صفحة الكاتب : عباس البغدادي

مكافحة تمويل داعش".. هل نصدق؟!
عباس البغدادي

شهدت الشهور السبعة الماضية منذ نكبة الموصل الكثير من المؤتمرات والاجتماعات الإقليمية والدولية التي بحثت وتناولت سبل "محاربة" تنظيم داعش ومشتقاته، والحدّ من توسع التنظيم، وصولاً الى "دحره واجتثاث جذور الارهاب التكفيري"!
بصراحة، قيل الكثير في تلك الاجتماعات والمؤتمرات، واستهلكت أطنان من ورق المذكرات والبيانات والملفات والتفاهمات، والنتيجة إننا "نسمع جعجعةً ولا نرى طحْناً"! وخير من جسّد هذه المقولة في كلمات هو السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي قبيل مغادرته بغداد للالتحاق بالاجتماع الدولي المصغر لـ"التحالف الدولي" والذي ضم وزراء خارجية 21 دولة في لندن وانعقد الخميس 22 يناير، حيث قال: "أن الكثير قد قيل بشأن الدعم الذي كان من المفترض أن يتلقاه العراق، لكن القليل طبّق على الأرض. كما ان التحالف تعثر في مسائل رئيسية، خصوصاً التزاماته بشأن تدريب القوات العراقية وتسليم الأسلحة. ونحن نعتمد على أنفسنا"!
العنوان الأبرز لاجتماع لندن المذكور هو بحث سبل "مكافحة تمويل داعش" بالإضافة الى "كيفية وقف تدفق المقاتلين للتنظيم، ومناقشة توفير مزيد من المساعدات العسكرية للمقاتلين على الأرض، وتقديم المزيد من المساعدات الإنسانية"! وهذه الحزمة من الملفات باتت مطروقة وروتينية في أي اجتماع مماثل، لكن ملف "مكافحة تمويل داعش" هو الذي يشوبه التسطيح أو الغموض في كل مناسبة دولية يتم تداوله فيها، مما يترك باب الشكوك مفتوحاً على مصراعيه في وجود تداخلات معقدة لا يمكن تناولها أو تداولها بـ"شفافية" يدعو لها المتزعمون لـ"التحالف الدولي" بمناسبة أو بدونها!
وسمعنا الكثير بُعيد نكبة الموصل واستفحال أمر داعش عما "غنمه" التنظيم من أسلحة وأعتدة الجيش العراقي، وتصرّف التنظيم في الأموال وسبائك الذهب التي نهبها من المؤسسات الحكومية والمصارف في المناطق التي سيطر عليها، إضافة الى الآثار المنهوبة وتمكنه من الثروة النفطية هناك، وشروعه في استثمارها و"بيعها"، كل ذلك شكّل للتنظيم ثقلاً اقتصادياً جعله يدير ميزانية مالية كباقي الدول الصغيرة، بحيث مكّنه ذلك من تمويل إرهابه وإدارة الحرب التي تشن ضده، الى جانب إدارة المناطق التي يسيطر عليها والتي تُقدّر بمساحة بريطانيا، كما يدير شؤون مقاتليه الذين قدّرت التقارير الاستخبارية الغربية بما يزيد عددهم على 32 ألف مقاتل حتى اللحظة!
من المفروغ منه ان تنظيماً كداعش، وبهذا الحجم من الأنشطة ينبغي أن "يضمن" تمويلاً نقدياً كبيراً يضّخ ميزانيته ليكفل استمرار بقائه في أجواء حرب طاحنة تحرق الكثير من الأموال مثلما تحرق الحرث والنسل. فمنذ اليوم الأول لبروز قوة التنظيم المادية ساد جوّ من الغموض والتخبط حول موارد التمويل "غير التقليدية" والتي سلطت بعض التقارير الاستخبارية المسربة الضوء عليها، وهي تحمل معانٍ كثيرة رغم اعتراف أصحاب تلك التقارير بـأنها "غير دقيقة"، خصوصاً بعد الإثراء المتسارع للتنظيم عقب "بيعه" بانتظام كميات من البترول ومشتقاته تدر عليه لوحدها يومياً أكثر من ثلاثة ملايين دولار، وكانت (التقارير) وما زالت محط شك وشبهة متداخلة مع ملابسات جمة لم تعالجها لا الاجتماعات ولا المؤتمرات التي تنعقد لـ"محاربة ومكافحة الارهاب"، حتى ان "جون ماكين" رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأميركي علّق ذات مرة حول تمويل داعش بالقول: "أنه أغنى تنظيم إرهابي على الأرض"! وليس سراً ان العديد من دوائر استخبارية غربية ودولية، قد أقرت بأن تنظيم داعش بإدارته لـ"اقتصاد حرب تقليدي" لا يمكن أن يستمر بذلك لولا تلقيه دعماً من جهات دولية أو حكومات معينة.. ولكن تلك التقارير المذكورة تصاب بجلطة ضمير حينما تصمت ولا تمضي أكثر في الكشف عن تلك الجهات أو الحكومات!
