صفحة الكاتب : د . مسلم بديري

ليس ثمة وطن مونودراما
د . مسلم بديري

النص مونودراما . . هكذا يشير العنوان .. لكن هل هو هذيان حقيقي ؟ جنون ؟ لا أعلم .. حقيقة لا أعلم  , ولست مسؤولاً على عدم علمي بذلك , نعم أنا مؤلف النص , لكنه كابوساً أو حلماً , لا أعلم بالضبط , ولسنا مسؤولين عن تأليف احلامنا , ربما ننسى فرويد وأقواله , فهو لم يحاول تفسير أي حلم عراقي , لذا فتفسيره مشكوك في أمره , فنحن لم نرَ الأمان يوماً ,رغم ذلك نحلم به , ولم نعرفه ابداً , رغم ذلك نسقطه على احلامنا , والمهم : 

لو فكر مخرج  - اعانه الله – على ترجمة هذا الجنون على الخشبة فبإمكانه ان يتعامل مع النص بطرق عديدة تمكنه مخيلته من عددها , وأرى منها : أن يقدم النص مونودراما مع اسقاط مشاهد فيديوية بطريقة ما  قد تكون داتشو , مشاهد فيلمية لما يتذكر البطل , أو قدم يفكك المخرج النص ويقدم مشاهده منفصلة , تماما ً 

المنظر :  

المكان الآن قفر تماماً  خلا لوحة معلقة على الجدار , وموقد ليس فيه الا بقايا قليلة جداً من نار , من المفترض ان المكان كان يجمع بين كونه (( مرسما)) وبين كونه (( بيتا )) لكن أمراً ما جعله هكذا , ترتمي فيه الفوضى الصامتة , فوضى الاشياء التي لم تعد أشياءً  

قبل رفع الستار نسمع صوت ريح , صوت البرد – إن لم يكن البرد ك كواتم الصوت -  ثم يفتح الستار على (( الرسام )) وهو رجل هزيل – بلا هزال -  يبدو من التعب وكأنه معلق بين حياة والموت , ملابس رثة , يجلس القرفصاء 

 

يفتح الستار ومع الاضاءة تأخذه(( الرسام )) نوبة غريبة يرجف فيها ويرتعد , ثم ينهض 

يسير في المكان بقلق : لا أعرف ما الذي يجعلني أقول هذه الكلمات , أعرف ان لا معنى لها  - ربما – ظاهريا .. لكنها – يقيناً -  

.....(( يقاطع كلامه بصمت مفاجئ )) عليّ  .. أن لا أنسى .. ( صمت )  ولكن هل نسيت ؟! ....   ( صمت ) وهل جاز لي النسيان ..  ( صمت ) عليّ ان انتبه الى ان امامي الآن مشكلة واحدة ...  نعم واحدة لا غير .. ( يتوقف ) ربما كل المشاكل قد اختُصرت فيها ... 

ينبغي عليّ عدم نسيان ذلك .. أنا الآن اواجه المشكلة الأصعب .. الموت ؟ نعم أعترف ان الموت هو المشكلة الأصعب .. وأنا الآن اواجهه .. أعزل .. احاربه .. ( صمت ) لكن – يقينا – ليس الموت بحد ذاته ما يقلقني .. ان ما يقلقني حقاً هو ذلك التحوّل الجذري المفاجئ .. هو تماماً الموت .. ( يستدرك )  لكني مصر تماما على ان مشكلتي ليست مع الموت ..

( يهمس ) ماذا ؟ ماذا ؟ نعم تماماً .. الموت هو التحول المفاجئ .. لكني صدقني .. التحول هو ما يقلقني  .. ( صمت ) 

( يتجول ) اذن مرة أخرى  وبطريقة أو بأخرى ان ما يقلقني هو الموت ؟! ( صمت )

( يستدرك  ) لا .. لا .. يقيناً ما يقلقني هو تلك الرغبة في البقاء .. ( صمت )

لكنها رغبة طبيعية .. أليست كذلك ؟! نعم – يقينا ً – هي رغبة طبيعية مشروعة .. ولكن ( صمت )  ( بألم )  غير الطبيعي اطلاقا هو أنني سأموت برداً .. 

