صفحة الكاتب : عباس البغدادي

شارلي إيبدو" وضحايانا المنسيون!
عباس البغدادي

لا يختلف اثنان على ان ما حدث في باريس مؤخراً من عمليين إرهابيين بأيدي ذئاب القاعدة هو جريمة منكرة وعمل جبان يضاف الى السجل الدموي لعصابات "السلفية الجهادية" التي وزعت إرهابها شرقاً وغرباً.
ويحق للفرنسيين أن يُعبّروا عن حزنهم وصدمتهم لما خلّفته الحادثتين الدمويتين، اقتحام مقر مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة في السابع من يناير، وبعدها بيومين اختطاف رهائن ثم مقتلهم في متجر بباريس (خلفت الحادثتين 17 ضحية). ومن الطبيعي أن يشارك الآخرون من خارج فرنسا في التعاطف ويعبروا أيضاً عن شجبهم وإدانتهم للحادثتين.
لقد شهد كل من تابع الحادثتين وتوابعهما بأن التغطية الإعلامية وتسجيل المواقف السياسية قد بلغا أوجهما بسرعة كبيرة، وكانت عملية اقتحام "شارلي إيبدو" تحتل الخبر الأول في معظم النشرات الإخبارية العالمية، وأعقبها البث المباشر لمجريات العمليات الأمنية ومحاولة إلقاء القبض على الجناة. كما كان التحشيد الشعبي غير مسبوق على مستوى أوربا، حيث خرج عشرات الألوف في باريس وحدها مساء يوم الاعتداء الأول للتنديد بالجريمة والتضامن ضد الإرهاب، وأعقبها فيما بعد مسيرات وتجمعات فرنسية وأوربية في عواصم ومدن مختلفة بلغ المشاركون فيها مئات الآلاف، كما ضجّت الأروقة السياسية الأوربية ومعها الأميركية في تناول موضوع الاعتداءين، إضافة الى أن مواقع التواصل الاجتماعي قد التهبت لمواكبة الشجب والتنديد بالجريمتين، والتعاطف مع الفرنسيين "المفجوعين بالمصاب الأليم"!
وكان الأبرز هو الموقف السريع للرئيس أوباما وحضوره شخصياً لمقر السفارة الفرنسية في واشنطن لتسجيل تعازيه و"التعاطف مع الفرنسيين" في "سجل التعازي"! كما سارع الكثير من زعماء العالم وبخاصة الأوربيين بالاتصال بالرئيس الفرنسي لتقديم التعازي وإبداء استنكارهم للجريمتين الإرهابيتين! وتوّج هذا التعاطف في حضور عدد من الزعماء الأوربيين وغير الأوربيين الى باريس ومشاركتهم في مسيرة "مليونية" للتنديد بالإرهاب والتضامن مع الفرنسيين، يتقدمهم الرئيس الفرنسي هولاند (الأحد 11 يناير).
* * *
لا مجال للقول ان العمليتين الإرهابيتين واللتين مزقتا سكون المشهد الفرنسي قد فاجأتا الجميع، وبالذات الساسة الفرنسيين والأوربيين وكذلك المؤسسات الأمنية الغربية، اذ التهديدات الإرهابية تترى منذ أكثر من 10 سنوات، وأغلب تلك التهديدات "تُمنح درجة عالية من الخطورة والجدية"، كما ان أساليب الإرهابيين الأخيرة في تنفيذ جريمتي باريس لم تشذّ كثيراً عن جرائم سابقة للقاعدة ونظائرها في بقاع أخرى من أوربا والعالم، وكان تبني تنظيم "قاعدة اليمن" للعمليتين كان سريعاً!
ولو اقتربنا أكثر من جريمتي باريس، سنكتشف ان القائمين على مجلة "شارلي إيبدو" قد تلقوا تهديدات "جدية" منذ عام 2005، حيث أعادت المجلة نشر الرسوم المسيئة للرسول الأكرم (ص) والتي نشرتها صحيفة "يولاند بوستن" الدنماركية في سبتمبر نفس العام، ثم تابعت "شارلي إيبدو" وبصورة روتينية نشر رسوم مشابهة بل وأكثر إساءة منذ ذلك التاريخ، ومعلوم ان تلك الرسوم ألهبت حالة العداء ضد الإسلام والمسلمين في العالم، وضخّت بدورها "الاسلاموفوبيا" بوقود سامٍّ إضافي!
