صفحة الكاتب : محمد الكوفي

النجف الاشرف بين نادر شاه والعثمانيين قادة السلالة العثمانية
محمد الكوفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

\وحول الاستيلاء على النجف وكربلاء والاعتراف بالمذهب الجعفري مذهباً خامساً في البلاد.

* * * * * * * * * * * * 

 تلك \"تلك اثارنا تدل علينا **** فانضروا بعدنا الى الاثر\" دوام الحال من المحال ولا يبقى على حال إلا الله سبحانه وتعالى.

* * * * * * * * * * * * * 

وحينما ظهر اسم {نادر قلي خان} أو نادر شاه فيما بعد، على مسرح الحوادث الجارية في العراق وايران في أواسط القرن الثامن عشر، صار اسم النجف الأشرف يتردد في كلّ فرصة أو مناسبة. فقد اصطدم مع الدولة العثمانية ما بين سنتي 1731 و1746 اصطدامات متكررة عنيفة، وحاصر بغداد والموصل حصارات طويلة مخيفة، ونازل الجيوش التركية على أسوار بغداد والموصل وفي ميادين القتال الأناضولية والعراقية الاُخرى وكان يعقب تلك الاصطدامات والحروب كلها مفاوضات ومطاليب كانت تدور معظمها حول الحدود المشتركة بين البلدين 

* * * * * * الصفحة 27 * * * * * * 

من جهة، وحول الاستيلاء على النجف وكربلاء والاعتراف بالمذهب الجعفري مذهباً خامساً من جهة اُخرى. وتوجد تفصيلات هذه الحوادث في كتابي السر بيرسي سايكس عن تاريخ ايران، والمستر لونكريك عن تاريخ العراق الحديث، المار ذكرهما، وكتاب الدكتور لوكهارت(1) عن حياة نادر شاه نفسه.

وأهم ما حدث من المطاليب والمفاوضات في هذا الشأن ما حدث على أثر انتصاره في معركة (بغاوند) بالقرب من قارص، وقضائه على (عبدالله باشا كويريللي) وجيشه فيقول (لونكريك) في هذا الشأن.. \"فتحرك إلى ارضروم، وسار السفراء فوق العادة بين الفريقين، فاشتط نادر بمطاليبه وطلب الدية زيادة على معاهدة بغداد السابقة، ولذلك لم يتوصل الطرفان إلى نتيجة ما مدة أشهر عديدة... وقد أوضح في الاحتفال الذي اُجري لذلك اصلاحاته المهمة التي أشار اليها من قبل في كتاباته إلى البلاط التركي. فأعلن تمسك الشيعة بالعقائد الدينية الأصلية وانضمامهم اليها باسم المذهب الخامس وهو المذهب الجعفري. وقد كان يرمي بذلك إلى تسهيل معاملاته مع تركيا وايجاد أهمية لاُسرته السنية، ثم تم توحيد العناصر التركمانية والكردية والأفغانية التي في جيشه ليعادل بها العناصر الشيعية التي فيه وما زالت مقيمة على ميلها إلى الصفويين\". وكان ذلك في

* * * * * * سنة 1736. * * * * * * 

وحينما عاد نادر شاه مرة اُخرى إلى العراق وحاصر الموصل في 1743 لم يستطع الاستيلاء عليها بعد أن قصفها وحاصرها مدة تناهز الأربعين يوماً ولذلك اضطر لعقد الصلح مع واليها (الحاج حسين باشا الجليلي) بشروط خفيفة، وإلى أن يعود إلى بغداد فيديم محاصرته لها، ثم توجه من هناك إلى النجف الأشرف لأداء واجب الزيارة وطلب منها إلى والي بغداد (أحمد باشا) الذي كان واقفاً

* * * * * * الصفحة 28 * * * * * 

1- Lokhart L. - Nadir Shahm London 1938.

في وجهه طوال هذه المدة، أن يبعث اليه بوفد من العلماء السنّة للبحث في قضية التوفيق بين الفريقين المسلمين. فندب اليه (الشيخ عبدالله السويدي) وذهب إلى النجف وجرت فيها مناظرات ومناقشات في عدة جلسات ترأسها الشاه بنفسه. ويقول (لونكريك)(1) ان المناقشات الطويلة مع العلماء في النجف لم تثمر شيئاً. وفي الأخير اضطر الشاه وقد انتبه لاستفحال السخط والفتنة في بلاده وللاستعدادات التركية في الشمال، إلى عبور الحدود والرجوع من دون أن يضرب ضربة ما أو يوقّع على شيء من العهود. وتقول بعض المراجع الاُخرى، ومنها الدكتور لوكهارت في كتابه عن نادر شاه، ان محضر المناظرات قد حفظت نسخة فارسية منه في خزانة الإمام (عليه السلام) في النجف.

