صفحة الكاتب : د . نعمة العبادي

العراق وأحجية حقل البصل
د . نعمة العبادي

 
منذ نيسان 2003 والعراق في وفرة قادة وأزمة شعب ،فالعراقيون (أغلبهم) ملوا الوقوف في طابور الشعب لأنه طابور طويل ،قليل المكاسب،كثير الأعباء ،قلق المكانة والتقدير ،لذلك وبناء على مقولة (شنو فلان لو فلانة أحسن مني) يتطلع (الأغلب) للخلاص من طابور الشعب والوقوف على منصة القادة.
التطلع المحموم (العلني والخفي) جعل الحديث عن العراق مقسوم إلى خمسة حصص ،أربعة منه في شؤون القائد والقيادة وآليات التسلق على جبال المنافسة وطرق الإلتواء والإلتفاف على الخصوم ،ومنهج الإطاحة بالمنافسين و.....،وحصة خامسة يتيمة تتحدث عما يسمى بالشعب.
في كل المحطات التي ساهمت في تشكيل المشهد العراقي المنظور كان الصراع على الزعامة هو الأبرز والتحدي الاكبر الذي يفت بعضد كل الترتيبات التي تحاول نقل الواقع إلى مرحلة أفضل.
يطرح المفسرون والمشرعنون لهذه الظاهرة حزمة من الأفكار تحاول الوقوف على لغز هذه الأحجية القديمة الجديدة ،فيرى البعض أن الإقصاء والتهميش والتسلط دفع الجميع إلى التفكير بالحصول على مثابات مضمونة تحول دون وصول طوفان الإلغاء إليهم ،لذا فإن المثابة الآمنة تتمثل في الوقوف على دكة قيادة السلطة أو أحد رؤوسها العالية ،بينما يرى آخرون أن التباعد والتعدد لمقاربات الحلول في نظر الفرقاء المتعددون يجعل من الصعب الإطئمنان إلى قدرة المختلف على إنجاز المطلوب ،فيسعى كل صاحب مقاربة وحل إلى أن يكون على هرم السلطة لينفذ ما يريد كما يريد.
هاتان الرؤيتان تطرحان تفسيرات إيجابية لهذا السلوك بينما توجد تفسيرات أخرى تقدم نحو آخر من التعليل ،فتفسير يرى أن هذا السلوك مختزل في البيت الشعري الشهير والذي قيل في المدح لكنه هنا يستخدم في الذم :"قومي رؤوس كلهم    أرأيت مزرعة البصل ؟" ،وهو بيت يحكي جانبه السيء الرغبة المحمومة لدى الجميع للسلطة والتسلط ،بينما يذهب تفسير آخر أن هناك تناسب طردي بين مكانك من السلطة والقدرة على إستغلالها (ماديا ومعنويا) لمصالحك الشخصية ،فالمراتب العليا من السلطة توفر لك فرصة سانحة للحصول على كل مبتغياتك بسهولة ويسر ،من هنا يسعى (الأغلب) إلى إمتلاك (master key) الذي يمكنك من فتح كل الخزائن والكنوز لبلد "لا ولي لدمه".
خلال أربعة سنوات مضت كان الحديث الأعلى صوتا :"حقي ،حقنا،حقهم" ،وأكيدا متعلق هذه الحقوق هم الأفراد والأحزاب والكتل والقوى والمكونات وليس الشعب بمساحاته الواسعة ،واليوم وبعد أن زحف الناس بين زخات الرصاص وأنفاق الرعب ودهاليز الموت الزوئام إلى صناديق الإنتخابات متطلعين إلى غد أفضل وحياة يسودها الأمن والإستقرار يعود الحديث بصوت أكثر علوا عن :"حقي،حقنا،حقهم ،حقكم" ،ونرجع إلى الإحجية القديمة :"كيف يتسع كرسي السلطة إلى هذا العدد الغفير من الطامحين والطامعين والراغبين فيه؟".
لكل فريق من هؤلاء مظلتهم الخاصة التي تبرر سلوكهم حول التدافع على السلطة،فهناك القائلون بشرعية الأعداد والأرقام والحصاد الإنتخابي ،يقابلهم القائلون بشرعية المقبولية والتوافق ،وهناك المتحدثون عن الشراكة ،وآخرون يتدرعون بمساحة اللامقبولية لهذا الطرف أو ذاك ،والمحصلة نحن أمام تدافع جديد على رؤوس أهرامات السلطة ربما يطول لشهور في وضع :"لم تقر فيه موازنة عام 2014 لحد الآن ،وداعش يتحول من تنظيم إرهابي وعصابات مسلحة إلى جيش منظم بكل ما تحمل الكلمة ويتواجد على بعد 60 كم فقط من العاصمة ،وجوار ينهش في لحمنا دون رحمة ،ومنطقة تغلي بالتغيرات العاصفة التي لا يعلم نهايتها إلا الله ،وواقع مزري يعيشه أغلب العراقيين من جهة فقد الآمان وغياب العيش الكريم ،بالإضافة إلى قائمة طويلة من الإستحقاقات" ،فهل يا ترى يضع المتصارعون والمتنافسون والمستقتلون على السلطة نصب أعينهم هذه الإستحقاقات الخطيرة ؟ وقبل ذلك هل يستحضرون عين الله سبحانه وتعالى التي ترقبهم من قرب لترى كيف هم فاعلون بشأن هذا الشعب المسكين وبحق هذا البلد العظيم؟
