صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

المعرفة الحسية إشكالية وحلول (3)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
2) المدرسة التجريبيّة:
اعتبر فلاسفة الغرب المنادون بالمذهب التجريبي, أن القناعات التصديقيّة لا تبرّر بما يسمّى بالبديهيات التي قال بها فلاسفة المدرسة الأرسطية. ورأى التجريبيون أن الواقع لا يمكن اكتشافه إلّا بواسطة التجربة فهي المحك الأخير, بل قرّروا: أن المنطق نفسه (بعدي) أي تالٍ على التجربة, وهو يتمثّل في كونه تعميماً يعتمد على وقائع جزئية تمت ملاحظتها(1), وعند ذلك يبقى السؤال قائماً لديهم وهو: ما هو مسوغ الإعتقاد بالقضيّة الحسيّة؟.
هنا نرى من الضروري أن نستعرض مواقف بعض أبرز فلاسفة الغرب في هذا الموضوع:
1- في مواجهة المشاكل الثلاثة التي تواجهها حلول إشكالية المعرفة الحسيّة, قرّر فريز ومعه معظم فلاسفة المنطقيّة الوضعيّة اختيار النزعة (السايكولوجية), بل يفترضون مسبقاً أن القضايا العلمية تحكي عن تجربتنا الذاتيّة. وفي مجال الخبرة الحسيّة يرى فريز بأنّنا على (معرفة مباشرة), وبواسطة المعرفة المباشرة وحدها يمكن أن نبرّر (المعرفة غير المباشرة), وهي تلك المعرفة التي يُعبَّر عنها برمزية لغة ما, وبطبيعة الحال فإن المعرفة غير المباشرة تحتوي على قضايا العلم(2).
فالتجريبيون الوضعيون لا يرون في العبارات الأساسيّة واثبات خاصيتها التجريبية أية مشكلة ابستمولوجية أو غير ابستمولوجية, لأنهم يسلّمون بأن المعطيات الحسيّة هي المعبر الوحيد لأية عبارة علمية, وهي المصدر الوحيد للمعرفة, وأن التفكير الخالص لا يزيد المعرفة بالعالم الخارجي قيد أنملة, فكلّ ما نعرفه عن عالم الوقائع يجب أن يكون قابلاً للتعبير في صورة عبارات عن خبراتنا, والإحساس الفوري بما توصله العبارة هو الذي يحدّد صدقها, أي يحدد اتفاق حدودها مع معطيات الخبرة أو عدم اتفاقها, ومن هنا يؤكدون أن العبارات الأساسية مطروحة بغير مشكلة وبغير احتياج إلى محكّ للصدق أو الكذب. والعبارة الأساسية لا تعتبر كاذبة إلا إذا تناقضت مع فئة العبارات الأساسية المقبولة, وإذا لم تتناقض فهي صادقة, وهذه الفئة لا تتميّز أصلاً إلا بواسطة صورتها المنطقيّة التي تعبّر عن أن الحادثة كذا حدثت في مكان كذا أو الزمان كذا, والتقييد الوحيد عليها هو أن مدى الأحداث التي تنقلها أي مكانها وزمانها, يجب أن يكون قابلاً للملاحظة بوضوح... ومن هنا كانت هذه العبارات التي هي تقريرات الذات عن الخبرات التي تنقلها تبرهنُ نفسها بنفسها, وهي لهذا تمدّنا بالأساس الأكيد الذي تقام عليه المعرفة التجريبية بأسرها, وتوقف الإرتداد الذي لا نهاية له(3).
وهذه نتيجة طبيعة لرؤية الوضعيّة المنطقيّة, حيث ترى أن الموضوع الوحيد للتجربة هو الإحساس, وبالتالي فليس بمقدور الإنسان أن يخرج من جلده ليمُسِك بالواقع, ومن ثمَّ فمشكلة الواقع والحقيقة مشكلة زائفة(4).
2- كان كارل بوبر من دعاة تطهير العلم والمعرفة من النزعة (السايكولوجية), وحامل لواء واقعية المعرفة وموضوعيتها, ولذا كان بدعاً من فلاسفة مدرسة المنطقيّة الوضعيّة الذين اختاروا النزعة (السايكولوجيّة) في تبرير المعرفة الحسيّة. ذلك أنه بعد سيادة الواقعيّة وانحسار النزعات المثاليّة في الفلسفة الحديثة, اتجه التيّار الرئيس للنزعات التجريبيّة صوبَ تحرير العلم وفلسفته من مخلّفات النزعة الذاتيّة في المعرفة, في محاولة لإعطاء العلم طابعاً أكثر موضوعيّة(5).
