صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

سياحة فكرية ثقافية (4 ) الايمان والقلب
علي جابر الفتلاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قال تعالى ((انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون)) الانفال 2 هناك ايات كثيرة في القران تتحدث عن المؤمنين منها هذه الاية الكريمة من سورة الانفال فهي تحدد ثلاث اوصاف للمؤمنين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي خافت واذا سمعوا ايات الله تتلى ازداد ايمانهم ومن صفاتهم ايضا التوكل على ربهم ، والصفة الاولى هي مدار حديثنا في هذه الحلقة ،اذ نبين مدى العلاقة بين القلب والايمان ، اذ القلب هو موطن ومسكن الايمان ، فالايمان لا يسعه العقل وحده ولا العاطفة ولا شيئا اخر غير القلب ،ويفسر محمد جواد مغنيه هذا الجزء من الاية الشريفة (( انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم ..)) بقوله )) فالخوف لا ينفك ابدا عن اسم الله عند المؤمنين بلقائه وحسابه وجزائه ، ولكنهم في الوقت نفسه يرجون رحمة الله ، لانهم يؤمنون ايضا بقوله : (( قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )) وقوله تعالى : (( كتب ربكم على نفسه الرحمة )) ومن اقوال الامام علي عليه السلام في وصف المؤمنين : فهم والجنة كمن قد رآها فهم منعمون ، وهم والنار كمن رآها فهم فيها معذبون . وقال الشاعر في وصف المؤمنين :
تعادل الخوف فيهم والرجاء  فلم        يفرط بهم  طمع يوما ولا   وجل
ولكن هناك رأي اخر لا يعتبر حالة الوجل في قلب المؤمن عندما يذكر الله تأتي من الخوف بل هناك وجل قلوب المحبين العاشقين ، فالعاشق عندما يرى محبوبه او يسمع باسمه يرتجف قلبه ويرتعش لا خوفا بل حبا وشوقا ، وهو (( علامة على حالة الخضوع والتسليم وتحكي عن نوع من العلاقة والحب والخشوع بمتعلق الايمان )) ومتعلق الايمان هو الله تعالى وهذا الراي ما يؤمن به اهل المعرفة الذين يرتبطون بالله عن طريق قلوبهم ، فهؤلاء العارفون يخوضون تجربة حب عميقة في قلوبهم مع الله تعالى تختلف درجتها حسب منزلة ومرتبة العارف ومقدار قربه من الله تعالى فيحصل الكشف لهم كلما ارتقوا في سلم المعرفة والخضوع والذوبان في حب الله تعالى فتنور قلوبهم بالايمان . واعلى درجات القرب والكشف انما تحصل للانبياء والاولياء الصالحين ، وقد كان نبينا محمد (ص) قاب قوسين او ادنى قربا الى الله تعالى ، وهي اعلى درجة حصل عليها نبي او وصي ، فكان خاتم الانبياء ، فالايمان عند اهل المعرفة والوجد (( عبارة عن التصديق وتعلق القلب بشئ معين مع اعتماد وتوكل وعشق والاعتقاد بخيرية متعلق الايمان )) سروش فالايمان عند العارفين بالله غير متساوفهو يزداد وقد يضعف بناء على مقدار التعلق القلبي والتوجه الذهني وبمقدار القرب والبعد عن متعلقات الدنيا . وللايمان لوازم وصفات سنتطرق لها في حلقات قادمه اما في حلقتنا هذه فسيكون كلامنا عن علاقة الايمان بالقلب ، باعتبار القلب هو موطن ومسكن الايمان وللايمان درجات ، فأيمان العوام غير ايمان اهل الفكر والعقل وايمان العارفين اصحاب القلوب غير ايمان الاثنين ، والايمان قابل للزيادة والنقصان فقوله تعالى (( واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا )) دليل على ان الايمان يزداد ويضعف ولكن بلوازم معينه ، التقرب الى الله تعالى بالطاعات تزيد من الايمان ، والعكس صحيح ، ومن يحيا قلبه بالايمان يعيش الامل في الخيرات لان متعلق الايمان هو الله سبحانه وهو خالق ومصدر الخير كله ، فكلما ازداد حبنا وتوجهنا نحو الحق المبين توسعت