صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

المعرفة الحسية إشكالية وحلول (5)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
معالجة الصّدر لإشكالية المعرفة الحسيّة
قرّر الشهيد الصّدر أن المعرفة الحسيّة تكسب واقعيتها وحقانيتها في ضوء الدليل الاستقرائي حالها حال النظريات والقوانين العلميّة التجريبيّة الأخرى, حيث أنّ تراكم القيم الاحتماليّة عبر التجارب الناجحة المتكرّرة كثيراً, يفضي إلى رفع قيمة احتمالها. يقول & : «والحقيقة أنّ افتراض موضوعية الحادثة ليس افتراضاً دون مبرّر كما تقول المثاليّة، وليس أيضاً افتراضاً أوّلياً ومعرفة أوّلية كما يقول المنطق الأرسطي، بل هو افتراض مستدلّ ومستنتج حسب مناهج الدليل الاستقرائي، كالقضايا التجريبيّة والحدسيّة والمتواترة تماماً. فالتصديق الموضوعي بالواقع يقوم على أساس تراكم القيم الاحتماليّة في محور معيّن، وفقاً للطريقة العامّة التي فسّرنا بها المرحلة الأولى الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، ويتحوّل هذا التراكم إلى اليقين عند توفّر الشروط اللازمة، وفقاً للمرحلة الثانية الذاتيّة من الدليل الاستقرائي‏»(1).
وتتكئ معالجة الشهيد الصّدر لإشكالية المعرفة الحسيّة على ثلاثة أصول:
الأصل الأوّل: مبدأ السببيّة العامّة (إنّ لكلِّ حادثة سبباً). بمعنى أن كلّ حادثة تستمد وجودها من سببها. وهذا الأصل يدركه الإنسان بشعوره الفطري, ويؤكّده الاستقراء العلمي باستمرار.
ومن دون الإيمان بهذا الأصل لا يتسنّى لنا اثبات موضوعيّة القضايا الحسيّة, وهذا الأمر لا يختلف عليه إثنان فهذا الفيلسوف الألماني عمانوئيل كَنْت (1724- 1804 م) قد عدّ مبدأ السببيّة: من الشروط القبليّة التي من دونها تسقط التجربة وتستحيل المعرفة(2). ويرى الفيلسوف الإسلامي المحدَث العلامة الطباطبائي أنّ : «...أدنى درجات الملاحظة تؤكّد أن أساس حياة كلّ كائن حي بحجم ما لديه من شعور ووعي, يتكئ على هذا القانون (قانون العلّة والمعلول). ولو كان الإنسان أو أي كائن حسّاس آخر لا يؤمن بعلّية ومعلوليّة ما بين ذاته وبين فعله, وما بين فعله وبين إنجاز هدفه, فسوف لا يصدر عنه أقلُّ نشاط وفعاليّة إطلاقاً, وسوف لا يتوقّع حدوث أيّ شيء, ولا ينتظر حدوثه»(3). والمذاهب التجريبيّة المؤمنة بالاستقراء رأت من هذا الأصل أساساً في نجاح الاستقراء ورفع درجة احتمال الحوادث.
ومن ثمَّ فلا يشك أحد في أهميّة هذا الأصل وإن اختلف في تفسيره ومصدره. فلا يخفى أن المدرسة الأرسطيّة اعتبرت هذا المبدأ عقليّاً أوليّاً, حيث رأت هذه السببيّة سببيّةً عقليّة, بمعنى أنها علاقة بين مفهومين من مفاهيم الطبيعية (كالنار والإحراق مثلاً), بحيث تجعل وجود أحدهما ضرورياً عند وجود الآخر. فالسببيّة الأرسطيّة تتضمّن عنصر الضرورة الوجوديّة, وعنصر الضرورة هذا قبلي عقلي لا يمكن ليد التجربة أن تناله بأي نحو. 