رأى بوبر أن كلّ معرفة لابدَّ من خضوعها للإختبار, ورأى أنه في البدء تتشكّل العلوم والمعارف على شكل فروض علمية كلّية تخضع بعد ذلك للإختبار من خلال التجربة لكي نخرج من إشكال (الدوجماطيقية) والتسليم الأعمى, وبالتالي: «أن كلّ اختبار للنظريّة - سواء أكان ناتجاً من تعزيزها أو تكذيبها- يجب أن يقف عند قضيّة أساسيّة ما أو أخرى نقرّر قبولها. وإذا لم نصل لأي قرار ولم نقبل قضية أساسيّة ما أو أخرى, عندئذ فإن الإختبار لن يؤدي إلى نتيجة»(6).
إذن! فقبول القضايا الأساسيّة لا يتمُّ على أساس بداهة صدقها ومطابقتها مع الواقع والتسليم الأعمى (دوغمائية) بها، وإنما تقبل هذه القضايا على أساس اتفاق الباحثين وتواضعهم على صدقها. ولكن هذا الإتفاق في نهاية الأمر تسليم ومصادرة تفتقر إلى أيّ أثبات منطقي، وإذا أردنا أن نستمر في اختبار هذه القضايا دون قرار بالتوقّف فسوف نجرّ الكشف العلمي إلى الوراء، نحو تسلسل لا نهاية له؟!(7).
وهذه الإشكاليات التي تواجهها معالجة بوبر قد اعترف بوبر نفسُه بها, وإن حاول ليَّ عنقها ليُخرِج ما ارتآه من نظرية عن الوقوع في مثلّث خيارات فريز. يقول في منطق الكشف العلمي:
«... إنّ القضايا الأساسيّة التي نقف عندها والتي تقرّر قبولها باعتبارها مقنعة ومختبرة بدرجة كافية, هذه القضايا لها صفة (الدجما), غير أنّه الآن فقط قد نكفّ عن تبريرها بأحكام أبعد من ذلك (أو باختبارات أكثر). ولكن هذا النوع من الحكم غير ضارّ ما دامت هذه القضايا يمكن اختبارها أكثر إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وإنني أعترف بأنّ هذا أيضاً سلسلة الإستنباط من حيث المبدأ لا متناهية, ولكن هذا النوع من الإرتداد اللانهائي هو أيضاً غير ضارّ ما دامت لا توجد في نظريتنا مسألة محاولة اثبات أيّ قضايا عن طريق وسائلها. وأخيراً بالنسبة للنزعة السيكولوجيّة انّني أعترف مرّةً ثانية أن قرار قبول قضيّة أساسيّة وقرار الإقتناع والتسليم بها مرتبط ارتباطاً سببياً بخبراتنا, خاصّة خبراتنا الإدراكيّة, لكنّنا لا نحاول أن نبرّر القضايا الأساسيّة بهذه الخبرات. الخبرات يمكن أن تكون دافعاً للقرار, ومن هنا يكون [هو] الدافع لقبول أو رفض قضيّة, غير أن القضيّة الأساسيّة لا يمكن أن تبرّرها الخبرات, وإذا حدث ذلك فليس أكثر من نقرة على المنضدة»(8).
ومن الواضح أن هذه النقرة على المنضدة لا تنفع صاحبنا من الوقوع في الإرتداد اللانهائي ولا تهوّن الخطوب له, كما لا تعفيه من ضريبة نزعة (الدوجماطيقيّة), وإن حاول ليَّ عنقها بإفتراض إمكان الإختبار.
3- أمّا رائد البراجماتيّة وعالم النفس المعروف وليم جيمس (1842- 1910م),  فيقول عند تعريفه (الأمرَ الحقيقي) محاولاً اضفاء سمة (البراجماتية) حتّى على المعرفة الحسيّة: «إن أفضل تعريف أعرفه هو ما تزوّدنا به القاعدة البراجماطية: (كلُّ شيء حقيقي حين نجد أنفسنا ملزمين بأخذه في اعتبارنا على نحو ما). وعلى ذلك فالتصورات حقيقيّة مثل المدركات الحسيّة, ذلك لأننا لا نستطيع أن نعيش لحظة دون أن ندخلها في اعتبارنا»(9).
