صفحة الكاتب : ا . د فاضل جابر ضاحي

أسبقية علي الوردي
ا . د فاضل جابر ضاحي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 يعد الدكتور محمود اسماعيل الباحث المصري المعروف، على قدر كبير من الاحترام بين الباحثين العرب المعاصرين، وذلك لما يتمتع به من نشاط علمي رفيع، وجرأة فكرية مشهودة . فضلاً عن مساهماته الرائدة في بحوث التاريخ العربي الاسلامي . ويأتي كتابه ((نهاية اسطورة))( ) أحد ابرز ما طرحه هذا المفكر في أدبيات النقد التاريخي، إذ حاول فيه نسف ما جاء به ابن خلدون المؤرخ المعروف (ت 808هـ/1406م) في مقدمته الشهيرة من آراء وطروحات وأفكار شكلت نظريته في علم الاجتماع الذي سماه ((العمران البشري))( )، وكذلك ما طرحه في مجال إضفاء الصفة العلمية على التاريخ( ) ، والذي سمي فيما بعد بمصطلح فلسفة التاريخ . وقد بنى محمود اسماعيل نقده لإبن خلدون على أساس واحد مفاده أن الأخير، إنما أخذ أفكاره تلك من رسائل أخوان الصفا( ) من دون أن يشير اليها ، بل أنه عد فعله هذا بمثابة السرقة( ) .
ودلل على ذلك بمقارنة النصوص الواردة في مقدمة ابن خلدون مع مثيلاتها في رسائل أخوان الصفا، وباسلوب يثير الدهشة والاعجاب ويقنع القارئ الى حد كبير أن ما يقوله ليس بعيداً عن الصحة . لاسيما اذا علمنا أن رسائل أخوان الصفا لم تكن كتاباً عابراً أو مغموراً، بل ذاع صيته وانتشر في أصقاع البلاد العربية والاسلامية منذ تأليفه في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، فلابد والحال هذا أن يكون ابن خلدون قد اطلع عليه بوصفه أحد مثقفي عصره المعروفين ، لاسيما وأنه قد اطلع على العديد من الكتب بما فيها الأقل شأناً من تلك الرسائل، كما يفصح عن ذلك الاطلاع على مصادر معلومات كتابه العبر( ) .
لقد ظهرت الكثير من الردود والانتقادات بعد صدور كتاب الدكتور محمود اسماعيل، واكثرها كانت ناقمة عليه رافضة لما طرحه، أشار اليها الباحث المذكور في مقدمة كتابه (نهاية اسطورة)( ) . وقد يسأل القارئ الكريم، فما شأن الدكتور علي الوردي بكل هذا ؟ فنقول: اننا لا نأتي بجديد حين نذكر أن القراءة والاطلاع هما من ينبه الباحث على المواضيع التي يمكن البحث فيها، فالأفكار لا تأتي لوحدها، بل عن طريق القراءة، وكثيراً ما تنبهنا الى مواضيع جديدة، أصبحت فيما بعد مؤلفات مستقلة باتباعنا هذا السبيل . ان استقاء هذه الأفكار ليس عيباً، بل سبيلاً صائباً للبحث والتقصي، شريطة أن يشير الباحث الى فضل من سبقه في الفكرة التي طورها وبنى لها هيكلاً كاملاً، حتى وإن كانت تلك الفكرة عبارة عن إشارة بسيطة في نظره، وحتى اذا اصبحت تلك الاشارة التي لا تتعدى أسطراً قليلة، مجلداً ضخماً لديه .
لقد نال كتاب محمود اسماعيل شهرة واسعة لدى المهتمين بإبن خلدون أو بالشأن الفكري بصورة عامة، لكن هل كان أول من توصل الى تلك العلاقة بين مقدمة ابن خلدون وأخوان الصفا ؟!
إن الاطلاع على ما جاء في كتاب الدكتور على الوردي الموسوم ((منطق ابن خلدون))( )، ولاسيما في فصله التاسع المعنون ((بين الكل والأجزاء))( )، يتضح له جلياً أن مؤلفه أكد تلك الصلة في أهم جزء من نظرية ابن خلدون، وهو المتعلق بنشوء الدول وزوالها، فأخوان الصفا يؤكدون : ((أن الدول تبدأ أول أمرها نشيطة قوية ثم تأخذ بالانحطاط والاضمحلال شيئاً فشيئاً ثم تنتهي أخيراً))( ) . أما ابن خلدون فيقول: ((...فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزيد الى سن الوقوف ثم الى سن الرجوع))( )، أو كما قال الدكتور علي الوردي معلقاً على فكرة ابن خلدون هذه، أن الاخير شبَّه الدول بحياة الانسان من فتوة وكهولة وهرم( ) . فالوردي يرى أن ابن خلدون جاء بذات الفكرة، لكنه زاد على ما جاء به أخوان الصفا من خلال تعليله لظاهرة زوال الدول( ) . ثم أردف الوردي فقال: ((ولو أننا استطعنا مواصلة البحث في المؤلفات التي ظهرت قبل ابن خلدون لتبين لنا أكثر أفكاره إنما استمدها منها قليلاً أو كثيراً))( )، ثم يسترسل المرحوم الوردي فيقول: ((يغلب على ظني ان ابن خلدون قد استمد فكرته عن الدورة الاجتماعية من أخوان الصفا، أنما هو طوَّرها وأخضعها لمنطقه الجديد))( ).