دائرة الايمان في قلوبنا وازدادت ثقتنا واملنا في الله سبحانه ان يرحمنا ويكثر الخير علينا ، ليس خير الدنيا فقط بل خير الدنيا والاخرة انها تجارة رابحة . يقول العارف مولوي (( الايمان عبارة عن طرق الباب بأمل ان يخرج لك صاحب الدار )). فهذه هي التجارة ان تتجه بالاتجاه الذي يؤمن لك الربح ويجنبك الخسارة ، التعامل بالحب والطاعة والخضوع والاستسلام لله تعالى هو التجارة الرابحة ، وعندما نقول الاستسلام فهو استسلام العقول والعواطف والجوارح واكبرها استسلام القلوب لله تعالى فهذا الاستسلام هو الذي يقود الى الربح وتجنب الخسارة قال تعالى (( هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم )) الصف 10 من يقول اني مؤمن فلا يقيس ايمانه بكثرة الافكار والمعتقدات في ذهنه فقط ، ولا بقوة العاطفة نحو معتقداته ، ولا يكتفي بمراسم العباده التي يؤديها ، بل عليه ان يسال قلبه ما مقدار نور الايمان فيه ، ما مقدار الخضوع والخشوع والتذلل والاستسلام ونسيان الذات وقت الاتصال بالمحبوب وهو الله تعالى ، وما مقدار ما يترك هذا الايمان من اثر في سلوك المؤمن وفي علاقاته مع الاخرين ، اذ ماقيمة هذا الايمان ان لم يحدث تغييرا في حياة المؤمن ، يروى عن الامام علي ( ع) ان الامام كان اذا اتجه الى الله سبحانه في الصلاة يكون في حالة خضوع وخشوع واستسلام تام الى الله تعالى حتى انه ينسى ذاته ولا يحس بشئ ، لدرجة ان نبال الحرب في قدمه الشريفه لا يمكن نزعها من قدمه لشدة الم النزع الا اثناء صلاته لانه اثناء الصلاة لا يشعر بأي الم حيث يعيش حالة الاستسلام الكامل لله تعالى ، وهذا هو خالص الايمان ايمان الانبياء والاوصياء والاولياء الصالحين ، هذا الايمان القلبي هو ايمان التجربة الشخصيه ، لان الايمان درجات وانواع فهناك الايمان المعرفي الذي قوامه اشغال العقل والذهن وعماده الدليل اضافة لايمان التجربة الشخصية التي ذكرنا وايمان عامة الناس الذي يقوم على التلقين او العادة او التعليم والتربية (( وحقيقة الامر ان الاديان تقبل هذا اللون من الايمان من المؤمنين )) سروش واعلى درجات الايمان هو الايمان المتأتي من التجربة الشخصية الذي يدخل القلب حيث يكون ايمانا قويا وغليظا لا تنفك عراه ، ولا يمكن زحزحته فهو ايمان التضحية ونكران الذات ، وهو ايمان الشهادة وايمان الحب الخالص والخضوع التام ومثل هذا النوع من الايمان ما نراه عند الانبياء والائمة والاولياء ، واعلاه درجة ايمان نبينا محمد (ص) في تجربته مع الله سبحانه حيث عاش تجربة الكشف الكبير والواسع والراسخ بحيث كان قريبا من الله تعالى بدرجة لم تتيسر لاحد من الرسل قبله ، ان ايمان محمد (ص) وتجربته النبوية مع الله تعالى هي التي نورت قلوب المؤمنين بالايمان ، وتجربته وتجربة الانبياء الاخرين هي التي فتحت الطريق لعامة الناس ليسيروا في درب النور والامل والحب والخضوع والاستسلام للخالق العظيم المدبر الرحيم الودود ذي العزة والجبروت .
فأيمان عامة الناس المتولد عندنا من خلال التجربة النبوية مقبول انشاء الله تعالى وان اختلفت درجاته ، فهو مقبول بعونه تعالى ولو كان بالحد الادنى ومفتوح الطريق ايضا للتسامي والصعود في سلم الايمان وهذا الامر متروك لنشاط وجهود العباد فهم ليسوا متساوين في هذا الخصوص ، ان ايمان العوام يكون احيانا ضعيفا ومهزوزا ومتاثرا بالعواصف ، ولهذا السبب نرى اولياء الدين يصدون ويمنعون العواصف والاهواء التي تحاول زعزعة ايمان العامة من الناس حفاظا على الحد الادنى من الايمان الذي ان فقده العبد تحول الى الجانب الاخر وهو جانب الكفر والعياذ بالله .
