صفحة الكاتب : نبيل عوده

يوميات نصراوي: لذكرى أمي...
نبيل عوده

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في صباح اليوم الأول بعد وداعك (29–11–2000) وعلى غير العادة كانت جريدة "الاتحاد"* ملقاة على باب بيتك.. ودافع قوي يشدني لأقرع الباب وأذكرك انك، على غير عادتك.. لم تأخذي الجريدة بعد.
وقفت طويلا متأمّلا الباب الموصد بحيرة.. متخيّلا إيّاك وراءه.. وانك بين لحظة وأخرى ستفتحين الباب وأشاهد وجهك بهدوئه والابتسامة التي لا تفارقه.. وستأخذين جريدتك، تماما كما تفعلين كل صباح.. وأن ما ظننته وداعا أبديا لك هو حلمٌ مزعج، وهمٌ ثقيلٌ سرعان ما يبدّده ظهورُك. كانت الجريدة الملقاة أمام بابك تقول عكس ما نعرف، كنت أريد أن أصدّق، كنت أنتظر، كجريدتك... أن ينشقّ الباب لتملئيه بتفاصيلك المعروفة لي، ثم تأخذين جريدتك.لا يمكن أن نفقدك بدون أي إنذار مبكر وأنت في قمة نشاطك وعطائك وصحتك... لم أكن مستعدا لأتعوّد على غيابك الأبدي، على بابك الموصد وعلى جريدتك المنتظرة.
قبل أقل من عشرة أيام من وداعك رأيت صورتك ترفعين الشعارات ضد جزّاري شعبنا الفلسطيني، لم تظهر عليك أقل الدلائل للمرض العضال الذي يفتك بك... ممّا عزّز يقيننا أنها معاناة عابرة تنتظم بعدها الحياة كما كانت.
حين قرر ابنك الطبيب أن يجري لك فحصا، بعد أن ثارت لديه الشكوك بمرضك، حاولت إقناعه أنْ لا ضرورة لهذه "الغلبة" وأنك، ما عدا قليل من الإمساك، تعالجينه بالدواء المناسب، لا تشعرين بأي عارض صحي يوجب هذا الإصرار على الفحص. أنت حقا بصحة جيدة ونشاط كامل.. تبدين عصيّةً على المرض وبأحسن حال لمن في مثل  جيلك!!
لا أدري إن كنتِ تخفين آلامك هنا؟ لكن وجهك الذي يجعلك تبدين أصغر من عمرك بعقد أو عقدين يؤكد ما تصرين عليه بأن صحتك جيدة ولا تستوجب القلق والفحوصات المتعددة التي حاولت التهرّب منها. لماذا لا نصدّقك؟ لكن طبيبك يصرّ على موقفه وهو ليس كأي طبيب.. إنما هو ابنُك. كان قراره ملزما.. وكان ضجرك من قراره واضحا جليا، واصلتِ بين فحص وآخر حياتك الطبيعية، كنتُ أشعر بسخريتك من قرار "تعذيبك" بالفحوصات.. وكانت "ألاتحاد" تنتظرك كل صباح أمام باب بيتك. كان لا بد لي أن ألقي نظرةً كلَّ صباح عند بابك فأرى أنك سبقتِ الجميع في استلام صحيفتك. كنت تبقين باب بيتك أقلَّ بقيراط من الإيصاد الكامل، لأن قهوتك جاهزة بانتظار كل من يطرق بابك من أبنائك بل حتى بائعات اللبن والبقول..
كان أملنا كبيرا أن لا تتجاوز الشكوك خانتها، ثم صار أملنا كبيرا وقادرا على تجاوز المنطق، لأنك أمنا.
انظر اليوم إلى الباب الموصد بعجز عن التصديق، برفض لقبول ما أرى، بإحساس مجنون متفجّر انك لا بدّ تقفين، كما أعهدك.. وراء الباب الموصد، أو تجلسين بمكانك المعهود، تطالعين جريدتك وتحتسين قهوة الصباح.
