صفحة الكاتب : د . حامد العطية

ضياع العراق بين طغيان السنة ومسكنة الشيعة
د . حامد العطية

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
   يولد البشر أسوياء على الفطرة الطيبة، ثم تتشوه النفوس بفعل التنشأة والتطبع على العقائد والفكر المسيطر في مجتمعاتهم، ابتسم في وجه طفل يبتسم لك، من دون اعتبار لملامح وجهك أو لون بشرتك أو لغتك الأصلية أو دينك أو مذهبك، وبتقادم العمر تختفي البسمات التلقائية فلا تحظى في أفضل الأحوال بسوى انفراج شفتين متشنج.
  ليست المسكنة خاصية مميزة لشيعة العراق، ولا الطغيان كذلك بالنسبة للسنة، هما وسيلتان مركبتان من أجزاء بعضها حقيقي والبعض الآخر مظاهر تمثيلية تستعملها الطائفتان لضمان البقاء وفي التنافس والصراع حول المصالح.  
   بتعبير آخر العالم خشبة مسرح، وغالبيتنا العظمى ممثلون، نتقمص الأدوار، ونتظاهر وندعي بأن لنا عقائد ومباديء وفكر، والهدف الأول للجميع هو البقاء، ومن بعد ذلك بلوغ أقصى ما يمكن من المكاسب، والعراقيون لا يختلفون عن بقية البشر.
   على مدى 1400 عاماً كانت مصلحة طائفة السنة، وبالذات حكامهم ونخبهم،  في السيطرة على الأقليات واخضاعها لسلطتها، ولجأت إلى كل الوسائل في سبيل ذلك، بما في ذلك الاضطهاد والتكفير وحتى القتل الجماعي، ولنفس الفترة تقريباً فرضت على الشيعة المسكنة، وارتضوها هم لأنفسهم، لا بسخط رباني، كما حل باليهود، وإنما لضرورة البقاء.
   لعب السنة دور الطغاة، تجبروا واضطهدوا لترسيخ تسلطهم، ومثل الشيعة دور المساكين ليأمنوا جبروت الحكام السنة وأجهزتهم القمعية.
   كان وما يزال السنة يعتقدون بأحقيتهم في الحكم، حتى في إيران وأذربيجان الشيعيتان، بدعوى أن إسلامهم وحده هو الصحيح، وكل ما عداه باطل، ولو توغلنا داخل النفوس الواقفة على خشبة المسرح البشري، والمتلحفة بالشعارات والحجج الفقهية والوقائع التاريخية الحقيقية منها والمحورة والمزيفة، وغيرها من وسائل الهجوم والدفاع، لتبين لنا بأنهم يرون السيطرة هدفاً للجميع، فأما أن يسيطروا فيضمنوا بقاءهم ومصالحهم، أو يرضخوا لغيرهم فيخسروا السيطرة والمصالح، وهم أيضاً كما الجميع خائفون، ويتظاهرن بالقوة والجرأة. 
   عندما يكون التسلط الهدف المحوري لفرد أو طائفة فستكون العدالة آخر الاهتمامات، لذا يتولد التذمر والسخط لدى المتلسط عليهم.
  أفقد الاحتلال الأمريكي سيطرة السنة على العراق، وفي البدء تخوفوا من نتائجه على مصائرهم، فرفعوا شعار الأخوة بين الشيعة والسنة، وبعد أن تبين لهم أن المحتلين لم ياتوا لنصرة الشيعة على السنة، وتأكد لهم أن الشيعة باقون على مسكنتهم تحولوا من المسكنة الظاهرية المؤقتة إلى العمل بهمة على استعادة تسلطهم، بالسياسة والمشاركة في العملية السياسية ومن ثم بالعمل العسكري، وحتى الاكراد السنة الذين اكتسبوا دوراً رئيسياً في حكم العراق تعاملوا مع الشيعة شركائهم في تاريخ الاضطهاد بنفس الطريقة التي تعامل بها السنة العرب.
   لأول مرة في تاريخهم الحديث حصل شيعة العراق على دور رئيسي في حكم بلدهم بعد الاحتلال الأمريكي، تصرفوا معه بطريقة غريبة، مثل بعض رابحي ورقة اليانصيب، أو كأنه لقطة عثروا عليها بالصدفة على قارعة الطريق، وكما يسارع رابح اليانصيب لتوزيع بعض أرباحه، ربما لشعوره بأنه غير مستحق لها، كذلك تصرف شيعة العراق باستحقاقهم السياسي، فسارعوا إلى توزيع الهبات من هذا الاستحقاق لمنافسيهم من السنة والأكراد، لماذا حدث هذا؟ الجواب بإختصار هو مسكنة الشيعة الذي بلغت درجة التطبع، فهم لم يستطيعوا التخلص من هذه المسكنة التي لازمتهم قروناً طويلة، واستغل السنة من العرب والأكراد هذه المسكنة لاستلاب الشيعة استحقاقهم ودفعهم تدريجياً للعودة إلى موقعهم الراضخ القديم، وبدعم علني من الحكومات السنية المجاورة وخفي من المحتلين الذين لا تتطابق مصالحهم مع نهوض الشيعة.