لا نريد بهذه العجالة فتح ملف شائك ومتداخل مع ملفات معقدة أخرى، وهو ازدراء الدين الإسلامي ورمزه الأقدس الرسول الأكرم (ص)، وكيف ان ذلك لا يمت بصلة لـ"حرية التعبير" باعتراف رهط لا بأس به من عقلاء الغرب، رغم انها (حرية التعبير) تشكل إحدى أعمدة الحضارة الغربية الحديثة، ولا بد لتوخي الحقيقة (ونحن في أجواء العملين الإرهابيين) الفصل بين تسويق الإرهابيين التكفيريين لأنفسهم كغيارى على الدين الإسلامي ومقدساته، وبين سعيهم توظيف حالة الاستياء المتعاظمة إزاء "العدوان الناعم" ضد الإسلام والمسلمين من فوهة "حرية التعبير" التي كانت -وما زالت- تُستخدم كذريعة لهذا العدوان، دون الاكتراث بأنه يطال أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين! ويحق للمرء أن يتساءل؛ أين كانت الحكمة السياسية للغرب "المتعقل والمتحضر" حين تجاهل عن عمد بأن الإرهاب التكفيري قد قفز الى المشهد ووظّف منذ سنوات طويلة "العدوان الناعم" الذي يستهدف مقدسات المسلمين بأبشع الصور والتعابير والوسائل، ليوظفه لأجندته الإجرامية الخاصة والبعيدة بالطبع عن مصالح المسلمين؟! ولا يحتاج المرء الى فك طلاسم مستعصية ليتوصل بأن الإرهاب التكفيري (مع الدوائر الإقليمية والدولية التي تقف وراءه) لا يتوانى عن استثمار الفرص الذهبية التي يُهيّئها له "مثقفون وسياسيون متحررون" إن كانوا في صحيفة "يولاند بوستن" الدنماركية أو من ساندتها من وسائل الإعلام الغربية، مثلما فعلت منذ ذلك الحين "شارلي إيبدو" الفرنسية! والملفت ان الدوائر السياسية الغربية كانت منذ البداية منحازة تماماً لـ"حرية التعبير" بنسختها التدميرية، واصطفت وراء انزلاقاتها الخطيرة على الجميع، لدقّ الأسافين بين العالمين الإسلامي والغربي، والمحصلة هي تقوية اليمين المتطرف في الغرب، والإرهاب التكفيري الذي يتغذى على "صراع الحضارات" ويوظف كل معطى غربي يزدري ويهين مقدسات المسلمين. مع ان الغرب المنقاد وراء اليمين المتطرف في تربصه بالإسلام والمسلمين، والمساند لـ"حرية التعبير" تلك، لا يتورع من الظهور بمظهر المتحرر من كل قيد والتزام أخلاقي حينما يتعلق الأمر باحترام حقوق واعتقادات ومقدسات المجتمعات البشرية الأخرى، كما لم يستمع يوماً لصوت العقل ونداء تغليب حفظ المساحات المشتركة مع العالم الإسلامي لتجنيب المجتمع الدولي أي هزّات أو وأزمات حادة تعود بالكوارث على الجميع بلا استثناء...! وما شهدته باريس مؤخراً خير دليل على ذلك، اذ أفصحت الأحداث عن وطأة "فاتورة الحساب" التي تدفعها المجتمعات الغربية جرّاء الاندفاع خلف دوائر القرار السياسي هناك، والتي لم تكن يوماً بعيدة عن شبهة "تسهيل" عمل المجاميع الإرهابية في منطقتنا الساخنة لتدعيم سياسات مشبوهة تجاري أجندة البيت الأبيض، مثلما حصل في سوريا والعراق والشمال الأفريقي (ليبيا مثال أوضح)، وسهّلت تدفق قطعان الإرهابيين من 80 بلداً (ومنها بلدان الغرب) لتنتشر في سوريا ثم العراق، ضمن الجهود الرامية لتطبيق فصول "الفوضى الخلاقة" الأميركية، ورفع شعارات مموهة في الواجهة، منها "تمكين السوريين الأحرار لإرساء الديموقراطية في سوريا"! بينما الأهداف غير المعلنة كثيرة، واخطرها إعادة رسم سياسات وخرائط المنطقة بالشروط الأميركية الجديدة، ومنها أيضا الإطاحة بنظام بشار الأسد، وتحجيم "حزب الله" اللبناني، وإدخال الحكومة العراقية الى بيت الطاعة الأميركي، عبر زلزلة الوضع العراقي برمته عن طريق عدوان داعش ومشتقاته!
لقد أزفت الساعة التي يتحرك فيها إرهابيو القاعدة وداعش ونظائرهما المعتنقين لمبدأ "إدارة التوحش" وليستثمروا توحش "حرية التعبير" الموجّهة ضد مليار ونصف المليار مسلم، وليختطفوا القرار من الجميع وأولهم المسلمين. ويمارس هؤلاء الإرهابيون "حرية التعبير" ولكن على طريقتهم الدموية، وكأنهم ينوبون عن المسلمين جميعاً، وهنا يمكن القول بأن السياسيين الغربيين هم من ضمن المتهمين لتجاهلهم هذا الجانب بالذات، أي الذي يُمَكّن الإرهابيون (وبشعار تمثيلهم المسلمين) بأن يستثمروا اقترافات المتطرفين في الغرب الذين يستهدفون بشهية واضحة مقدسات ورموز المسلمين.
وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد؛ بل يستمر المتطرفون الغربيون ومعهم دوائر القرار بانتهاج ذات المنحى الاستفزازي الخطير، عبر الإصرار على المضي بذات نهج التحقير والازدراء ضد الإسلام والمسلمين تحت اليافطة المفخخة "حرية التعبير"، وأثبت هذا النهج انه لا ينتج سوى هدايا تسقط مباشرة في أحضان الإرهاب التكفيري! وهكذا شهدنا الآن بأن أولى ردود الأفعال ضد العمليتين الإجراميتين هو "طباعة مليون نسخة من العدد الجديد لمجلة تشارلي إيبدو" بعد أن كان سقف طباعتها المعتاد 10 آلاف نسخة، كما ستعيد نشر رسوم مسيئة للإسلام نشرتها سابقاً وتدعمها برسوم مشابهة أخرى، واللافت هو مؤازرتها من قبل وسائل إعلام غربية لا تقل تطرفاً وصبيانية، فقامت عقب جريمتي باريس بإعادة نشر تلك الرسوم السابقة، وبذلك تكون قد وقعت بكل غباء (وربما بعيون مفتوحة) في الفخ الذي يستفيد منه ذات الإرهاب التكفيري، الذي يسعى بكل قواه لتصعيد حالات الاحتقان وتأجيج الأوضاع بين العالمين الإسلامي والغربي، ويهدم بمعوله كل الجسور القائمة بين العالمين، فكيف يُتوقع ان يتجاهل الإرهابيون الهدايا التي يرميها لهم مهندسو التطرف ودوائر المصالح الغربية المشؤومة بين حين وآخر، أي إشعال فتيل الصراع بين العالم الإسلامي والغرب!
* * *
ان الإرهاب الذي ضرب باريس مؤخراً هو ذات الإرهاب الذي يفتك بالمدنيين والأبرياء منذ أكثر من عشر سنوات في العراق ومثله -منذ عدة سنوات- في سوريا واليمن وليبيا، وكذلك أفغانستان وباكستان والمغرب العربي ومصر ونيجيريا والعديد من البلدان الإسلامية الأخرى، ولا يخلو يوم في العراق وسوريا من مشاهد تطاير أشلاء الأبرياء وسفك الدماء (والذين يُعدّون بالمئات في يوم واحد أحياناً) على أيدي إرهابيي داعش والقاعدة والنصرة ونظائرهم، وهذا ما تنقله أيضا وسائل الإعلام الغربية، ولكن في المقابل لم نرَ من الغرب (المتحضر حتى الاستفزاز، والذي يلعب بمفخخات حرية التعبير) سخاءً في ذرف الدموع على ضحايانا الأبرياء والمنثورة أشلائهم في الطرقات والأسواق والمدارس ودور العبادة، ولماذا لم نشهد ذات الجزع والتهويل في الحزن على ضحايانا أسوة بالـ 17 ضحية الأخيرة في عمليتي باريس، الذين خرج لأجلهم مئات الألوف في مسيرات تضامن في فرنسا وأوربا وأميركا؟ كمل لم نسمع يوماً ان المكالمات (حتى للمجاملة) قد هطلت على رئيس حكومتنا من رؤساء الحكومات والدول الغربية لتقديم التعازي والتضامن مع المنكوبين بفعل الإرهاب اليومي..
ولماذا لم يتم إغراق المشهد الغربي حينما تتكرر فجائعنا اليومية على يد ذات الإرهاب التكفيري الذي ضرب في باريس بعبارات "أنا سبايكر" أو "أنا السوق الشعبي الفلاني" أو "أنا المسجد الفلاني" أسوة بعبارة "أنا شارلي"؟ ولماذا لم يحضر رؤساء الحكومات والدول الغربية في مسيرات التضامن مع الضحايا في بغداد أو دمشق مثلاً؟!
وهل نحتاج دوماً الى إثبات ان ضحايانا -أيضاً- من لحم ودم وليسوا "فوتوشوب"؟! هل علينا أن نرسل الى مختبرات الغرب "المتحضر" عينات من دماء ضحايانا ليكتشفوا انها دماء بشرية، وليست مصنّعة مختبرياً؟!
ان الرصاص الإرهابي الذي اخترق سلام باريس مؤخراً، قد اخترق أيضاً صورة الإسلام الذي هو رسالة سلام ومحبة ورحمة للعالمين، ولكن هذه الرصاصات قد اخترقت ومزقت أيضاً ذلك الغشاء الرقيق الذي تحتمي مقولات الغرب خلفه، المقولات التي تتبجح باحترام التنوع والاختلاف وعقائد الآخرين، ومقولات التعامل مع الإرهاب على أنه واحد، وان ضحاياه لا يتجزؤون أو يتمايزون، من الشرق كانوا أو من الغرب، في سوق شعبي ببغداد أو في مقر "شارلي إيبدو"!
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عباس البغدادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/01/12



كتابة تعليق لموضوع : شارلي إيبدو" وضحايانا المنسيون!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net