ثم جرت حروب اُخرى بين الشاه والأتراك في أرمينية وأذربايجان، فأحرز انتصاراً جديداً عليهم في صيف 1745 (1158 هـ) ويذكر (لونكريك) في هذا الشأن أنه أعقب هذا الانتصار بشروط صلح لا تطاق. فقد طلب الاعتراف بالمذهب الجعفري، وتسليم (وان) وكردستان والعراق بأجمعه وفي ضمنه العتبات المقدسة. ثم تنازل عن قسم من ذلك، لكنه أصرّ على المطالبة بالنجف وكربلاء.

وكان نادر شاه قد بعث في 1740 (1153 هـ) بهدايا نفيسة إلى العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء، وإلى مرقد الإمام الأعظم في بغداد. وقد أمر بتذهيب القبة والإيوان، والمآذن، في النجف سنة 1742، ولم ينته العمل فيها إلاّ في 1743، وهي السنة التي عقدت المناظرة فيها ـ المناظرة بين العلماء ـ ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة ان الترجمة الفرنسية (المطبوعة سنة 1780) لرحلة الرحالة الألماني (نيبور) فيها حاشية تنص على انه ورد في (جهانكشاي نادري) لمحمّد مهدي خان المنقول إلى الألمانية بأن الشاه أنفق

* * * * * * الصفحة 29 * * * * * 

1- الص 144 من الترجمة العربية، ط 2.

مبالغ طائلة على تغليف القبة بالذهب. وان السور قد أمرت بترميمه الامبراطورة (كوهرشاه بكم) فأنفق عليه مبلغ يناهز المئة ألف نادري، أو ما يساوي حوالي ستين ألف وستمائة (أيكو) ألماني. وأنها أهدت مبخرة مرصعة بالأحجار الكريمة، وإناءً من الذهب الخالص ليحرق فيه البخور في الروضة المقدسة(1).

على انني لابد لي من أن أذكر هنا إتماماً للبحث حقيقة موقف نادر شاه من جميع ما تفاوض به مع الأتراك عن النجف والمذهب الجعفري وما أشبه. إذ يظهر مما يذكره (سايكس) في كتابه عن تاريخ ايران، والنبذة الأخيرة المقتبسة من (لونكريك) في البحث، ان نادر شاه لم يكن مخلصاً في إنفاقه على الروضة الحيدرية والعناية بها، ولا في الدعوة إلى اعتراف السنّة بالمذهب الجعفري، وإنما اتخذ ذلك وسيلة لتثبيت عرشه ومركزه في ايران الشيعية بعد أن اغتصبه من الصفويين. ويذهب سايكس(2) إلى أبعد من هذا فيقول انه حينما طلب اليه أن يقبل العرش الايراني (بعد أن خلع آخر الملوك الصفوية) سنة 1736 (1148 هـ) اشترط في قبوله إياه على القادة والوجوه، بعد أن رفض الطلب عدة مرات، ان تبادر الاُمة الإيرانية إلى نبذ العقيدة الشيعية التي أدخلها مؤسس الدولة الصفوية إلى ايران وتعود إلى العقيدة السنّية. ويذكر كذلك ان المجتهد الأكبر الذي كان حاضراً في حفلة التتويج نهض محتجاً في الحال، وأشار عليه بأن يحصر جهوده في شؤون الحكم وغيرها من الشؤون الدنيوية، لكن موته المفاجىء أخرس المعارضة التي كان يمكن أن تصدر من زملائه. ويستنتج سايكس من ذلك ان التبديل المطلوب في العقيدة قد صودق عليه في ذلك الجمع الحافل بصورة رسمية فقط ولأجل أن يجعل نادرشاه هذا التبديل الجديد للعقيدة شيئاً مستساغاً أعلن عن عزمه على أن يضيف إلى المذاهب السنّية الأربعة

* * * * * * * * * * * * 

1- الص 332، مباحث عراقية ليعقوب سركيس.