قد يقول البعض أن هذا الطرح تبسيط وإختزال لمشهد سياسي معقد ،يتداخل فيه الداخلي مع الخارجي ،وتتجلى في حاضره أزمات الماضي وقلق المستقبل ،وتتضافر جهود عظمى على بقائه مأزوما .
أتفق مع كل هذه المؤشرات والتوصيفات لمداخل الأزمة العراقية إلا أنني أصر بقوة على أن "تدافع السلطة" مشكلتنا الأكبر ومصيبتنا الأكثر إيلاما ،فلو قل هذا التدافع المحموم على السلطة ،وقبل بعضنا البعض ،وتحرك كل طرف خطوة بإتجاه المنطقة الوسطى ،وقلل من سقوف مكاسبه الشخصية ورفع من سقوف إستحقاقات الشعب والبلد ،وصار التنافس على أفضل رؤية تستطيع إنقاذ الواقع مما فيه ،لا نخشى أثر التحديات التي أشرنا إليها ،وأقطع أننا نستطيع تجاوزها بسهولة ويسر وبأقل الكلف.
عدة سناريوهات تلوح في الأفق تدعمها تسريبات من وهناك تحاول رسم المشهد القادم للعملية السياسية في العراق ،فحديث قوي عن عودة التحالف الوطني الذي تندرج فيه جميع القوى الشيعية ،وبذلك نضمن كتلة برلمانية ذات أغلبية مريحة تقارب الـ (200) مقعد ،على شرط أن يتحول التحالف إلى مؤسسة سياسية ذات نظام داخلي مستقر يبقى في صلب عملية إتخاذ القرار من قبل الحكومة التي تنبثق منه ،وبناء على هذا السيناريو فإن كتلة دولة القانون صاحبة العدد الأكبر من المقاعد لها حصة رئاسة الوزراء التي تعني ولاية ثالثة للسيد نوري المالكي .
في عرض هذا السيناريو الذي يدعو إلى حكومة أغلبية سياسية على المقاس العراقي الخاص ،والذي يعني أنموذج ملفق من الشراكة والأغلبية ،يجري الحديث عن أحقية كتلة دولة القانون في رئاسة الوزراء شريطة أن يكون المرشح لهذا المنصب غير السيد نوري المالكي.
في سيناريوهات اخرى تفترض عدم إلتئام التحالف من جديد تتحدث إئتلافات أخرى ،فمرة يجري الحديث عن إئتلاف بين دولة القانون وبعض من القوى الكردية وبعض من القوى السنية ونواب يتم سحبهم من هذه القائمة أو تلك ،وبذلك تتشكل كتلة ذات أغلبية مريحة تستطيع تمرير الحكومة عبر البرلمان والسيد المالكي على رأسها.أما الصور الأخرى فتفترض تحالف بين كتلة المواطن والصدريين والأكراد وبعض القوى السنية لتشكيل الكتلة الأكبر ، وصياغات أخرى تفترض تشكيل تحالف عبر طبخة جديدة تختلف عما سبق.
رغم مشروعية بحث القوى عن أداة تضمن تنفيذ رؤيتهم وبرنامجهم الإنتخابي ووعودهم لناخبيهم (والسلطة وحصرا رئاسة الحكومة هي الأداة الأكثر ضمانة لتحقيق ذلك)،فإن شكل الصراع وطبيعة الطرح والمساجلات الدائرة حول الموضوع تضع مئات علامات الإستفهام حول صدقية ومبدئية ومشروعية تلك السجالات والمطالبات ،خصوصا والمواطن والوطن يغيبان حد التلاشى من طيات هذا الحديث المحموم.
أخيرا إذا أستمر الجميع في نظرتهم إلى السلطة بهذه الطريقة فإن أي سيناريو حتى وإن عبر من عنق البرلمان إلى ساحة الوجود سيكون محكوما بنزاع الأضداد الذي لن يستريح إلإ بفشل الخصم أو على الأقل تعويقه من إنجاز أي تقدم على مستوى الواقع ،والذي يعني أربعة سنوات جديدة من الموت والإنفجارات والخراب وتأخر الخدمات بل إنعدمها ،فهل يقرر القوم أن يتحولوا من حقل بصل إلى واحة ورد أينما كانوا فيه يسمونهم وردة ،الصغيرة والكبيرة ،الذابلة والريانة ،وحتى الذابلة يبقى لحائها يبعث عطرا؟؟؟
 

 

مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . نعمة العبادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/05/30



كتابة تعليق لموضوع : العراق وأحجية حقل البصل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net