4- ويقول برادلي (1846- 1924م): «إنّنا بمجرّد إحساسنا في كلّ مرة بهذا الشيء أو ذاك, نقابل الواقع, ولكنّنا نقابل قطعة منه فقط نراها كما هي من خلال ثقب فحسب»(10).
ولاشك أن هذا ركون إلى النزعة (السايكولوجية) صراحة, وانتقالٌ صرف من المحسوس بالذّات إلى إثبات المحسوس بالعرض, وهو أوّل الكلام.
5- ويرى توماس ريد (1710- 1796م) معاصر الشكّاك الإسكتلندي الكبير دافيد هيوم (1711- 1776م) وصديقه الشخصي: أنّ تلك الأشياء التي ندركها إدراكاً واضحاً عن طريق حواسّنا هي موجودة فعلاً, وهي موجودة على نحو ما ندركه. وإذا ما شك أحدٌ في هذا المبدأ كان بمقدار شكّه هذا غير قادر على إقامة علاقة عقليّة مع غيره من الناس. وذهب إلى أن الفلاسفة الذي يؤمنون بهذا المبدأ وبالواقعية, لا يفعلون ذلك باطّراد وإخلاص.
ولا شك في أن هذا يمثل مصادرة لا يمكن القبول بها, وذلك باعتبار أن هذا الإدراك الذي تحدث عنه (ريد) لا يمثل برهاناً منطقياً محكماً يفضي إنكار الواقع الموضوعي له إلى الوقوع بالتناقض. كما انه ليس برهاناً فلسفياً يفضي الى إثبات أن المثالية تتعارض مع قواعد الحكمة العتيدة كالعلّية ومشتقاتها. وهذه المصادرة التي يعتمدها الإدراك العام حينما تواجَه بإشكاليات فلسفيّة في ضوء معطيات المعرفة وتطوراتها, يصبح الاعتماد عليه غير مسوَّغ, بل لا بد من معالجة هذه الإشكاليات والخروج بحلول في إطار الإدراك الخاص وجدل الحكماء. وحينما تدخل هذه المصادرة دائرة الجدل الفلسفي فلا معنى للإتكاء على المصادرة نفسها ودعوى الموقف الطبيعي والفطري والإدراك العام, لأنّ البحث فيها انتقل إلى أحكام الإدراك الخاص والتحليل الفلسفي لمعطيات المعرفة(11).
هذه نماذج بارزة من معالجات ومواقف فلاسفة المدرسة التجريبية على اختلاف مشاربهم وميولهم في معالجة إشكالية المعرفة الحسيّة وأسس الخبرة. وقد اتضح أن جلّها بل كلّها لا يخلو من الوقوع في تلك الفخاخ التي نصبها فريز بوجه أيّة محاولة لتبرير الإعتقاد بأسس الخبرة.
يتبع..
 
الهوامش:
( ) الفلسفة المعاصرة في أوروبا, بوشنسكي: 85, ترجمة: د. عزت قرني, سلسلة عالم المعرفة- الكويت, العدد: 165.
(2) منطق الكشف العلمي, كارل بوبر: 136. 
(3) فلسفة كارل بوبر, يمنى طريف الخولي: 380, الهيئة المصريّة العامّة للكتاب 1998م.
(4) الفلسفة المعاصرة في أوروبا, بوشنسكي: 88 .
(5) الأسس العقلية, مصدر متقدّم 1: 92. 
(6) منطق الكشف العلمي: 148- 149. 
(7) فلسفة كارل بوبر في ضوء معيار النقد (2) أساس التجربة, السيّد عمّار أبو رغيف, مجلّة البرهان ع2: 248- 249.
(8) منطق الكشف العلمي: 148- 149.  
(9) بعض مشكلات الفلسفة, وليم جيمس: 91, ترجمة: د. محمد فتحي الشنيطي, مراجعة: د زكي نجيب محمود, المؤسسة المصرية العامة.
(10) مبادئ المنطق, برادلي, الكتاب الأول- الفصل الثاني: 29- 32, بتوسط: بعض مشكلات الفلسفة, وليم جيمس: 83- 84. 
(11) انظر دراستنا: أصول الفلسفة والمنهج الواقعي.. دراسة ونقد, مجلّة البرهان ع2: 72- 73. 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/08



كتابة تعليق لموضوع : المعرفة الحسية إشكالية وحلول (3)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net