2- الص 254، ج 2.

* * * * * * الصفحة 30 * * * * * 

مذهباً خامساً هو المذهب الجعفري نفسه. وقد كان يؤمل من ذلك بطبيعة الحال أن ينسى الايرانيون ما قامت به الاُسرة الصفوية المالكة من أعمال. وربما كانت تداعب أطماعه كذلك أحلام السيطرة على العالم الإسلامي وتوحيده في امبراطورية إسلامية واحدة تضم في حظيرتها الممتلكات العثمانية كلها أيضاً.

يضاف إلى ذلك ما نجده فيما كتبه سايكس في مناسبة اُخرى(1) من ان نادرشاه وافق في المفاوضات التي أعقبت انتصاره على كويريللي باشا في بغاوند على التخلي عن مطالبته بالاعتراف بالمذهب الجديد، وعقد الصلح بالشروط التي كان قد تم الاتفاق عليها بين الدولتين في أيام السلطان مراد من قبل.

ويضيف إلى ذلك كله ما يكاد يكون غريباً جد الغرابة. فهو يقول(2) في أثناء تحليله لشخصية نادر بانه لما كان قد نشأ سنّياً في عقيدته فقد أظهر عداء شديداً لرجال الدين الشيعة، وصادر الأموال الطائلة التي كانت ترد اليهم. وقد حاول توحيد المسلمين بالغاء المذهب الجعفري لكنه فشل فشلا ذريعاً في مسعاه. ثم راح يحلم بابتداع ديانة جديدة، ومن أجل هذا الأمر بأن يترجم له توراة اليهود وانجيل المسحيين (العهد الجديد).

وفي ربيع 1764 تربع على دست الحكم في ولاية بغداد الوالي عمر باشا بعد أن اشترك في مؤامرة قتل فيها سلفه عليّ باشا الذي كان مملوكاً من أصل فارسي. وفي أيام هذا الباشا ساءت العلاقة مع ايران التي كان على رأسها الوصي كريم خان زند، وازدادت التعرضات بالزوار الايرانيون وفرضت الرسوم الفادحة عليهم، حتى انقطع سيل الزوار على النجف وغيرها من العتبات. وفي هذا الشأن يقول (لونكريك)(3) \".. غير ان أسباب الاحتكاك والتصادم كانت تعمل طي الخفاء. فقد أثارت منذ سنين خلت حفيظة الايرانيين المعاملات القاسية

* * * * * * * * * * * * 

1- الص 269.

2- الص 269.

3- الص 167، ط2.

* * * * * * الصفحة 31 * * * * * 

التي كان يعامل بها زوار العتبات المقدسة في الفرات.. وكانت العتبات نفسها قد وصلت أخطار السفر فيها إلى الأوج بالتعديات المزعجة والتكاليف الجشعة التي كانت تفرض على الزوار\". فكانت هذه من أهم الأسباب التي أدت إلى التصادم بين البلدين المتجاورين، لأن كريم خان جرد في الأخير حملة قوية على البصرة في 1775 بقيادة أخيه صادق خان بعد أن بعث يهدد عمر باشا باحتلال العراق ويطالب برأسه ثمناً لتعدياته المتكررة على زوار النجف وسائر العتبات على حد قول السر بيرسي.

* * * * * * * * * * * 

مشاهدات الرحالة نيبور في النجف الأشرف

* * * * * * * * * * * 

على أن أهم ما يرد ذكر النجف فيه من كتابات الغربيين خلال تلك السنين ما كتبه الرحالة الألماني الشهير كارستن نيبور في رحلته(1) التي كتبها على أثر تجواله في البلاد العربية وسائر أنحاء الامبراطورية العثمانية آنذاك. فقد جاء إلى العراق عن طريق الخليج سنة 1765، بمناسبة اشتراكه في بعثة استكشافية علمية جهزها فردريك ملك الدانمارك وبعث بها إلى هذه الجهات. وقد وصل البصرة في خريف تلك السنة، وتوجه منها إلى الحلة في احدى السفن الصغيرة بالطريق النهرية. غير انه ما وصل (لملوم)، التي كان يقيم فيها شيخ الخزاعل حتى ارتأى أن يترك السفينة ويسلك الطريق التي تذهب من لملوم إلى النجف الأشرف مارة (بالرماحية) وبعد مسيرة سبع ساعات ونصف على ظهور الخيل وصل (نيبور) وجماعته إلى (الرماحية) التي يقول عنها أنها بلدة تحتل رقعة كبيرة من الأرض، وتضم في داخل أسوارها العالية المبنية باللبن ما يقرب من أربعمائة بيت. وقد شاهد فيها جامعاً يؤمه الناس للصلاة، وحماماً عاماً بحالة

* * * * * * * * * * * * 

1- C.Neibur - Voyage en Arabe et en d\'autres payscircoconvoisins (Amesterdam 1776).

