صفحة الكاتب : محمد الحمّار

اليهود يحجون إلينا ونحن ندفع الضريبة
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.


ماذا يحصل حين يكون المواطن غير متدرب على التفكير الذاتي، فرديا كان أم جماعيا، ويفسح المجال للمؤسسات لتفكر مكانه؟ هل تعني الديمقراطية التخلي عن التفكير الذاتي لفائدة التفكير عبر المؤسسات أم أنّ ثقافتنا لم تهيأ لنا بعد الظروف الملائمة لكي نطوّع المؤسسات لفكر الفرد والمجتمع؟
هذه مجموعة من الأسئلة قد أثارتها لديّ قضية المساءلة التي طالب بعقدها المجلس الوطني التأسيسي تجاه وزيرة السياحة التونسية والوزير المكلف بالأمن على خلفية السماح لـ61 زائرا من ذوي الجنسية الإسرائيلية بالدخول إلى تونس لأداء مناسك الحج اليهودي بكنيس الغريبة بجزيرة جربة والذي ينعقد كل عام في فترة تحدد أثناء شهر ماي/أغسطس. مع العلم أنه جرت العادة على أن ينزل هذا الصنف من الزوار بمطار جربة دون سواه أي على مقرُبة من الكنيس لكي لا يتعدوا صفة الحجيج ليصبحوا سياحا.
ما يبعث على القلق حقا إزاء هذه المسألة هو في الأصل الخلط بين قضيتين اثنتين وما ترتب عنه من لخبطة في اتخاذ المواقف. لنرَ كيف حصل ذلك.
عند سماع التونسيين لخبر مطلب المساءلة كانت أولى الملاحظات التي أبداها المبحرون على الشبكة العنكبوتية ومواقعها الاجتماعية تتضمن التنديد بالمجلس الوطني التأسيسي "الذي انتهت صلاحياته والذي لا دخل له في أيّ موضوع وطني عدا موضوع إعداد قانون الانتخابات". لو توقف الأمر عند هذا الحدّ لكنت في رأس قائمة المنددين بمثل تلك المزايدة الصادرة عن مجلس تأسيسي كان قد رفض التنصيص على تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني في الدستور. لكن المحيّر بل والخطير أنّ التنديد بمطلب المجلس التأسيسي قد تحوّل إلى قبول ضمني بتوافد الـ61 زائرا إسرائيليا. كأنّ التطبيع الضمني كان الخيار الوحيد أمام المواطنين الغاضبين على المجلس التأسيسي للتشفي منه.
إنّ هذه المقايضة تذكرني بالتفكير _ البوشي_ (نسبة إلى جورج بوش)، وهو تفكير سطحي يقضي بـ"إما أن تكونوا معنا وإلا فأنتم ضدنا". وتركت المقايضة لديّ قناعة  بأنّ المواطن التونسي قد فكّر بآلية "إما أن يتخلى التأسيسي عن مزايداته السياسية وإلا فنحن مع قرار استقدام زوار من إسرائيل."
للأسف الشديد ذلك ما أكدته أيضا فعاليات برنامج إذاعي تم بثه على الهواء مباشرة (في يوم الثلاثاء 22-4-2014) حيث كانت كل العينات من المستمعين الذين طُلب منهم الإدلاء بموقفهم في القضية مُركزين على "لِم لا يأتي إسرائيليون إلى تونس طالما أنّ بلدنا يأوي مواطنين يهودا وطالما أنّ الوضع السياحي في تونس لم يعد يتحمل أكثر مما تحمل؟". ويتضح من مواقف المتدخلين صنفان من الخلط لا يقلان خطورة عن الخلط السياسي الذي ذكرته: الخلط بين اليهودي والإسرائيلي، والمزج بين الترخيص لذوي ديانة بعينها التمتع بحق القيام بالشعائر الضرورية من ناحية وتوظيف الترخيص لأغراض اقتصادوية، وبالتالي الخلط بين قدوم زوار من إسرائيل من جهة وإحياء القطاع السياحي بعد فترة كساد طويلة من جهة أخرى.
أما ما زاد الطين بلة بخصوص دمج الوضع السياحي بمسألة الحج اليهودي فهو انصهار الإعلام التونسي في منظومةٍ خطيرة لتأييد السلطة الحاكمة مهما كان الثمن. فقد أدلى رئيس الحكومة في نفس اليوم (الثلاثاء) أثناء افتتاحه للمؤتمر الوطني للحوار الاقتصادي قائلا إنّه "من المعروف حتى لدى الحكومات السابقة بأنّ نجاح الموسم السياحي في تونس هو رهين نجاح موسم الحج الخاص باليهود بكنيس – الغريبة- بجربة" (عن موقع افريكن ماناجر).