وبالطبع لن يتوقع عاقل أن تتطوع الحكومات أو الجهات التي ساهمت بدعم وتمويل داعش ونظائره وتُفصح "بصراحة وشفافية" عن مسؤوليتها المباشرة أو غير المباشرة عن هذا الدعم، والأنكى ان هذه الحكومات هي جزء من "التحالف الدولي" المعلن لـ"محاربة الارهاب"! ولم تفلح اللقاءات الثنائية بين الجانب العراقي وحكومات تلك الدول في وقف وتيرة التمويل، أو محاصرته (على أقل تقدير) رغم درجة خطورته وتشعب منابعه وتَستّره خلف واجهات مموهة، وكانت دول الخليج المدانة حاضرة دوماً في هذا الملف، وعلى رأسها السعودية وقطر كأبرز متهميْن، وما الحواضن الوهابية العلنية المنتشرة في الخليج سوى مضخات مالية تساهم بصورة شبه علنية في تمويل آلة الحرب للإرهاب التكفيري، تحت مسميات عديدة أبرزها "دعم المجاهدين" والـ"المساعدات الإنسانية"، ووصل الأمر الى الإعلان عن حسابات مصرفية تعلنها الفضائيات الوهابية لتلقي "التبرعات والمعونات والزكاة" لدعم "المجاهدين"، كما كانت تُسيّر قوافل من الإمدادات من عواصم خليجية في وضح النهار لـ"نصرة المجاهدين في سوريا" وكانت تتقدمها رموز الوهابية وحتى نواب برلمانيين كالنائب الكويتي "وليد الطباطبائي"، الذي اشتهر بحضوره مع الإرهابيين ومشاركتهم "الجهاد" وتبختره بنشر مقاطع الفيديو التي توثق لذلك.
وقد طفح الكيل حتى خصص "ديفيد كاميرون" رئيس الوزراء البريطاني إحدى مباحثاته مع أمير قطر "تميم بن حمد" أواخر أكتوبر 2014 حول التقارير الموثقة لـ"التمويل القطري لداعش"، وقد أشار الإعلام حينها الى عنوان المباحثات بوضوح!
ان الكثير من التقارير الصحافية الغربية الجادة التي تناولت الجانب المعتم والأشد خطورة من ملف "الحرب على الارهاب"، ألا وهو "تمويل داعش وباقي التنظيمات الارهابية"، كانت تلقى الإهمال الواضح والمدروس من قبل الحكومات التي تقود "التحالف الدولي"، ولعل تصريح "كورتين وينزر" أحد مسؤولي الإدارة الأميركية في عهد الرئيس ريغان، يمكن أن ينوب عن الكثير من تلك التقارير، حينما كتب في مجلة "ميدل إيست مونيتر" في عددها لشهر يونيو 2007 مقالاً بعنوان: "السعودية والوهابية وانتشار الفاشية الدينية السنّية" حيث جاء فيه: "إن جهود أميركا لمواجهة المقاتلين الأصوليين تظل قاصرة لأن مركز دعمها الأيديولوجي والمالي هو السعودية، التي تقيم فيها العائلة الملكية الموالية للغرب تحالفاً مع التيار الوهابي ولسنوات طويلة، كما تحرص على تمويل انتشار الوهابية الى بلدان المنطقة والعالم"، ولو كرر "وينزر" هذه المقولة اليوم فلن يحيد عن الدقة والصواب، ولكن الأهم؛ أين هي الجدية التي تتعامل بها أميركا وحلفاؤها المقربون في الغرب مع هذه الحقائق الخطيرة؟!