أمّا المدرسة التجريبيّة فقد رفضت شيئاً إسمه الضرورة الوجوديّة, وقالت أن العلاقة السببيّة عبارة عن مقارنة وتعاقب بين ظاهرتين, فسببيّة النار للإحراق معناه أن الإحراق مقارن لوجود النار ويعاقبها, أمّا أن هناك ضرورة لتحقّق الإحراق بعد وجود النار فهكذا ضرورة لا يمكن ليد التجربة أن تصل إليها, وما لا تصل إليه يد التجربة فلا معنى للإيمان بوجوده. و«علاقة السببيّة- بمفهومها العقلي، بوصفها علاقة ضرورة بين (أ) و (ب)- من القضايا التي لا تمتدّ الخبرة الحسّية إليها؛ لأنّ الخبرة الحسّية بإمكانها أن تدرك (أ) و (ب) واقتران أحدهما بالآخر، وأمّا علاقة الضرورة بينهما فليس بإمكان الخبرة الحسّية أن تدركها. وعلى هذا الأساس رفض (دافيد هيوم) علاقة السببيّة بوصفها علاقة ضرورة، وفسَّرها: بأ نّها مجرّد اقتران أو تعاقب مطّرد بين الظاهرتين، تجاوباً مع اتجاهه التجريبي في نظرية المعرفة. وكان ذلك بداية تحوّل السببيّة، في الفكر الفلسفي الحديث، من علاقة ضرورة بين ظاهرتين إلى قوانين سببيّة تصف اطراداً معيّناً للاقتران أو التعاقب بين ظاهرتين، دون أن تضيف إلى ذلك أيّ افتراض عقلي للضرورة»(4).
وأمّا الشهيد الصدر فيعتقد أن المعالجة الاستقرائيّة تتوقف على إفتراض عدم وجود مبّرر قبلي لرفض علاقات السببيّة العقلي, ومن ثمَّ فلا نحتاج لكي يصحّ لنا إجراء الدليل الاستقرائي أن نستدل مسبقاً على عدم احتياجه لذلك, بإعتبار أن الرفض هو الذي يحتاج إلى إثبات ودليل, أمّا عدم الرفض القبلي فلا يحتاج لإستدلال وإنما يكفي فيه عدم وجود مبّرر للرفض(5).
ويرى السيّد الشهيد أنّ المحاولات التي أرادت تفسير نمو الاحتمال في القضايّا الاستقرائيّة قد عجزت عن ذلك ومنيت بالفشل, بسبب من رفضها القبلي للعلاقات السببيّة العقليّة رفضاً كاملاً, وهذا هو ما وقع فيه الفلكي والرياضي الفرنسي بيير لابلاس (1749- 1827م) فعلاً. حيثُ حاول أن ينتهج الدليل الاستقرائي منطلقاً في ذلك من بديهيات حساب الاحتمال فحسب دون الأخذ بعين الإعتبار أيّ تصور لقضايا السببيّة. وكذا نفس المشكلة قد واجهها عالم الاقتصاد الإنجليزي جون مانيار كينز (1883- 1946م), عندما حاول إقامة التعميمات الاستقرائيّة على أساسٍ رياضيّ بحتٍ دون الأخذ بالحُسبان أيَّ تصوّر لعلاقات السببيّة(6).
الأصل الثاني: الإيمان باستحالة الصدفة المطلقة, بمعنى استحالة وجود حادثة بلا سبب.
وهذا الأصل يمثّل سببيّة عدميّة, بمعنى أن وجود الشيء مع عدم وجود سببه مستحيل, وذلك لأن عدم السبب سببٌ لعدم الشيء (المسبّب). والإيمان بهذا الأصل لا يتوقّف على التصديق بالمعرفة الحسيّة, وذلك لأن المعرفة الحسيّة لا تمثّل سوى الشروط اللازمة لإقتضاء العقل أن يخرج إلى الفعليّة, فهي شروط ضروريّة ومقدمة كي يخرج المقتضي الكامن بالقوّة في صميم الذهن البشري إلى عالم الفعليّة والتحقّق(7).
الأصل الثالث: السببيّة الخاصّة.