( يتحرك بسرعة ) نعم .. قد يبدو ذلك غرائبياً نوعا ما .. هو اني وبعد تلك الخطبة الطويلة التي لم يسمع احد الا  جزءا منها , هو انني اشعر بالبرد .. ( ينتبه ) آه .. نعم هو البرد .. البرد الذي سيفتك بي عمّا قريب .. يقيناً .. ( صمت ) يبدو انك استسلمت تماماً ؟!  ( ينتبه )  .. لا اطلاقا .. لا .. لم استسلم .. عمّا قريب سأنتصر .. ( يجلس القرفصاء ) الليل طويل جداً .. يبدو انه العام الالف بعد الليل الأول  ومازال البرد ذاته ..( ينهض بصعوبة )  ماذا عليّ ان أفعل ؟؟  ( صمت )  يا الهي ( يصرخ ) ما هذا التمسك الرهيب في الحياة .. لم لا أموت ؟ انه امر طبيعي أولا واخيرا ..  وان عشت الليلة .. سأموت غداً .. تعددت الاسباب والبرد واحد .. 

نعم .. اتذكر تماماً العام الاول لي في البرد .. نعم كان في بداية هذه الليلة .. نعم غلبتني الرغبة تلك في الحياة .. غلبتني الى درجة اني نسيت البرد .. نسيته تماماً .. حين ارتفع صوت الانفجار مدوياً .. نعم لقد غطى ذلك الصوت المروع ( يقلد صوت الانفجار ) على صوت البرد المنبعث من أعماقي ( ينبطح ارضا )  هدأت الأصوات وقتها تماماً .. نعم انه الانفجار – الصوت – الذي يسبق صمت العاصفة .. نهضت مسرعاً .. نعم كان الموت يحلق في كل مكان .. ( يصاب بنوبة هستيرية )   نعم كنت ركضت مسرعاً .. كنت الرسام الوحيد .. هناك .. ( صمت – يستدرك ) لكنه الرسام الأعظم .. نعم لقد رسم الموت حينها لوحة اثيرية غطت المكان .. تماماً  كما يسمونه ( مسرح داخل مسرح ) نعم كنت انا الرسام داخل اللوحة ( يركن هادئا )  نعم كم كنت تائهاً حينها .. تائها بين الندم وبين الحيرة .. ندمت على اني لم اجلب فرشاتي .. والواني .. لا ( يستدرك ) لم اكن احتاج حينها اية الوان .. كان المكان بلون واحد مع تدرجات الموت .. تدرجات الموت .. كنت احتاج فقط فرشاة لرسمها .. لم اجد شيئا -  حتى فرشاتي – لأسعف بها  بهذا ذلك الحب الذي بتر موعده .. على غير اكتمال .. نعم ركضت مسرعاً وانا اختزن في مخيلتي لوحة كبرى .. ركضت الى مرسمي هذا ( يشير الى  المكان ) لأدون المأساة .. ( يمثل ما يقول ) فحت باب المرسم ( يبحث في الهواء ) اين الباب ؟! ( صمت – يفكر ) هل من المعقول ان الانفجار عصف به ؟! أين اثاره .. ( يصرخ ) لا.. لقد كان موجودا ً .. 

( يستدرك ) نعم تذكرت لقد حرقته في محاولة لدفع البرد ( يضحك ) وبقى المرسم كما ترون دون أي باب .. ( يضحك )  نعم لا أفكر ان يسرق احدهم لوحة ما , فالجميع مشغول بنقل الجثث الى الطب العدلي .. المهم  .. اني فتحت الباب ( يمثل فتح الباب في الهواء ) يال الهول ( يصرخ )  لقد كانت الاذرع والسيقان تملأ المرسم .. نعم لقد سبقتني الى هنا وسبقت الزمن .. كانت تبحث عن الخلود ( يضحك ) الخلود معي انا الذي عمّا قليل سيهلك برداً .. نعم منذ الف عام والجثث والبرد تحاصرني .. انه الخلود ( صمت ) ربما هذا هو الخلود ؟! من يعلم ؟! على اية حال وبعد ان فتحت الباب .. سآخذ الفرشاة واجلس هنا .. لأرسم الحب .. ( صمت ) أي حب ؟! نعم سأرسم الحب بين ساق محروقة وأخرى نصف مشوية .. المحروقة تماماً هي ساق رجل .. نعم هذه هي العدالة الرجال يتحملون أكثر من النساء .. نعم أحتاج الآن الى فرشاة .. أين الفرشاة .؟!  ( يبحث عنها ) ربما هنا ,, ربما هنا .. لحظة سأجدها هنا .. لا .. لا غير موجودة اطلاقاً .. ( يستدرك ) نعم تذكرت مكانها .. يبحث عنها في الموقد .. حسناً .. لم تحترق تماماً .. على حالها كما رأيتها العام الماضي .. نعم بإمكانها الرسم .. والمهم هو أني استجمعت ادواتي وبدأت الرسم .. ( يمشي بسرعة ) لحظة يجب أن اكمل طقوس الرسم .. لا استطيع الرسم دون ان اسمع سيمفونية بيتهوفين .. نعم لا حاجة لي الى التلفاز المحترق .. نعم لقد احرقته قصداً .. ربما لدفع البرد أيضا .. لكن لأنني اعلم ان ليس ثمة بيتهوفين .. سيخرج الملك بحلته الانيق ويقول ( بفخم صوته ) 