وقفت طويلا أمام الباب وأنا بين دافع الإقدام ودافع التراجع.. وشعور بالثقل يتزايد وأقاوم دمعة تكاد تطفر من عيني.
كنتِ أشدَّ قرّائي حماسة وأكثرَهم حفظاً لما أكتب، كنتِ تبحثين أولا عن اسمي بين صفحات "الإتحاد"، تقرأين ما أكتب وتحفظين العدد... كثيرا ما استعنتُ "بأرشيفك" للعثور على ما أفقده من مواد منشورة قبل أن يصبح بابُك موصدا للأبد.
 قبل أن تصبحين مجرّد ذكرى فاجأتِني بأن "أرشيفك" يحوي مختلف المجلات والصحف التي نشرتُ فيها منذ السبعينات، أي مع أول عمل أدبي نشرتُه. بدأتِ تنقلين لي دفعاتٍ تلوَ دفعات أعدادا مختلفة من مجلات "الجديد"، "الغد"، "الأسوار"، "نداء الأسوار"، "الآداب"، "الكاتب"، "البانوراما" وغيرها.. ففوجئت بكتابات نسيتها، بل غابت تماما عن ذهني.
هل كنتِ تعلمين ما بك؟ هل فعلتِ ما فعلتِه من نقل "أرشيفك" لي لتزيديني هما وإحساسا بالفقدان؟ كم أشعر بالضيق من مواصلة الحياة وأنا على يقين أن هذا الباب لن ينشقّ لتقفي في فتحته مرة أخرى.
كم تألّمت في الصباح الأول بعد فقدانك، حين نظرت لصحيفة "الاتحاد" مسجّاة أمام بيتك، دون أن يجرؤ أحدٌ منا أو من أولادنا على التقاطها للاحتفاظ بها لك، كما تعودنا في أيام وجودك خارج البيت.
أبقينا جريدتك تنتظر علّك تطلين أخيرا، علّها تكون معجزة تعيدك إليها وإلينا. يعيد لي أشدّ قرّائي حماسة ومثابرة. هل أستطيع أن أكتب الآن وأنا على يقين بفقدانك مع ما يعنيه فقدانك لي..؟
ربما ما جعلني مثابرا على الكتابة والنشر هو أن لا أخيّب أملك بالبحث دون جدوى عن اسمي وكتاباتي.
ماذا يسعني اليوم أن أقول أمام بابك الموصد؟ أمام جريدتك المنتظرة بخشوع أن ينشق باب بيتك..؟ ربما أطمئنك إذا قلت إني سأبقى مخلصا لقلمي ولما زرعتِه فيَّ من حبٍّ للمطالعة والكتابة.. وإن نسيتُ، فلن أنسى أبدا أنك جعلت من "الاتحاد" كتابيَ المدرسيَّ الأول والوحيد، الذي تعلّمت على صفحاته القراءة وأنا في طريقي لجيل الخامسة ولم أكن بعدها بحاجة لأي كتاب مدرسي آخر لتعلُّم القراءة.
بفقدانك سأعزّز ما كسبتُه منك في طفولتي، علّني أجد فيه عوضا عن غيابك.. ستبقين حية فينا.. ستبقين أجمل ذكرى مع إطلالة كل فجر.
ستبقين أمي!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- الإتحاد – صدرت باسم "مؤتمر العمال العرب" في فترة الانتداب البريطاني، اليوم ناطقة باسم الحزب الشيوعي، الصحيفة اليومية العربية الوحيدة في إسرائيل. من أبرز محرريها:  المؤرخ د.إميل توما، الكاتب  إميل حبيبي والشاعر والمفكر سالم جبران.
nabiloudeh@gmail.com

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل عوده
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/11/21



كتابة تعليق لموضوع : يوميات نصراوي: لذكرى أمي...
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net