وهنا يراد بها السببية بين الصورتين الذهنيتين المقترِنتين, لا بين المحسوس بالذات (الصورة الذهنية) والمحسوس بالعرض (الوجود الموضوعي الخارجي لذي الصورة), كي يقال أن الأخير هو أوّل الكلام وأساس الإشكاليّة. وبالتالي فالاقتران المستمر المتكرّر في الذهن بين الصورتين (الحرارة والتمدد) أو (قرص الشمس والضوء) أو (أ) و(ب), يشكّل أساساً لرفع قيمة احتمال سببيّة إحدى الصورتين للأخرى. وبهذه الطريقة نبقى على الحياد تجاه كون الحادثة موضوعية أو ذاتية.
إذا سلّمنا بهذه الأصول الثلاثة يأتي دور الإستدلال على موضوعية المعرفة الحسيّة استدلالاً استقرائياً وفقاً للمذهب الذاتي فنقول: 
ذكرنا فيما سبق أن الشك بموضوعية المعرفة الحسيّة له صيغتان: الصيغة الأولى افترضت وجود إحساس بالظاهرة التي نواجهها غاية الأمر أنّنا نشك في منشأ هذا الإحساس, فهل هو أمر ذاتي أي ليس له حظ من الوجود الموضوعي خارج الذهن الإنساني, أم أنه حادثة موضوعية والإحساس يمثل انعكاساً وظِلاً له ليس إلا ؟.
أمّا الصيغة الثانية التي تطرح لبيان الشك في المعرفة الحسية, فهي تقرُّ بوجود ذاتي للقضايا المحسوسة, أمّا أنها هل لها وجود موضوعي أو لا, فهذا ما يتطلّب إقامة الدليل عليه. وبالتالي فَفَرقُ هذه الصيغة عن الصيغة الأولى, أن الصيغة الأولى يوجد فيها احتمال أن يكون الواقع الموضوعي هو السبب في ذلك الإحساس, أمّا في هذه الصيغة فلا يوجد هكذا احتمال, ولكن كلتا الصيغتين يشتركان ببداهة وجود الإحساس الذاتي (الصورة الحسيّة), أي هو أمر واقع في النفس الإنسانية بنحو البداهة.
إذا اتضح ذلك نشرع في بيان استدلال الشهيد الصّدر لإثبات المعرفة الحسيّة, مقتصرين على بيان المعالجة وفقاً للصيغة الأولى من الشك, دون التطرّق لبيان استدلاله في معالجة الإشكاليّة وفقاً للصيغة الثانية فنقول:
على أساس الصيغة الأولى للشك يمكننا إثبات موضوعيّة القضايا الحسيّة من خلال عدّة خطوات:
الخطوة الأولى: إنّ احتمال كون منشأ الإحساس هو الجانب الذاتي يساوي احتمال كون المنشأ هو الجانب الموضوعي. وذلك لأنه على كلا الاحتمالين لا يوجد لدينا شك في وجود نفس الصورة الحسيّة, غاية الأمر أنّنا نشكّ في كون السبب لها هل هو الواقع الموضوعي لتلك المحسوسات (أي ما هو خارج إطار النفس), أو كونه الجانب الذاتي (أي ما هو نفس المدرِك). ووجود نفس الإدراك لا يرجّح أحدهما على الآخر فهما متساويان.
وهذا معناه أنه يوجد لدينا علم إجمالي حسب مصطلح علم أصول الفقه(8), يتمثّل طرفاه في الجانب الذاتي والجانب الموضوعي للحوادث, وقيمة كلّ طرف منهما تساوي ½. وهذا العلم الإجمالي علم إجمالي (قبلي) بمعنى أنه يتشكّل قبل ممارسة أيّ تجربة, وبموجبه تكون قيمة احتمال الذاتيّة تساوي ½ وقيمة احتمال الموضوعية تساوي كذلك ½.
الخطوة الثانية: بعد أن أثبتنا مبدأ السببيّة العامة (أن لكل حادثة سبباً) من خلال الدليل الاستقرائي كما تقدم ذلك, يمكننا أن نستعين به لإثبات موضوعية الإحساس, وذلك أنه بالملاحظة المستمرّة نشاهد في إدراكنا الحسّي إقتران صور بعض الأشياء بصور أشياء أخرى, فنشاهد في إدراكنا اقتران صورة التمدّد في الحديد بصورة الحرارة, واقتران صورة تحقق الضوء بوجود صورة قرص الشمس وصورة (أ) بصورة (ب) وهكذا... آلاف من الصور المقترنة.