* * * * * * الصفحة 32 * * * * * 

جيدة جداً، وللبرهنة على ازدهار الحالة الاقتصادية فيها يشير إلى ان شيخ الخزاعل كان يتقاضى رسوماً كمركية طفيفة على البضائع التي كانت ترد اليها.

وقد توجه من الرماحية إلى النجف، التي يطلق اسم \"مشهد عليّ\" عليها لا غيره في يوم 22 كانون الأول فوصل اليه مع خادمه وأحد (الملالي) بعد مسيرة سبع ساعات على ظهور الخيل، خلال حقول ومزارع معمورة. ويذكر في رحلته أنه صادف في طريقه ما بين الرماحية والنجف أربع جنائز تنقل للدفن في وادي السلام، وهو يورد بالمناسبة احصاء عن عدد الجنائز التي كانت تصل اليها من مختلف الأنحاء، فيقول إنه كان يتجاوز الألفين في السنة أي بمعدل سبع جنائز في اليوم الواحد. ويضيف إلى ذلك قوله ان الذين كانوا يريدون الدفن بالقرب من الروضة المقدسة كان عليهم أن يدفعوا مبالغ كبيرة من المال، وان الذين يدفعون مبالغ معتدلة كان يسمح لهم بالدفن في داخل أسوار البلدة، أما الذين كانوا يدفعون مبالغ زهيدة فقد كانوا يدفنون موتاهم في خارج السور، وهؤلاء كان يتراوح ما يدفعونه عن الجنازة الواحدة بين أربعة وثمانية \"ستوفرات\". وكانت ستون ستوفر تعادل \"تالير\" ألماني واحد، والتالير يساوي ثلاثة ماركات.

وبعد أن يأتي (نيبور) على ذكر الروضة والجامع وتعلق الشيعة المنتشرين في البلاد الإسلامية كلها بهذه البقعة المقدسة، يقول أنها تقع في منطقة مجدبة لا يتيسر فيها الماء بسهولة. ثم يشير إلى أن الماء الذي كان الناس يحتاجونه للطبخ والاغتسال كانوا يستقونه من قنوات خاصة تمتد في باطن الأرض، لكن الماء الصالح للشرب كان يؤتى به محملا على ظهور الحمير من مسافة ثلاث ساعات. ومما يذكره عن عمران البلدة ان جهة من جهاتها يكثر فيها الكلس، الذي كان يحرق للحصول على مادة البناء منه، وان الخشب كان يندر وجوده ويرتفع ثمنه

* * * * * * الصفحة 33 * * * * * 

فيها. ولذلك كانت البيوت تشيد كلها بالطابوق والجص وتعقد سقوفها على شكل قبب وعقود، فتكون متينة البنيان عادة. ويشير كذلك إلى وجود منطقة منخفضة متسعة الأرجاء في خارج البلدة، يكسوها الملح، كان يسميها الناس \"بحر النجف\" وهو الاسم الحالي نفسه بطبيعة الحال.

ومما يتطرق اليه نيبور عن طبقات السكان قوله ان بعض سكانها كانوا من أهل السنّة، وإن العلاقة بين أهل السنّة والشيعة في النجف وكربلا كانت علاقة حسنة إلى حد غير يسير. على انه يقول من جهة اُخرى ان الشيعة كان لابد لهم من أن يلتزموا جانب الهدوء لئلا يغضب عليهم الباشا في بغداد فيعمد إلى منع الزوار الإيرانيين من زيارة العتبات المقدسة، أو يفرض أتاوى باهظة عليهم. ويقدر (نيبور) عدد الزوار الذين كانوا يقصدون العتبتين المقدستين في المشهدين يومذاك بحوالي خمسة آلاف زائر في السنة. ومع ان العدد يبدو قليلا للقارىء في يومنا هذا، فإنه غير بعيد عن الحقيقة بالنسبة لظروف السفر الشاقة وغيرها في تلك الأيام الخالية. ومما يذكره (نيبور) في هذا الشأن كذلك ان الزيارة ليس لها أيام معيّنة كما هي الحالة في الحجّ إلى مكة المكرمة، ومع هذا فإن الشيعة يعتقدون بأن دعاءهم تزداد الاجابة له في أوقات وأيام خاصة. ولذلك فهم يؤدون الزيارة في أيام رمضان المبارك، والعاشر من محرم الحرام، والسابع والعشرين من رجب، وغير ذلك.