سيقول :  " شعبي العزيز اعلم انكم لن تنفدوا ولذا لن اتخذ اية اجراءات للحد من الانفجارات .. لأنني أعلم أني شعبي كالعنقاء .. انتم تعرفون ان الارهاب لا دين له .. ونحن اصحاب الدين هل من المعقول ان ننزل الى مستواه ونقتله كما يقتلنا "  ( يعود الى صوته – ويضحك ) نعم العنقاء هي تماما ً ما رسمته يومها .. العنقاء برأس مليكنا المفدى .. ( ينتبه ) آه كانت محاولة فاشلة .. لقد عاد البرد يتسلل الى جسدي مرة أخرى .. مثل كل مرة .. نعم سأتحدث عن الشجاعة وحكايات البطولة .. ربما دفعت عني البرد بعض الشيء .. كان مشهدا جميلا وحسب : رأس الملك وجسد العنقاء وهي تنهض من بين ركام الانفجار ..  مشهد مروّع حقاً .. ( يفزع ) البرد يتسلل مرة أخرى الى جسدي نعم سأموت .. لكن ( يتنهد بألم ) هي ذاتها الرغبة في الحياة من جعلني ( يمثل ما يقول ) لنفترض انه هذا هو مكتب الملك .. نعم لنفترض انه هنا في الهواء .. دخلت بقدمي اليمنى الى التحقيق حيث كان الملك جالساً يتأمل اللوحة التي – وأنا متأكد تماماً – من أني تركتها في المرسم  ( يستدرك ) لا بل احرقتها طلباً للدفء ( يهس ) أحرقتها , ويحي .. لا ( مداهناً ) يقينا لم احرقها ففيها الملك .. كيف لرسام مثلي .. لم يأكل شيئا مذ ولد .. أن يحرق ملكاً .. نعم لم  أحرقها والدليل أنها كانت بيد الملك حين صرخ بي قائلاً : 

( يمثل صوت مفخم )

- ويحك ماهذا الذي رسمته ؟!

- لا شيء يا سيدي -  يقينا -  كل خير 

- لا تكذب .. 

- حاشا لله 

( صوته الطبيعي المملوء برداً ) نعم انها الرغبة اللعينة في الحياة هي من جعلني أنافق .. لكن هل نافقت ؟! 

- ( يفخم صوته ) ماذا تقصد من هذه اللوحة 

- ( بألم )  اقصد أن الملك هو من يهب الحياة للناس 

( بقرف – بعد ان عاد لحالته الطبيعية ) كيف لرغبتي في الحياة أن تجعلني منافقاً ( صمت ) رغبة عجيبة ( استدراك ) ماذا ؟! أليست هي ذاتها الرغبة التي جعلتني أحرق الملك طلباً للدفء ؟ ! هذا ليس مهماً الآن .. المهم هو أنني الآن سأموت برداً  

ماذا سأحرق لأحيا من جديد ؟! 

( يفكر ) ماذا ؟ ماذا ؟!