فيمكننا من خلال هذه الإستعانة بهذا الإقتران الكثير المتكرّر في إدراكنا, أن نتخذ منه أساساً لإثبات سببيّة احدى الصورتين للأخرى, وذلك لأنّ لكلّ حادثة سبباً كما تقدم, وهذه الصور الإدراكيّة الذهنيّة حوادث فلا بدَّ لها من سبب, وعليه فاقتران الحادثتين معاً بصورة مستمرة وكثيرة كاشف عن علاقة السببيّة بينهما.
وهكذا نتوصّل إلى اثبات سببيّة إحدى الحادثتين للأخرى من خلال التتبّع الكثير والاستقراء في الحوادث, وكلّ ذلك يجري ونحن في حالة حيادٍ كاملٍ تجاه كون الحادثة أمراً ذاتياً أو موضوعياً.
الخطوة الثالثة: بناءاً على ما تقدم فلو اتفق بعد ذلك أن ندرك الحادثة المقترِنة بحادثة أخرى وكانت مسبّباً لها حسب الإستدلال الاستقرائي المتقدم ولنرمز لها بـ(ب).
أقول لو اتفق أن أدركنا الظاهرة (ب) من دون الظاهرة (أ) التي تبيّن أنها سبب لها, بمعنى أنّنا نرى التمدّد من دون رؤية النار, أو نبصر الضوء من دون إبصار رؤية قرص الشمس, فهنا سوف يتشكّل لدينا علم إجمالي بتحقّق سبب لوجود الظاهرة (ب) لأن كلَّ حادثة لابدَّ لها من سبب, غاية الأمر أنّنا نشك في أن سبب هذه الظاهرة هل هو (أ) الذي أثبتنا فيما سبق سببيته لـ(ب), أو يكون السبب أمراً آخر غير (أ) ولنرمز له بـ(ت).
وعلى هذا فسوف يوجد طرفان لهذا العلم الإجمالي: الطرف الأوّل احتمال كون السبب هو (أ) ممّا يعني أنه حالة موضوعية خارج إطار نفس المدرِك بالرغم من أنه لم يلاحظ في هذا النحو من التجريب, أمّا الطرف الثاني فهو ماهية مقيدة بصفة كونها سبباً للظاهرة (ب), غاية الأمر أنّا لا نعلم أن هذه الماهية هل هي (أ) أو (ب).
وهذا العلم الإجمالي قبلي ثاني وذلك لأنّه يضم الصور الممكنة أو قل محتملات سببيّة (ت), فيعطى لـ(أ) درجة احتمال ½ ولـ(ب) درجة احتمال ½.
الخطوة الرابعة: إنه مضافاً للعلمين الإجماليّين القبليّين الأوّل والثاني, يوجد علم إجمالي بعدي حاصل بعد إجراء التجارب الناجحة لإكتشاف سببيّة الظاهرة (ب).
ويحدّد لنا العلم الإجمالي هذا قيمة احتمال عدم كون (ت) سبباً لـ(ب), وذلك لأن هذه السببيّة محتملة ليست إلّا, فما دامت محتملة فمعناه توفّرنا على علم إجمالي يستوعب محتملات سببية (ت) لـ(ب) ومحتملات عدمها. ويحدّد لنا قيمة الإثبات وقيمة النفي, ذلك أنّنا بعد إجراء التجارب الناجحة ولنفترضها تجربتين, سوف يتحصّل عندنا علم إجمالي مؤلّف من الأطراف التالية:
1. أن تكون (أ) هي السبب و(ت) موجودة مع التجربة الأولى فقط.
2. أن تكون (أ) هي السبب و(ت) موجودة مع التجربة الثانية فقط.
3. أن تكون (أ) هي السبب و(ت) موجودة مع التجربتين معاً.