ففضلا عن المزج غير المبرر(بين الحج اليهودي والسياحة) الذي اتصفت به الرسالة التي تضمنها هذا التصريح فقد استُخدمت الرسالة على التوّ من قِبل الإذاعة المشار إليها أنفا كوقودٍ لتوجيه الرأي العام التونسي وِجهة معينة، مؤيدة لرأي رئيس الحكومة. وكأنّ التونسيين لا يكفيهم المزج بين التفكير الحر والتفكير المؤسساتي، وبين العمل المؤسساتي والعمل السياسي، وبين الشأن السياسي والشأن الثقافي والتاريخي. وكأنه لا تكفيهم مقايضتهم المجلس التأسيسي بالسياح الإسرائيليين حتى نزيدهم مقايضة السياحة بالحج اليهودي عبر تغليف السياسي بالإعلامي.
جميل أن يكون رئيس الحكومة في بلد محسوب على الثورة مقتديا بنوع من البراغماتية (الذرائعية) على غرار كبار حكام العالم. وقد برز ذلك حين دعا مهدي جمعة في نفس السياق المشار إليه إلى "تفادي مثل هذه التجاذبات والمزايدات وإرساء جو من التوافق، مؤكدا أن حكومته تتحمل مسؤولية اتخاذ قراراته السيادية" (عن موقع جوهرة آف آم). لكن أجمل من ذلك إدراك أنّ التوافق لن يسود إلا حين يتوافق الجميع حول كيفية التخلص من هيمنة النظري على التطبيقي (ربط السياحة بالحج فكرة نظرية، كما سنرى) وأنّ القرارات لن تكون سيادية إلا حين تكون مسبوقة باستشارة وطنية واسعة حول مثل هذه القضايا الحارقة.
فلئن اعتبرنا جدلا أنّ مساءلة المجلس التأسيسي لوزيرة السياحة وللوزير المكلف بالأمن مسألة نظرية تشوبها نية المزايدة، وأنّ رفض التطبيع _ من عدمه_  عبر النشاط السياحي مسألة نظرية هي الأخرى، فإنّ ربط نجاح الحج اليهودي بنجاح الموسم السياحي لا يتسم بأكثر براغماتية من المسائل الأخرى. فليس ثمة علاقة مباشرة بين هذا وذاك سوى في حالة واحدة، وهي الحالة التي نعتبر فيها الكيان الصهيوني مسيطرا على السوق السياحية العالمية مع استساغة هذه الفرضية كحقيقة لا رجعة فيها من طرف المجتمع التونسي، بينما الكيان الصهيوني مسيطر فعلا لكنه لم يكن ليحظى بهذه السيطرة لولا سكوت الشعب العربي _ بما فيه الجانب التونسي_  عن حقه في تعديل الكفة لصالحه.
على أساس مبدأ التكافؤ إذن، لا يمكن أن يكون الشعب التونسي هو المسؤول  عن تدهور الوضع السياحي في بلاده طالما أنه متشبث بمبدأ عدم استقبال زوار من كيان استيطاني يحتل قطعة من الأرض العربية تقع تحت ملكية تاريخية فلسطينية وينتهج سياسة الإبادة تجاه الشعب العربي الفلسطيني الشقيق، وطالما أنّ النخب السياسية والإعلامية لا تعمل على تزوير سريرته مثلما فعلت الإذاعة المشار إليها وإنما على تطويرها نحو تكريس السيادة الوطنية وبالتالي نحو التخلص من النظري لفائدة العمل الميداني الناجع، مما سيسهم في تشكّل براغماتية محلية حقة.
مع العلم أنّ في ثقافتنا العربية الإسلامية لم تكن هنالك براغماتية على الطريقة المعاصرة. لكن كان هنالك مبدأ فقهيا مالكيا أشبه ما يكون بها شريطة أن يتمّ تحيينه حسب شروط العصر الراهن. وهو المبدأ الذي يقول بـ " دَعها حتى تقع".  يوصي هذا التصور الفقهي بانتظار وقوع الشيء كي يقع في ما بعد الحكم له أو عليه،  أي أنه يوصي ضمنيا بعدم استخدام أية نظرية للتطبيق قبل حدوث الواقعة. بينما البراغماتية (الذرائعية) _  الأمريكية التي يتبناها شق من النخبة العربية مثل الحكومة التونسية الحالية_ فهي تشتغل حسب مبدأ "سنثير الواقعة التي نراها مفيدة لنا وسنرى ماذا سيقع حيث إننا مستعدّون لتوجيه ما سيحصل نحو مصالحنا".