لم  يبق في الارض غيري أنا والملك والقليل من الجثث المتفحمة .. وبما أن النار لا تحرق الملك .. ولكنها ربما تحرق الجثث .. والأفضل من ذلك أن احرق نفسي طلباً للدفء فهو أهون الشرين 

نعم هذا ما فكرت به – تماماً – لكني خرجت طلباً للقليل من الراحة قبل أن أحرق نفسي .. خرجت دون أن أنسى البرد .. كان الوقت عيداً .. أذكر ذلك تماماً لسببين أساسيين .. لأن زوجتي طلبت مني الخروج لأجلب لها مستلزمات صنع الحلوى .. نعم هي قالت انها حلوى العيد .. هي أعرف بالتواريخ مني .. نعم حلوى مجرد حلوى , ( صمت ) لكن من قال انه العيد ؟!  المهم هو أني خرجت وأنا أسير في الهواء ( يمثل ) 

اووووه  ويحي لقد نسيت لماذا خرجت ؟! وهكذا سأسير ريثما أتذكر لماذا خرجت .. ( يسير في المكان ) نعم خرجت لأجلب ما يلزم لصنع الحلوى ؟.! 

( يستدرك ) اطلاقاً .. لا .. نحن نموت برداً .. من أين سنأتي بنار للحلوى ؟!! 

( يسير ) نعم تذكرت ( ينصت – صوت اذان ) اذن أنا خرجت لأصلي .. نعم – يقيناً – خرجت لأصلي .. نعم الصلاة تجلب الدفء .. هكذا قالوا ؟! ولكن لماذا لم أصل في المنزل ؟!  ( يسير – يتوقف ) اووه نعم بيتي لا تقبل فيه الصلاة .. لا أعلم  لماذا .. ولكن هم قالوا هكذا ..؟ من هم ألم أقل قبل قليل أنه ليس في المكان غيري أنا والملك والجثث .. الملك قال ؟ معاذ الله ؟ الجثث ؟! – ربما- وربما زوجتي .. اذن لا بد أن في المكان اناس غيري .. نعم تيقنت من ذلك .. حين دخلت المسجد .. ( صمت )   لا ليس هذا المسجد .. لقد طردوني منه مرات عديدة .. نعم يا لهم من طيبين .. نعم طردوني بلطف تام .. لطف كبير .. طردوني لئلا اشعر بالتمايز الطبقي في  هذا المسجد .. نعم لقد سمعت بأن من كل من يدخلون هذا المسجد هم ممن يأكلون الدجاج واللحم المشوي .. بينما أنا لا أملك الدجاج وحسب بل لا أملك ناراً للشواء لأني لو كنت أملك ناراً لتدفئنا بها أنا وزوجتي لا بل لحرقت نفسي لأدفئ  زوجتي ولأشعر بالدفء قليلاً قبل أن أموت .. لا بل لحرقت نفسي لكي تعد زوجتي حلوى العيد .. نعم مسكينة هي .. عاشت سنين طويلة .. عاشت قرون وقرون تنتظر العيد لكن العيد يحتاج لحلوى لكي يأتي والحلوى تحتاج ناراً .. كان صعبا عليّ اقناع زوجتي بان ما رسمته كان حلوى  فقد قالت لي بصوتها الواهن ( يغير صوته ) 

 ومن قال انها حلوى ؟!  ولكنها  وبعد محاولات اقناعي كادت ان تقتنع لولا انها تهكمت قائلة : ومن سيأكل حلوى على ورق ؟  ( بيأس ) نعم كانت محقة جداً .. فلم تكن شاعرة أو رسامة لتأكل الحلوى على الورق .. ( صمت ) لكنها تتألم جداً ؟! ( يستدرك ) عفواً  كانت تتألم ( يستدرك ) وما زالت .. ( صمت ) لكن لماذا لم يجعلها ألمها شاعرة ؟!  .. أو ربما رسامة .. ( يصرخ ) لا .. لا فذلك لم يكن جيدا لها لأنه لو كان فحينها  سترفض أن تموت ..

.. ( يصرخ ) ثرثرة .. ثرثرة .. نعم كل ما قلته كان ثرثرة .. لم تدفع ( بحشرجة ) عني ألم البرد  .. وها هو قرص المأساة يعاد من جديد .. أنا اشعر بالبرد .. لست أشعر فقط بل أن البرد أصبح رصاصاً يخترق جسدي .. ( ينفخ على يديه ويفركهما ببعض ) عمّا قريب سأموت يقينا .. تلك هي اللحظة التي كنت اخشاها مذ الف عام .. أن اموت دون ان اضع نقطة عند نهاية المأساة , ما اتعس .. ( صمت ) لكن لم لا اموت ؟ من يضمن لي ان بقيت سوف تنتهي المأساة  واضع نقطة عند نهايتها .. اذن فلأموت .. وأترك ألم الصراع اللذيذ ..