ولم يفت (نيبور)، وهو الرجل العالم المدقق، أن يرسم مخططاً خاصاً لمشهد عليّ كما يسميه يشير فيه إلى معالم البلدة المهمة وشكلها العام فهو يشير قبل كلّ شيء إلى أنها كانت في تلك الأيام محاطة بسور غير عامر يمكن الدخول إلى البلدة من عدة فجوات فيه، وان هذا السور كان فيه بابان كبيران هما \"باب المشهد\" و \"باب النهر\" وباب ثالث يسمى \"باب الشام\" لكنه يقول ان الباب الأخير كانت قد سدت فتحته بجدار خاص من دون أن يذكر السبب في ذلك. ويضيف

 

* * * * * * الصفحة 34 * * * * * 

إلى هذا قوله ان الشكل الخارجي للبلدة يشبه شكل مدينة القدس، وان سعتها تقارب سعة القدس أيضاً.

ويقول كذلك ان النجف كان فيها، عدا الجامع الكبير المشيد حول الضريح المطهّر، ثلاثة جوامع صغيرة اُخرى. وقد عمد (نيبور) إلى تخطيط رسم خارجي عام للجامع الكبير، كما يسميه، وهو يذكر ان سقفه قد صرفت مبالغ طائلة على تزيينه وطليه بالذهب بحيث لا يمكن أن يوجد مبنى آخر في العالم أجمع يضاهيه بكلفة تسقيفه الباهظة. ولا شك انه يقصد بذلك القبة العظمى المذهبة التي يقول ان نادر شاه الطاغية قد أنفق تلك المبالغ عليها ليكفر بها عن الأعمال الشريرة التي ارتكبها في ايران. فقد بلغت كلفة لوحة النحاس المربعة بالذهب مبلغاً يزيد تومان ذهب واحد (عشر تاليرات ألمانية). وهو يشيد كذلك بالمنظر الأخاذ الذي يبين للناظر إلى القبة المذهبة، ولا سيما حينما تسقط أشعة الشمس عليها، أو حينما تبين للرائي من بعد ستة أميال ألمانية على حد قوله. ومما يذكره بالمناسبة ان القبة كان يعلو قمتها \"كف عليّ\" بدلا من الهلال الذي كان يشاهد فوق القباب الموجودة في الجوامع التركية عادة.

ويستمر في وصف المظاهر الخارجية فيقول ان الجامع الكبير هذا كان محاطاً بساحة واسعة يقام فيها السوق كلّ يوم. وكان هناك بين يدي الباب الكبرى شمعدان كبير جداً يحمل عدداً كبيراً من الأضواء. وقد كانت تطل على هذه الساحة من جميع الجهات بيوت السادة والخدم التابعين للحضرة المطهرة، الذين كان يتجاوز عددهم المئة على ما قيل له.

أما بالنسبة لداخلية الحضرة وزينة جدرانها وسقوفها فهو يقول انه لم يستطع التقرب كثيراً من الجامع والدنو منه بحيث يشاهد شيئاً منها بنفسه. لأنه كان