بكلام آخر لا يمكن أن نكون براغماتيين مثل الأمريكان دون أن نكون براغماتيين مثل أنفسنا: لا بد لنا في مرحلة أولى أن نعدّ العُدة ونقرر ماذا نريد إثارته من أحداث تخدم مصالحنا. حينئذ ستكون التي "ندعها حتى تقع" من محض إرادتنا (الجماعية) ومن عصارة تفكيرنا (الجماعي). ولنفترض أنّ "الواقعة" التي نرغب في حدوثها في قضية الحال هي استجلاب الملايين من السياح الأجانب. سيتوجب الأمر عندئذ تهيئة الرأي العام العالمي _ السائح الاعتباري_ لتصحيح نظرته إلى القضية الفلسطينية. ثم لا بد لنا في مرحلة موالية أن نتسلح بالآليات الضرورية لتوجيه ما سيحدث نحو أهدافنا. حينئذ تكون أفضل المخرجات في قضية الحال إما اختيار بدائل اقتصادية عن السياحة، وذلك في صورة رفض الرأي العام العالمي الشرط التونسي، وإما في أسوأ الحالات استقطاب السياح الذين اقتنعوا بثقافتنا وكانوا متفهمين لمبادئنا ليزوروا بلدنا دون سواهم. وسيكون الرافضون لزيارة تونس على هذا الأساس هم الممارسون للإقصاء، لا التونسيون.
 بالمحصلة، نحن العرب نمتاز بترك الأمور تحصل من دون سابق استعداد لتداعيات الوقائع. وهو ما يتباين تماما مع فكرة البراغماتية وأيضا مع تراثنا الفقهي. مع هذا نريد أن نكون براغماتيين مثل الأمريكان. والذي يحصل آليّا في ضوء هذا التضارب هو أن تستغل حكوماتنا شعوبها على طريقة هجينة تتلخص في كوننا "ندعها حتى تقع ولو حصل وقوعها بإضمارٍ من غيرنا". ويتجسد الاستغلال في أن تفرض حكوماتنا على شعوبها ماهية الحادثة التي يُفترض أن"ندعها حتى تقع". وحين "تقع" _ وهي الحادثة التي ليست ناجمة عن إرادة وفكرة ذاتيتَين_  يكون الحاكم في حلّ من كل مسؤولية تجاه المحكوم. وهذا مما  يتعارض مع الحُكم العادل.
ما العمل في هاته الحالة وفي قضية الحال؟ أعتقد أنّ رئيس الحكومة، عوضا عن أن يبرر مجيء حجاج من إسرائيل وزيارتهم في كنف الأمن وبكل أمان لكنيس الغريبة على أنه شرط لاستفادة القطاع السياحي ككل من زيارات الملايين من السياح العالميين لاحقا، عليه أن  يسأل التونسيين رأيهم في الموضوع ويشرّكهم في صنع البدائل وتجسيدها على أرض الواقع. كما أنّ الإعلام مطالب بتطوير الذكاء الإعلامي بأن يوظفه في خدمة الصالح العام لا في خدمة طرف سياسي أو إيديولوجي بعينه.
فبواسطة السؤال والمساءلة والتشريك والمشاركة يتدرب كلا من الحاكم والمحكوم على صياغة نظرية للتطبيق. فليسمّوها بعدئذ كيفما يشاءون وحسب ما يتناسب معها، لا أن يبقوا رهنا بمبدأ "دعها حتى تقع" المبتور من سنده الروحي والقيمي والعملي، حينما تتحوّل كلمة الخير هذه إلى كلمة شر مفادها "دعها تقع وفليستفد منها البراغماتيون الحقيقيون المتمرسون على غرار إسرائيل بالذات". وإلا فلماذا يتحمل التونسيون دفع ضريبة منسك يهودي لطالما أحاطوه برعايتهم؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/04/24



كتابة تعليق لموضوع : اليهود يحجون إلينا ونحن ندفع الضريبة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net