( صمت ) .. لحظة .. أليس هذا هو ذات التفكير الذي استولى عليّ ذات يوم حين قالوا : 

( صمت – يهمس ) 

ماذا ؟  نعم اكاد اسمع بوضوح الآن  .. تباً المذياع قد أكلته النيران لذا فأن صوته يوشوش بين الفينة والأخرى .. لكني الآن اكاد اسمعه بوضوح وهو يهمس من بين اشجار السرو .. ( يقلد صوتاً الياً ) خرج الاف الشبان اليوم في مظاهرات حاشدة وهم يحملون الأزهار تعبيراً عن ......  ( صمت ) تباً لقد انقطع الصوت .. ولم أعرف تعبيراً عن ماذا ؟ ( صمت ) ألو ... الو    ( يضع يده منصتا ) هلا اخبرتني عن ماذا .. 

( يفزع ) انا وقح ؟؟ اخرس ... هل يخاطبني ؟! ربما ..لكني لست بوقح .. دعني من الوقاحة .. يمكنني أن اعرف تعبيراً عن ماذا  دون ان اجشم نفسي عناء شتائم مذيع الراديو .. نعم خرجوا تعبيراً عن رفضهم للواقع المعاش .. نعم فألاف منهم الآن عاطلون عن العمل .. وهذا ما يجعلهم عاطلين عن الحب .. وبالنتيجة فهم عاطلون عن الحياة .. 

نعم أتذكر الآن جيداً .. حين أخرجت أدوات الرسم ورسمت العديد منهم  وهم يحملون اطفالهم .. نعم ومن ابتسامة اطفالهم كنت اعرف تماماً أن ثمة علاقة  حب جميلة بين آبائهم  .. هذا جيد جدا .. ( صمت ) ..( يستدرك- يضرب صدغه ) لكن هل فعلاً رسمتهم عشاقاً بأطفال رائعين .. فلأتذكر جيدا ً  .. تلك متعة أخرى قد تقيني البرد  .. المتعة تكمن – يقيناً – في محاولة التذكر .. ( صمت )  لكن النهايات .. ( بحزن ) لم تكن كما اتذكر الآن .. فلقد قمع الجميع .. في تظاهرة الزهور .. اذن .. ولكن كيف رسمتهم عشاقاً وهم لم يجدوا قليلاً من حرية التعبير .. حسناً لأجلب الآن اللوحة فهي كفيلة بحل النزاع  وأرى الآن فيما اذا كانوا عشاقاً أم لا ؟  فلأفتش عن اللوحة  ( يبحث في المكان ) ربما هنا .. ( يدور في المكان ) ربما هناك .. لا ليست هنا ( ينظر الى الموقد بألم )  نعم هناك ..   تذكرت الآن فلقد ( بقلق ) احرقتها وانا احاول دفع  البرد مرة أخرى .. البرد كاد ان يقتلني كل مرة .. لكن الاسئلة كانت تزرع في برداً  جديداً  ..

الاسئلة القاسية .. نعم سأموت من البرد . . أنا الذي كنت يوماً ما اطمع في تمثال أو نصب .. لا .. لا ذلك كثير .. كنت اطمع ان لا ألبث في غياهب البرد  كل تلك المدة .. نعم لم أبع يوما ولا لوحة  واحدة .. ( صمت  )  أنا الآن فاشل في المقاييس العالمية  . . رسام وبعد كل هذا البرد لم يبع أية لوحة  فاشلاً  يقيناً  .. ( صمت )   لكني لم ابعها بكامل ارادتي   .. نعم كانت عزيزة على قلبي  .. نعم كانت قضية .. لم ابع ولا واحدة طوال حياتي  .. كان ذلك كفيلاً  بما وصلت اليه  .. كان ذلك سبباً لأني لم آكل شيئا منذ الف عام ..   ولم ادخن لفافة  تبغ   .. فقط كنت ارسم  وهذا كل ما كنت قادر عليه ..نعم أنا عارف تماماً  بأصول النقد الفني لذا يمكنني القول بان لوحاتي كانت عظيمة .. كانت آية من آيات الفن .. ( صمت – ينصت ) ماذا  ؟ .. ماذا ..؟ أنا وحدي من يعتقد ذلك ؟! 