* * * * * * الصفحة 35 * * * * * 

يخشى أن يجبر، لو فعل ذلك، على اعتناق الاسلام جرياً على العادة التي كانت متبعة مع غير المسلمين في هذا الشأن، ولم يكن يرغب أن يكلفه حب الاستطلاع مثل هذا الثمن الغالي على حد قوله. على انه يذكر ان (الملاّ) رفيقه في السفر، وعدداً من شيعة النجف، قد أكدوا له ان الحضرة كان فيها أشياء ثمينة جداً ينبهر بها الناظرون. فقد كان هناك عدا القبة المذهبة والآيات القرآنية المطعمة بالميناء وكتابات كثيرة مكتوبة بحروف من ذهب، وعدد غير قليل من (الشمعدانات) الفضية والشمعدانات الذهبية المطعمة بالأحجار الكريمة. ويشير ما خاصة إلى بصورة قيل له عن خنجر من الطراز الهندي كان معلقاً في شباك الضريح المطهر، فإنه كان مرصعاً بأحجار كريمة نادرة لا تقدر بثمن. وقد قيل له ان أحد أسلاف (أورنك زيب) امبراطور المغول في الهند كان قد أهداه على سبيل التبرك قبل بضع مئات من السنين. لكن الملاحظ في التأريخ ان أورنك زيب (وهو شاه جهان) نفسه تولى الحكم في 1659 وتوفي في 1707، وان امبراطورية المغول قد أسسها (بابير شاه) في الهند سنة 1529. ولم يغفل نيبور عن الإشارة في رحلته إلى انه كان من المعتاد في كلّ سنة أن يوفد والي بغداد رجلا من كبار ضباطه الى النجف الأشرف للتحقق من وجود هذه الأعلاق النفيسة والتحف الثمينة التي كان يؤتمن عليها الكليدار، ويسأل عنها الباشا الوالي كذلك.

* * * * * * * * * * * 

نيبور في الكوفة العلوية المقدسة

* * * * * * * * * * * 

ويظهر من رحلة نيبور انه كان قد قصد الكوفة أيضاً وزار معالمها خلال مدة وجوده في النجف. فانه يشير إلى أهمية الكوفة القديمة في تأريخ الإسلام، ويقول أنها كانت خالية من السكان تقريباً حينما زارها. وقد شاهد في طريقه اليها مجرى كري سعده الجاف، الذي يعتقد انه (اليالاكوباس) الذي حفره سكان العراق الأقدمون. لكن الذي لفت نظره بطبيعة الحال مسجد الكوفة الذي قتل فيه الإمام (عليه السلام). وهو يقول ان هذا الجامع الكبير لم يبق منه

* * * * * * الصفحة 36 * * * * * 

شيء يذكر سوى الجدران، وبعض المعالم المشهورة، وقد عمد إلى رسم مخطط خاص له نشره في الرحلة وأشار فيه إلى الأسماء كما استقاها من الدليل النجفي الذي كان بصحبته.

ومن المواقع التي يشير إليها في الجامع باب الفيل، والسفينة، (والسقاخانه) والموقع الذي كان الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) يصليان فيه، والمحراب الذي كان يصلي أزاءه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام). كما يشير إلى الأعمدة الدالة على مقامات الأنبياء عيسى وموسى وإبراهيم الخليل، والموضع الذي من عادة الإمام السجاد (عليه السلام) أن يصلي فيه، والمكان الذي شيد فيه نوح أول بيت له بعد مغادرته السفينة على ما يُعتقد، ومقام الإمام الصادق (عليه السلام)، وضريحي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة. وقد علم نيبور من الكتابة التي كانت منقوشة على البناء المشيد فوق قبري مسلم بن عقيل وهاني ان (محمّداً بن محمود الرازي) و (أبا المحاسن بن أحمد التبريزي) هما اللذان شيداه سنة 681 للهجرة.

ومما يذكره أيضاً ان السيدة عادلة خاتون بنت أحمد باشا الحاج حسن باشا، وزوجة الوالي سليمان باشا أبي ليلة، وكانت قد توفيت قبل وصول (نيبور) ببضع سنوات فقط، هي التي شيدت جدران مسجد الكوفة من ناحية الشمال الغربي، وهي التي أنشأت على حسابها الخاص بناية صغيرة ذات قبة قرب الجامع تخليداً لذكرى النبيّ نوح (عليه السلام). وقد زار (نيبور) جامع السهلة أيضاً; وهو يقول ان الدليل قص عليه قصة تختص بالجامع لم يفهم شيئاً منها.

وقد غادر (نيبور) النجف في يوم 25 كانون الأول 1765 متوجهاً إلى الكفل بعد أن بقي فيها ثلاثة أيام. وآخر ما يذكره في هذا الشأن ان (مشهد عليّ) لم

* * * * * * الصفحة 37 * * * * * 

يصل اليه أي أوربي قبله هو. ولا شك انه مخطىء في قوله هذا لأن الرحلات المطبوعة تشير إلى ان عدداً من الرحالين الأوربيين قد زاروا النجف قبله أو مرّوا بها، وأهمهم تكسيرا البرتغالي 6 آب (1604) و (بيترو ديلافالة) الإيطالي (1619) ونافيرنييه الفرنسي (1639). لكنه في الحقيقة كان أحسن من كتب عنها، وان المعلومات التي أوردها كانت أوسع مما كتبه غيره كما يلاحظ مما أوردناه في هذا البحث.