4. أن تكون (أ) هي السبب و(ت) غير موجودة مع التجربتين.
5. أن تكون (ت) هي السبب و(ت) موجودة مع التجربة الأولى فقط.
6. أن تكون (ت) هي السبب و(ت) موجودة مع التجربة الثانية فقط.
7. أن تكون (ت) هي السبب و(ت) موجودة مع التجربتين معاً.
8. أن تكون (ت) هي السبب و(ت) غير موجودة مع التجربتين.
وواضح جدّاً أن الطرف الخامس والسادس والثامن غير محتملة, وذلك لأنه لا يحتمل أن تكون (ت) هي السبب وهي غير موجودة مع أي من التجربتين, فيتحصّل من ذلك أنّنا أمام علم إجمالي مؤلّف من خمسة أطراف, أربعة منها في صالح كون (أ) هي السبب لـ(ب) أي في صالح التعميم الاستقرائي, وطرف واحد منها في صالح كون (ت) هي السبب لـ(ب)(9).
وهكذا يتضّح أن الاحتمال الذي ينفي لنا كون (ت) هي السبب والذي يحدّده لنا العلم الإجمالي البعدي, هو بنفسه يثبت لنا سببيّة (أ), وذلك بإعتبار أن (ت) إذا لم تكن هي السبب لـ(ب) وكان (ب) موجوداً كما هو الفرض, فلابد أن يكون (أ) الذي ثبت في الخطوة الثانية المتقدمة كونه سبباً لـ(ب) موجوداً لأنه لا يمكن أن توجد حادثة بلا سبب وفق مبدأ السببيّة العامة. وفي نفس هذا الإثبات تتأكد لنا موضوعية (أ) بمعنى أن وجوده غير مرتبط بإدراكنا وإنما إدراكنا تابع لوجوده.
ومن هذه الخطوة يتّضح أنه يوجد تعارض وتناف بين الاحتمال النافي لسببية (ت) في الظاهرة (ب) المستمد من العلم الإجمالي الحاصل بعد إجراء التجارب الناجحة, وبين احتمال ذاتيّة الحادثة (ب) الذي هو (أي كونه أمراً ذاتياً) احتمال مستفاد من العلم القبلي الأوّل الذي أعطى قيمة ½ لاحتمال كونها ذاتية وكذا قيمة ½ لاحتمال كونها موضوعية.
وكذلك يظهر لنا وجود تناف بين الاحتمال النافي لسببيّة (ت) في الظاهرة (ب) وبين احتمال وجود (ت) في حالات رؤيتنا لـ(ب) دون (أ) الذي هو احتمال مستمد من العلم الإجمالي القبلي الثاني, الحاصل بعد رؤية (ب) دون رؤية (أ) الذي ثبت بالاستقراء المتقدم كونه سبباً لـ(ب).
الخطوة الخامسة: في هذه الخطوة استعان الشهيد الصّدر بفكرة الحكومة بين العلوم الإجمالية لبيان حاكمية احتمال نفي سببية (ت) للظاهرة (ب), على ما نتج من العلم الإجمالي القبلي الثاني. حيث قلنا في الخطوة الثالثة أنه سوف يتشكلّ لدينا علم إجمالي طرفاه عباره عن: الطرف الأوّل احتمال كون السبب هو (أ) الذي ثبت بالاستقراء في الخطوة الثانية سببيّته للظاهرة (ب), والطرف الثاني هو ماهية مقيدة بصفة كونها سبباً لـ(ت) غاية الأمر أنا لا نعلم على وجه التحديد هل هذه الماهية المقيدة بهذه الصفة هي (أ) أو هي (ت), بمعنى كون الطرف الثاني من أطراف العلم الإجمالي هو كلّي السبب لـ(ب).