لقد كان قرار "مجلس الأمن" المرقّم 2170 والصادر في 15 أغسطس 2014 واضحاً جداً في إدانة الأعمال الإرهابية لداعش و"جبهة النصرة" في 18 فقرة، واُعتبر أهم قرار دولي صدر بعد نكبة الموصل، وأبرز بنوده تركزت في 5 فقرات تناولت ضرورة "وقف التمويل للتنظيمات الارهابية"، حيث جاء في الفقرة 11 ما يلي:"يؤكد (المجلس) من جديد قراره 1373 (2001) بأن تحظر جميع الدول على رعاياها أو على أي أشخاص أو كيانات داخل أراضيها إتاحة أي أموال أو أصول مالية أو موارد اقتصادية أو خدمات مالية أو غيرها، بشكل مباشر أو غير مباشر، لصالح الأشخاص الذين يرتكبون أو يحاولون ارتكاب، أو يسهّلون أو يشاركون في الأعمال الإرهابية، بما في ذلك الأفعال التي يرتكبها تنظيم داعش وجبهة النصرة وجميع الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات الأخرى المرتبطة بتنظيم القاعدة"، وشدّد القرار في الفقرة 12 على خطورة الموارد النفطية التي يديرها الإرهابيون حيث جاء فيها؛ "يلاحظ مع القلق أن حقول النفط والبنية التحتية ذات الصلة التي يسيطر عليها تنظيم داعش وجبهة النصرة وغيرهما من الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطة بتنظيم القاعدة، يمكن أن يولّد الموارد التي من شأنها دعم جهود التوظيف وتعزيز القدرة التشغيلية لتنظيم وتنفيذ هجمات إرهابية"، واستكملت الفقرة 13 خطورة ما يرفد التنظيمات اقتصادياً، اذ جاء فيها؛ "يدين (المجلس) أي انخراط في التجارة المباشرة أو غير المباشرة مع داعش أو جبهة النصرة أو مع الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات الأخرى المرتبطة بتنظيم القاعدة". ولم يهمل القرار خطر "التبرعات"، اذ جاء في الفقرة 14 "يشدّد (المجلس) على أهمية جميع الدول الأعضاء التمسك بالتزاماتها لضمان ألا تكون تبرعات المواطنين والأشخاص الموجودين في أراضيها للأفراد والكيانات الذين تعينهم اللجنة المنشأة عملا بالقرارين 1267 و1989 أو أولئك الذين يعملون نيابة عن أو بتوجيه من الكيانات المعينة"!
أما الأخطر في القرار فهي الفقرة 15 التي جاء فيها؛ "يعرب (المجلس) عن قلقه من أن الطائرات التي تقلع من الأراضي التي تسيطر عليها داعش يمكن أن تستخدم (لنقل الذهب أو غيرها من الأشياء الثمينة) والموارد الاقتصادية للبيع في الأسواق الدولية"! ولم يتم توضيح ماهية هذه الطائرات، ومن أي المطارات تقلع؟ وأين تهبط، ومن هي الجهات المتورطة التي تحوم حولها الشبهات؟ بل ولم تتطرق أي من دول القرار في "التحالف الدولي" لهذه الفقرة بالذات بالجدية المطلوبة، ويمكن القول انها ظلت من الجوانب "المسكوت عنها" عن عمد مع سبق الإصرار حتى الساعة!
ورغم القرار الدولي الآنف لم يطرأ أي تغيير جدي أو متابعة حقيقية من دول "التحالف الدولي" يمكن أن تشكل مصداقية
في جهود "محاربة الارهاب"!
* * *
ان التغاضي المستمر وعدم إجراء تحقيق دولي جاد في ملف "تهريب البترول العراقي والسوري" من قبل داعش و"بيعه" الى وسطاء محليين، يلقي ظلالاً ثقيلة من الشك على مصداقية الاجتماعات والمؤتمرات والجهود الدولية التي ترمي الى "مكافحة تمويل داعش"، علماً ان أصابع الاتهام تشير الى وسطاء أكراد متنفذين في الإقليم يديرون هذه التجارة، ومثلهم أتراك يجولون في الشمال السوري ومرتبطين مباشرة بالمخابرات التركية، بالإضافة الى تجار سلاح لبنانيين ويونانيين "يقال انهم وسطاء لإسرائيل" يقايضون البترول بالسلاح والعتاد، ويستخدمون لأنشطتهم التجارية الموانئ السورية التي يسيطر عليها "الجيش الحر" وفصائل عسكرية سورية "معارضة"! وهذه الصفقات يجريها داعش يومياً بشكل روتيني كما تفصح الكثير من التقارير الصحافية والاستخبارية المسربة، ومعلوم انها تشكل حالياً الشريان الحيوي لاقتصاد التنظيم وتمويله!
كما ان أي ريال سعودي أو قطري أو درهم إماراتي أو دولار أميركي يُضخ الى داعش ونظائره كتمويل مباشر، هو رصاصة تقتل عراقياً أو سورياً أو لبنانياً، مدنياً أو ممن يواجهون الارهاب، ولا يقل خطورة عن التمويل الذي يدخل الى خزانة الارهابيين عبر بيع البترول أو الآثار أو "فديات" لقاء رهائن أبرياء. ولم يطرأ أي مستجد يجعلنا نثق بمؤتمر دولي هنا أو اجتماع هناك يرفع شعار "مكافحة تمويل داعش" حتى لو كان برعاية "التحالف الدولي"، لأن "من جرّب المجرب، حلّت به الندامة"!

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عباس البغدادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/01/23



كتابة تعليق لموضوع : مكافحة تمويل داعش".. هل نصدق؟!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net