* * * * * * * * * * * 

هجمات الوهابيين على المراقد المقدسة في العراق

* * * * * * * * * * * 

وفي الربع الأخير من القرن الثامن عشر انتشرت الدعوة الوهابية في نجد وما جاورها من الأصقاع المتاخمة للعراق، وصار الوهابيون بما عرف عنهم من عنف وتعصب يهاجمون المناطق المطلة على البادية من هذه البلاد بين حين وآخر خلال مدة طويلة من الزمن. وكان نصيب النجف وكربلاء، بحكم موقعهما القريب من البادية وصبغتهما الدينية المعروفة وما فيهما من قبب ونفائس، شيئاً غير يسير من هجماتهم المدمرة وغزواتهم الصاعقة العنيفة.

وكان أعنف ما شنه الوهابيون من غزوات على العراق الغزوة التي هاجموا فيها مدينة كربلا في يوم الغدير من سنة 1216 للهجرة، المصادف لليوم الثاني من نيسان 1801 حينما كان معظم سكانها يؤدون الزيارة في النجف. ويقول المستر (لونكريك) في هذا الشأن ان وصول الكهية المتأخر إلى كربلا لم يجدها نفعاً ولكنه قصد النجف بعد ذلك ونقل ما كان في خزينتها من نفائس وتحف إلى بغداد خوفاً من أن يعود الوهابيون اليها فينهبوها كما فعلوا في غزوتهم لكربلا، والكهية المقصود في هذه الرواية هو عليّ باشا كهية والي بغداد المملوك سليمان باشا الكبير. وتقول مراجع اُخرى ان الوالي أمر بنقل النفائس التي كانت موجودة في خزانة النجف إلى خزانة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، وعهد

* * * * * * الصفحة 38 * * * * *

بذلك إلى الحاج محمّد سعيد بك الدفتري. وأمر كذلك بتعزيز حامية النجف فأبقيت فيها ثلة من عسكر الموصل وشرذمة من العقيليين.

وبعد هذا الحادث بسنتين أي في 1803 م (1218 هـ)، هاجم الوهابيون النجف، وشنوا عليها غزوة عنيفة. ويقول المستر لونكريك في هذا الشأن ان الغزو الوهابي للنجف في الأيام الأخيرة من تلك السنة كان بقوة أشد من القوى الاعتيادية، وان قبة عليّ بن أبي طالب بقيت ثابتة الأركان في داخل سورها المنيع وحينما خفت اليها قوات عليّ باشا الكهية عاد الغزاة من حيث أتوا واختفوا عن الأنظار. والمعروف في المراجع النجفية الموثوقة ان الوهابيين حينما وصلوا إلى البلدة وجدوا أبواب السور مغلقة، ومن بقي فيها من السكان قد تهيأوا للدفاع عنها حتى النفس الأخير. وقد تولى هذا الدفاع والاشراف عليه سماحة الشيخ جعفر كاشف الغطاء(1) بنفسه، واشترك فيه عدد من العلماء والأعلام وغيرهم.

وفي ربيع 1806 هاجم الوهابيون العراق من عدة جهات من جملتها النجف كذلك. ومما يذكر لونكريك بهذه المناسبة ان جماعاتهم الغازية ظلت تغزو قرى الحدود من الطف ولكن من غير أن تنال نجاحاً في غزواتهم. وكان سكان البلدان من الزبير إلى السماوة مع حلفائهم من القبائل يصدون هجماتهم بسهولة. وقد أوشكوا أن ينجحوا في غارتهم المفاجئة على النجف الأشرف لولا أن عاجلهم النجفيون من السور فكسروهم شر كسرة(2). ويؤيد ذلك ما جاء في (تاريخ العراق بين احتلالين) من انّ سعوداً سار بجيشه إلى المشهد وأحاط بها ثم أمر رجاله بتسوّر السور

* * * * * * * * * * *

1- الص 327 ماضي النجف وحاضرها، ط2.

2- الص 218 من الترجمة العربية، ط 2.