(( ان الايمان عبارة عن ثمرة تدريجية الحصول وظاهرة قابلة للزيادة والنقصان والتهذيب والغربلة والتصحيح )) سروش واننا نعيش دائما حالة الخوف على الايمان من ان نفقده او ان يضعف وهذه الحالة هي طبيعية اثناء مسيرة الايمان فالخوف على الايمان من لوازم استمرار الايمان وفحواه ، ومن لا يخاف على ايمانه من العوارض ربما يبقى مراوحا في مكانه في درجة ايمانه ، فالخوف على الايمان يولد السعي والحرص لنمو الايمان وزيادته ،وكلما ازدادت حالة الحب والامل والشوق لله تعالى كلما صعدنا درجة في سلم الايمان يقول مولوي (( اننا نخاف ونرتجف على ايماننا كما تخاف الام على طفلها )) فالحالة اذن طبيعية بل هي ايجابيه في احيان كثيرة اذ يدفع بالمؤمن في سلم الرقي الايماني . وحقيقة الخوف على الايمان تحصل لجميع انواع المتدينين حتى اصحاب التجربة القلبيه الذين يتمتعون بالدرجة العالية من الايمان ، هؤلاء ايضا يخافون على ايمانهم وتعتريهم حالات من الضعف والفتور ، فحالة التجلي والكشف عندهم قد تختفي او تضعف لكن العارف ان احسن المسير وصل الى المراد ، وقد اخبرنا الله تعالى في كتابه المجيد عن تزلزل ايمان بعض المؤمنين بقوله سبحانه (( هناك أبتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا )) الاحزاب 11 اذن الايمان عمل قلبي يقوى ويضعف ، ومن مقويات وعوامل نمو الايمان وازدهاره وجعل القلب عامرا به سالكا سلم الرقي والصعود في درجاته ، العبادة الخالصة لله سبحانه ، بحيث يكون القلب خاليا من أي متعلقات دنيوية غير تعلقه بالله تعالى ، وكلما امتلأ القلب بالخضوع والخشوع والاستسلام لله تعالى خاصة اثناء العبادة كالصلاة او الصوم او الفروع العبادية الاخرى كلما ازداد القلب رقيا في سلم الايمان يقول السيد الخميني ( رض ) في هذا الخصوص (( اعلم ان التفرغ للعباده يحصل من تكريس الوقت والقلب بها . وهذا من الامور المهمة في باب العبادات . فأن حضور القلب من دون تفريغه وتكريس الوقت له غير ميسور ، والعبادة من دون حضور القلب غير مجديه وما يبعث على حضور القلب امران : احدهما تفريغ القلب والوقت للعبادة وثانيهما : أفهام القلب أهمية العبادة . والمقصود من تفريغ الوقت هو ان الانسان يخصص في كل يوم وليلة وقتا للعبادة ويوطن نفسه على العبادة في ذلك الوقت ، رافضا الانشغال في ذلك الوقت باي عمل اخر )) الاربعون حديثا وعندما يتوجه العبد الى خالقه بالعبادة ، ويكون قلبه حاضرا ومتوجها نحو الحق المبين ، فلا بد وان يمر باحدى مقامات الايمان والسمو القلبي والروحي ، ورسولنا محمد ( ص) مربأعلى المقامات ، ولا يمكن ان يمر بمقاماته او تجربته من بعده عبد من العباد ، فهو خاتم النبيين ، كما لم يحصل أي نبي الدرجه التي حصل عليها محمد رسول الانسانيه من قبل فهو رسول قد خلت من قبله الرسل ، والحالة التي كانت تحصل لرسول الله (ص) لم تحصل لأحد من الكائنات كما ورد عنه في الحديث المشهور (( لي مع الله حال لا يسعه مقرب ولا نبي مرسل )) ، لكن في الامكان ان يمر العبد الصالح من خلال حضور القلب باحدى المقامات الميسرة بلطف الله تعالى الى عباده الصالحين ، كذلك كان الامام علي ( ع) له من المقامات العاليه مع الله تعالى وبقية الائمة عليهم السلام ، روي عن الامام الصادق (ع) في كتاب فلاح السائل انه (( كان يتلو القرآن في صلاته فغشي عليه ، فلما أفاق سئل ما الذي اوجب ما انتهت حالك اليه ؟ فقال ما معناه :ما زلت اكرر آيات القرآن الكريم حتى بلغت الى حال كأنني سمعتها مشافهة ممن انزلها على المكاشفة والعيان ، فلم تقم القوة البشريه بمكاشفة الجلالة الالهية )). واخيرا ادعو الله تعالى ان يجعلنا والقارئ الكريم من اهل الايمان وحضور القلب وان يمن الله علينا بحال من احوال عباده الصالحين السالكين سبيل رضوانه تعالى .
A_fatlawy@yahoo.com 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/03/10



كتابة تعليق لموضوع : سياحة فكرية ثقافية (4 ) الايمان والقلب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net