 هنا نقول لو قمنا بعملية مقارنة وقياس احتمال نفي سببية (ت) مع أطراف ذلك العلم الإجمالي القبلي الثاني, فسوف نجد أن احتمال نفي سببية (ت) يكون حاكماً على القيمة الاحتمالية التي أعطاها ذلك العلم الإجمالي القبلي الثاني لاحتمال وجود (ت) عند تحقق (ب). وذلك لأنّ هذا الاحتمال (نفي سببية «ت») ينفي كون (ت) مصداقاً للماهية المقيدة المعلومة بالعلم الإجمالي القبلي الثاني, أي ينفي كونه مصداقاً لكلّي السبب في تحقق الظاهرة (ب), لأن غاية ما يعطيه هذا العلم لنا وجود مصداق لماهية ما بينه وبين الظاهرة (ب) علاقة السببية, وبما أن احتمال نفي سببية (ت) للظاهرة (ب) يعني أن (ت) ليس مصداقاً لكلّي السبب أو للماهية المقيدة بصفة بكونها سبباً لـ(ب), فهذا ينتج لنا حاكمية احتمال نفي سببيّة (ت) على ذلك العلم الإجمالي وأن (ت) ليس مصداقاً لكلّي السبب الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي القبلي الثاني.
وهكذا سوف نحصل على قيم احتماليّة ترفع قيمة احتمال موضوعية الحادثة, وهي تلك القيم التي تنفي احتمال سببيّة (ت) للظاهرة (ب). وهكذا كلّما كثرت الأمثلة والحالات.. فهناك آلاف من (الباءات) يجري فيها الحساب نفسه لإثبات موضوعية (الألفات) التي هي أسبابها(10).
وإذا ثبت لدينا في حالة تكثر الباءات موضوعية الألفات التي أسباب لها, فسوف نعرف من خلال ذلك أن معرفتنا بوجود الواقع الموضوعي, يعبّر عن نفس هذه المعرفة الاستقرائية وليس هو شيء غيرها, وذلك لأن معنى موضوعية الألفات التي هي أسباب للباءات أنه توجد قضايا محسوسة لها واقع موضوعي خارج إطار الذهن والتصور, والعالَم يعبر عن مجموع هذه القضايا المحسوسة المستقلّة عن الإدراك البشري. وبالتالي فالاعتقاد بالواقع الموضوعي للعالم يستمد مبرره المنطقي من الدليل الاستقرائي, فما يقوله المثاليون والسفسطائيون من أن الإيمان بالواقع الموضوعي للعالم لا يمتلك مبرراً, كلامٌ لا يمتلك هو مبرراً.
 
الهوامش:
( ) الأسس المنطقية للاستقراء: 517. 
(2) نقد العقل المحض, عمانوئيل كنت: 140- 141, ترجمة وتقديم: موسى وهبة, مركز الإنماء القومي- بيروت.
(3) أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 2: 226- 227, المقالة التاسعة (العلّة والمعلول).
(4) الأسس المنطقية للاستقراء: 382. 
(5) الأسس المنطقية للاستقراء: 351. أمّا مبررات الرفض القبلي لمبدأ السببيّة, فقد استعرضها الشهيد الصدر ولخّصها في أربع مبررات: منطقية وفلسفية وعلمية وعملية, وناقشها نقاشاً مستفيضاً. أنظر: الأسس المنطقية للاستقراء: 379- 386.
(6) الأسس المنطقية للاستقراء: 353, 371. 
(7) فلسفة كارل بوبر في ضوء معيار النقد (2) أساس التجربة, السيّد عمّار أبو رغيف, مجلّة البرهان ع2: 268.
(8) العلم الإجمالي مصطلح يرتبط بعلم أصول الفقه يقابل العلم التفصيلي ويراد به التمازج بين العلم والشك ولكن للعلم مصبه الخاص وللشك مصب آخر, فقد أعلم أن هناك إناءً نجساً من خمس أواني ولكني لا أستطيع تحديده بعينه, فهنا يوجد لديّ علم إجمالي, فإني من جهة أعلم بوجوده ولكنّي من جهة أخرى أشك في أن أياً من هذه الأواني الخمس هو النجس؟. 
(9) منطق الاستقراء, السيّد عمّار أبو رغيف: 316- 317.
(10) الأسس المنطقية للاستقراء: 521.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/10



كتابة تعليق لموضوع : المعرفة الحسية إشكالية وحلول (5)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net