* * * * * * الصفحة 39 * * * * *

ومهاجمة البلد. لكن وجود الخندق العميق حوله حال دون نجاحهم في ذلك. وقد جرت مناوشات عنيف وقتال بين الطرفين ورمي الوهابيون من السور وأبراجه فقتل عدد غير يسير منهم فردوا على أعقابهم(1).

وقد كانت الهجمات الوهابية المتكررة على النجف هذه واستدامة الخطر

* * * * * * الصفحة 40 * * * * *

1- ومما ورد على ألسنة الشيوخ وتداولته الألسن: انه حينما ضيق الوهابيون الحصار على النجف وانقطع بذلك طريق تموين البلدة بالطعام واقتصر شرب الماء على الآبار المالحة وضاق بالناس الحال أفتى العلماء هناك بالجهاد، ودعوا الناس إلى الاجتماع في الصحن الشريف وهناك تليت عليهم فتوى الجهاد التي توجب على كلّ مسلم مستطيع أن يقوم بقسطه من الدفاع عن المدينة المقدسة وساكنيها خصوصاً بعد أن يئس الناس من وصول الجيوش العثمانية لنجدة المدينة، وقد صنف المجاهدون إلى أصناف، صنف يتقدم الجموع المهاجمة وهم حملة البنادق والذين يجيدون رمي الحجارة بالمقاليع، وصنف يتولى محافظة هؤلاء المهاجمين بنفس السلاح، وصنف يناط به حفظ أسوار المدينة وأبوابها وتسهيل عودة المهاجمين إذا ما اقتضى انهزامهم، وصنف عليه تموين المحاربين بالحجارة الصالحة، ولم تكن البنادق يومذاك معروفة إلاّ نادراً والحرب كانت حرب سيوف ورماح في الغالب وكانت في النجف بندقية هي بين المدفع والبندقية وصفاً، وكانوا قد نصبوها فوق نقطة معينة من السور وكانوا يحشونها بالبارود والخرق وكرات الحديد والحصى ثم يولعون الفتيل بطريق قدح الزناد فتقذف هذه البندقية بمقذوفاتها في مسافة ربما لا تتجاوز المائتي متر وتسبب سخرية الوهابيين وضحكهم أكثر مما تسبب خوفهم.

وبعد أن تم تصنيف المجاهدين من قبل الزعماء من اُولي الخبرة بالحرب تقرر أن يفتحوا باب المدينة بعد منتصف الليل من الليلة التالية وعلى غفلة من الوهابيين الرابضين فيحملون عليهم حملة رجل واحد في جنح الظلام وهكذا كان، وكانت الليلة من الليالي الحالكة وكانت مفاجأة غير منتظرة أشاعت الذعر في الإبل الباركة فهبت من مراحها لا تدري أين تولي وجهها، وتساقط الرصاص والحجار كالمطر على البدو النائمين المطمئنين فإذا ببعضهم يضرب بعضاً وإذا بعدد كبير من الوهابيين يسقط قتيلا وجريحاً. وحين عاد المهاجمون عادوا ومع الكثير منهم أشياء من الأواني والأعمدة والرماح والسيوف، لقد عادوا وأغلقوا أبواب المدينة من جديد خلفهم، وحين طلع النهار رأى الوهابيون ان الحصار لم يعد نافعاً خصوصاً وقد مرت عليهم أيام طوال عادت عليهم بكثير من خسارة النفوس سواء في أثناء محاولتهم تسلق السور أو من هذا الهجوم المفاجىء الذي تجاوز حدود القتلى والجرحى فيه الحد المعقول على ما روى الرواة وهذا العدد الكبير من الاصابات الواقعة على الجمال فارتحلوا عن البلدة في صباح تلك الليلة، ومنذ ذلك اليوم والنجف تعنى عناية خاصة بتدريب أبنائها على رمي الحجارة بالمقاليع ولم تمح هذه الرياضة إلاّ مؤخراً. ج . خ

* * * * * * * * * * *

منقول للاستفادة في مما جرى لنا من افعال الوهابية المجرمة في هجماتهم السابقة على كربلاء والنجف المقدستين (العراق) فلنأخذ الحظر والنعي عن ما يحدث حولنا اليوم. 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الكوفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/07/05



كتابة تعليق لموضوع : النجف الاشرف بين نادر شاه والعثمانيين قادة السلالة العثمانية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net