوع : المعرفة الحسيّة إشكاليّة وحلول (1)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net