ومن يقرأ كتاب محمود اسماعيل المشار اليه اعلاه يجد أن الفكرة العامة لا تختلف كثيراً عن فكرة الوردي هذه، والفرق بينهما أن الباحث المصري أسهب في مقارنة النصوص بين كتابي ابن خلدون وأخوان الصفا وشدد في الكثير من صفحات كتابه على سطو ابن خلدون وسرقته لأفكار أخوان الصفا . أما الدكتور الوردي فأنه اختصر ذلك كثيراً واستعمل مصطلحات أهدأ وأقل حدة من مصطلحات اسماعيل تجاه ابن خلدون مثل ((استمد أو أخذ أفكاره)) لكنه على خلاف الباحث المصري التمس العذر لإبن خلدون ، بل دافع عنه في هذا المجال، يفهم ذلك مما قاله ونصه: ((وليس هذا قدح لإبن خلدون أو انتقاص من عظمته الفكرية، فهو انما اقتبس تلك الأفكار لكي يؤلف منها نظريته الجديدة، على منوال ما يفعل المخترع حين يركب اختراعه الجديد من مخترعات سابقة))( ) .
ومن الجدير بالذكر ان علي الوردي ذكر ايضاً صلة نظرية ابن خلدون مع ما جاء به مفكرون مسلمون آخرون سبقوه زماناً مثل: أبي حيان التوحيدي وابن الهيثم والفارابي وابن سينا ولسان الدين بن الخطيب وابن العربي أو قبل ذلك كله ذكر تأثره بالقرآن الكريم( ) .
والذي نريد البوح به هنا أن باحثاً لامعاً مثل محمود اسماعيل حينما أراد أن يؤلف كتاباً حول أصل نظرية ابن خلدون ونقدها، لابد وأنه حاول جمع ما كتب عن الأخير بغية الاطلاع عليه، ومن بين أشهر الذين كتبوا عنه الدكتور علي الوردي في كتابه المذكور آنفاً ، أي منطق ابن خلدون، ولهذا فهو على أكثر الظن أطلع عليه وعلى فصله التاسع المشار اليه أعلاه، فلماذا لم يذكر اسبقية الوردي في ذلك ويشير اليه بوصفه احد مصادر معلوماته ؟ ، إذ ان ذلك لا ينتقص منه لأن البحث يبدأ من حيث انتهى الآخرون – كما يقال – أو ان الباحث يطور اشارة لفكرة جاءت عند باحث ما. لكن قائمة المصادر التي اعتمدها محمود اسماعيل في كتابه (( نهاية اسطورة)) تخلو من الاشارة الى كتاب علي الوردي المذكور ولم يشر اليه في متن كتابه ايضاً . ونحن هنا لا نؤاخذ الاستاذ الفاضل محمود اسماعيل على ما توصل اليه بشأن انتحال ابن خلدون لأفكار أخوان الصفا، بل نؤيده في ذلك، ولكن نؤشرعليه عدم ذكره لأسبقية الوردي في الاشارة الى هذا الأمر . وربما سبقنا بعض الباحثين الى التنويه لأسبقية علي الوردي بالربط بين مقدمة ابن خلدون وأفكار أخوان الصفا( ) ولكننا لم نقرأ أن احدا منهم أخذ على الباحث المصري عدم ذكره لأسبقية علي الوردي في ذلك الربط صراحة ، وربما ورد ذلك عند أحدهم غير أننا لم نطلع عليه، وعلى أية حال فإن ما ذكرناه ليس انتقاصاً من جهد الباحث محمود اسماعيل ، بل يحسب له تتبعه تلك النصوص ومقارنتها . فضلاً عن جرأته على الخوض في موضوع عالي الحساسية، أثار ضده حينها موجة عاتية من الردود القاسية . ونرى أن هذه الموجة لم تأت لأنه انتقد ابن خلدون وضعف نظريته، بل ايضاً لأنه أوضح اصالة أفكار أخوان الصفا، التي جاءت في رسائلهم، لاسيما وان هذه الرسائل تعرضت الى حملات معادية ومن ذلك ما قام به الخليفة العباسي المستنجد بالله (555-566هـ) حيث أمر بحرق مكتبة أحد القضاة لأن فيها كتب مثل رسائل أخوان الصفا وكتاب الشفاء لأبن سينا( ) . وذكرالمؤرخ شمس الدين الذهبي (ت 748هـ ) جملة من العلوم والكتب التي يحرم تعلمها ونشرها فذكر من بينها رسائل أخوان الصفا( ) .

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ا . د فاضل جابر ضاحي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/03/06



كتابة تعليق لموضوع : أسبقية علي الوردي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : مازن الموسوي ، في 2020/12/24 .

احسنتم




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net