( يصيح ) لا .. يقيناً .. لا فزوجتي ايضاً كانت تراها جميلة جداً .. رغم انها لا تعرف قواعد الفن .. لكنها وبالإحساس ادركت جمالها .. ( يهمس )  لحظة .. ثمة شخص على الأقل كان قد أدرك – ربما – جمالها  .. نعم أتذكره تماماً , تلك السيدة .. يوم اقيم معرضاً للفن وكانت لوحاتي تملأ الجدران .. اتذكر تماماً : تلك السيدة  بفستانها الاسود القصير .. وقبعتها الانيقة .. غالية الثمن  .. وسيجارها المارلبورو .. نعم الى الآن اتذكر كيف كنت استرق الشم  الى عطرها تارة .. وتارة  الى دخان المارلبورو المتصاعد في الهواء .. نعم كان خروجه  من فمها يرسم لوحة سوريالية غريبة .. نعم اتذكر تماما كيف استقتلت لتشتري تلك اللوحة مني .. نعم واتذكر تماماً تلك اللوحة .. كانت لوحة العصفور الذي يحيطه قفص جميل  .. نعم استطاعت ان تعرف ان ذلك القفص  وهمي ورغم ذلك لم يهرب العصفور .. حتى اتذكر انها قالت : " انا اسمع العصفور يغرد بقوة حتى يبقى حبيس القفص ..  نعم واذكر تماماً كيف تجهمت حين لم ابعها اللوحة .. نعم لقد رفضت  ان ابيعها اياها .. رغم ان الثمن الذي عرضته كان كافياً لأجلب الف علبة مارلبورو ..  وربما يكفي لكي اشتري عطراً  يشبه عطرها .. نعم رفضت ان ابيعها اللوحة .. نعم لأنها لم تكن  مجرد لوحة بالنسبة اليّ مثلما كانت تراها .. نعم  كانت صفحة في مدونة المأساة .. ( صمت )  (  يضحك ساخراً ) مدونة المأساة ..  يا لسخافة الموقف ولكن اين تلك اللوحة ؟ نعم أحرقتها طلباً  للدفء .. ( يضحك ) تلك هي المفارقة الكبرى ان تحرق ما تريد حفظه .. تماما كما يحترق العمر بردا .. او بتعبير الطف .. يحترق طلبا للدفء ( صمت وسكون )  ما هذه الاصوات ؟ لا اكاد استبينها  .. سخرية .. اووه  .. كلكم تنكرون اني عرفت تلك السيدة .. ( ساخراً ) هيه .. هيه  .. هيه اعرفها فقط ؟! يا لكم من سذج ؟ نعم لقد دخنت معها السيجار ذاته مرات عديدة  .. مرات ومرات  .. والتقيتها مرات  عديدة  ..  نعم .. كانت تلح عليّ أن ابيعها تلك اللوحة   .. الأمر بالنسبة اليها لم يعد مجرد لوحة .. الأمر تعدى ذلك .. أصبح مسألة كبرياء الأغنياء  .. هم تعودوا على الحصول على كل ما يريدون .. بينما نحن تعودنا على عدم الحصول على اي شيء مما أردنا .. 

( ساخرا ) ماذا ؟ لا سمعكم بوضوح ؟ هيه .. حتى حيلها لم تنفع معي .. لقد كانت تتردد على مرسمي  .. بحجة اقناعي  برسمها .. لكني اعرف ان لها مآرب  أخرى .. ( يضحك ) لا .. لا يذهب بكم الظن  .. كانت – فقط – تجري رحلة استكشاف لظروفي .. ربما في ظنها كنت غنياً والا لما رفضت  بيعها اللوحة  ..  لا .. اطلاقاً  لا .. لم تكن سطحية ولا محدودة .. 

( بتودد ) أليس كذلك سيدتي ؟! 

كما ترين فلا يمكنني رسمك .. 

لقد نذرت حياتي لتدوين المأساة 

ماذا ؟ انتِ جزءا من المأساة ؟ كيف ذلك ؟ 

دعيني اتذكر ..

( صمت )

( يضع يديه على اذنيه ويصرخ ) 

نعم .. نعم .. تلك هي الحقيقة  

لم تدخل أية امرأة غير زوجتي الى هذا المرسم .. 