   وصف الأخضر الإبراهيمي الوضع العراقي بعد الاحتلال: (الواقع أن معظم القيادات السنية كانت تعيش في عالم آخر. كانت هناك حالة إنكار لما حدث. رغبة في عدم الاعتراف بأن واقعاً جديداً قد نشأ. في تلك الأيام كان المشهد غريباً. استمر الشيعة في التصرف كأنهم أقلية. واستمر السنّة في التصرف كأنهم الغالبية. هناك طرف تأخر في إدراك انتصاره وطرف تأخر في إدراك هزيمته)
    لم يكن السنة في حالة إنكار وإنما استنكار، فسارعوا للإستفادة من الضعف البنيوي في نظام المحاصصة والتوافق السياسي، وتصرفوا بما يمليه عليهم اعتقادهم الراسخ بأحقيتهم المذهبية والتاريخية في التسلط على العراق، كما رفض الاكراد السنة أن يكون الشيعة على رأس حكومة العراق وبقوة أكثر من رفضهم لتسلط أخوانهم ومضطهديهم السابقين من السنة العرب.
   تصرف الشيعة كأقلية، كما يقول الإبراهيمي، لأنهم روضوا وتطبعوا على المسكنة، والمسكنة ميوعة، وعكس الصلابة، وصورتهم في الأذهان مائعة، عناصر القوة والتماسك فيها قليلة، وشبه خالية من مظاهر الهيبة والمنعة، وحتى أصبحت حالة المسكنة المائعة لديهم قاعدة مشروعة، فإذا ظهر بينهم أقوياء سارعوا للوقوف ضدهم، وهم بذلك أضعفوا انفسهم، فازدادوا ضعفاً على وهن، لذلك يراهم المنافسون الأقوياء هدفاً سهلاً للإبتزاز، وهم بالفعل رضخوا لإبتزازهم، وسلموا لهم بأكثر من استحقاقهم، وقدموا التنازلات المذلة بعد التنازلات، حتى لم يعد بأيديهم سوى هياكل للسلطة خالية من القوة، فكانت الغزوة السنية العربية والكوردية لشمال العراق نتيجة محتمة لمسكنة الشيعة وطغيان السنة من العرب والأكراد ونزعتهم للتسلط.
   في لبنان واليمن نزع الشيعة عن أنفسهم رداء المسكنة، واكتسبوا الهيبة والمنعة، فتغيرت صورتهم في أذهان شركائهم في الأرض، فليس يمقدور جماعة التسلط عليهم بعد اليوم بسهولة، أما في العراق والبحرين والسعودية فما يزال الشيعة على المسكنة بدرجة أو أخرى.
   كان بإمكان شيعة العراق التخلص من المسكنة من دون قتال، ومصادر القوة والمنعة كثيرة، والقدرة القتالية مهمة لكنها ليست كل شيء، ويمكن للقوة القتالية أن تتبدد لو كانت القيادة فاشلة، وأعظم الخطايا التي اقترفها شيعة العراق وضع ثقتهم بالمحتلين الأمريكيين وقادتهم الفاشلين واستجدائهم رضا وقبول السنة، ومن المثير للرثاء حقاً مشاهدة شيعة العراق وهم يتوسلون اعتراف العرب السنة بأنهم عرب ومسلمون مثلهم في الوقت الذي يصر السنة على التشكيك بعروبتهم وتسميتهم بالصفويين، ويبدوا من ذلك بأن المشترك الوحيد بين العرب من السنة والشيعة عنصريتهم القبلية.
   طغيان السنة مخالفة جسيمة لشرع الله، ومسكنة الشيعة حالة مذمومة في نظر الدين، في خطابه تعالى لرسوله الأعظم : [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ] الغاشية:21-26، وما لا يحق لأفضل البشر إطلاقاً بالتأكيد ليس من حق أي مسلم أو حتى جميع المسلمين.
   الطغيان والمسكنة مرفوضان، وبهما يضعف المسلمون، لو اجتمعت قوة السنة والشيعة لكانت الحصيلة أكبر من حاصل مجموع الإثنين، ولو استمرا في الاختلاف فسيضعف الطرفان وتتبدد قواهما، ولا يتطلب اجتماع القوتين بالضرورة نبذ الخلافات الفقهية بل يكفي توخي المصلحة على أساس قيم العدالة والأخوة والمساواة وحسن الظن.
   في النتيجة سينزع شيعة العراق عن أنفسهم رداء المسكنة ويتخلصوا من قياداتهم الفاشلة كما فعل أخوانهم في لبنان واليمن وحينئذ سيندم أعداؤهم.
( للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والإصلاح ووسيلة كبرى هي التعلم)
غرة رمضان 1435هـ
28 حزيران 2014م

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حامد العطية
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/06/30



كتابة تعليق لموضوع : ضياع العراق بين طغيان السنة ومسكنة الشيعة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net