لكن من تلك السيدة .. هل كانت تشبه زوجتي ؟ ربما .. أنا اتذكر صورتها في مخيلتي الان .. فلأقارنها مع صورة زوجتي .. لأثبت لكم  .. ( يشير الى الصورة المعلقة على الجدار ) 

( يتجه صوب الصورة .. يتفحصها بألم .. ) زوجتي الحبيبة .. لا .. لايمكن ذلك انها تلك السيدة .. لا .. لايمكن انها زوجتي .. لكن ماذا الذي جاء بزوجتي الى معرض اللوحات .. لا .. انها السيدة البرجوازية .. لكن ما الذي أتى بها الى مرسمي هذا .؟ لا يمكنني التفكير مطلقاً البرد يقتص مني  .. وسيأكل عظامي .. بعد ان اكل جلدي ولحمي .. لا يمكنني التفكير رغم ان المأساة لم تنتهي  وعليّ ان أعيش  ولا يمكنني ان أعيش مع البرد مرة أخرى .. 

ماذا عليّ أن أحرق مجدداً .. 

لم يبق شيء غير هذه اللوحة .. ( يشير الى لوحة في حضنه ) 

ومن قال انها تحترق ؟! 

لأجرب قليلاً .. 

لا ( يصرخ ) .. لا .. لا يمكنني احراقها 

( صمت ) لماذا  لا احرق بعضا منها 

لاااااااا 

نعم .. البرواز فقط ..

سيجلب لي قليلا من الدفء ؟ ثم ماذا ؟ 

هل سيبقى من اللوحة ما يمكنني من تبيان ملامحها 

البرواز فقط ..

لا ...

نعم ... البرواز فقط ...

لا ... 

نعم ... 

( ينهار ) ثم ان قررت احراق البرواز فقط .. من أين لي بالنار ؟

( ينظر في الموقد – رماد فقط للناظر .. ) اوه من اين  اتت هذه النار ؟! نعم انها تكفي لاحراق بلد لكنها ( يمد يده ) باردة جداً .. نعم تحرق البرواز .. لكن .. سيدتي .. زو .. جت .. ي  الحبيبة .. حلمي .. لن احرق البرواز لانه احتضنك كل تلك السنين برغم البرد .. ولكني ايضا  .. سأموت برداً  لأجلك .. لا .. ربما سأدفئك قليلاً قبل أن اقضي .. وربما ادفئ نفسي 

 

(( يدخل في الموقد ............... ويبقى صدى صوته مردداً )) 

أجلسوني هنا في هذه الحجرة الصغيرة .. 

تحدثوا كثيراً عن الدفء الى درجة اني سأموت برداً

حدثوني كثيراً عن الحب ,, ثم تهامسوا فيما بينهم عن موت العشاق

حدثوني كثيراً عن الحلم .... حتى صارت حياتي كلها ليل ولم أنم ....

حدثوني عن الحجرة هذه وقالوا فيها كل ما يلزم لتكون وطن 

ثم تهامسوا فيما بينهم عن العصافير  .......

ستاار 

ملاحظة مهمة :

قبل أي تناول للنص , يجب أخذ موافقة الكاتب ..

العراق

ايميل :muslim_tyrant@yahoo.com

تلفون :  009647703205506


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مسلم بديري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/08



كتابة تعليق لموضوع : ليس ثمة وطن مونودراما
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : قيس جوامير علي ، في 2013/09/14 .

ليس ثمه وطن؟؟؟

موندراما للاستاذ الدكتور مسلم البديري ,,,صراعات الذات الانسانيه التي تهرول للا جدوى ,,
عودنا البديري على الانفجار الروحي الادبي لمعانات الوطن من خلال تسليط الضوء في ذات الشخوص التي تمثل المواطن الذي فقد الارتباط بوطنه واصيحت حياته عباره عن حلم مقتول مغتصب وغربه في الوطن لقد استطاع البديري على نقل الصوره واضحه
بلا رتوش من الواقع الى النص المسرحي ونقل الكره الى ملعب المخرج ليفجر جنون البديري (مونودرامه جميله وصراع للذات رائع
يحتاج الى مخرج له المان مهني واسع وقدره كبيره على التحكم بادواته اضافه الى الابداع والموهبه
الف تحيه حب للبديري لرفد الساحه المسرحيه العراقيه بهكذا نصوص رقيه مثمره

تحياتي

قيس جوامير علي




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net