صفحة الكاتب : د . اسامة محمد صادق

( ليل علي باب الحزين ) رواية الشعب الخسران
د . اسامة محمد صادق

 بعد خمسة أيام من القراءة متواصلة انتهيت  من قراءة رائعة الروائي العراقي الكبير عبد الخالق الركابي (ليل علي بابا الحزين) وهي من إصدارات دار ومكتبة عدنان للطبع والنشر والتوزيع في بغداد(2013) وقد جاءت بـ(368) صفحة ومن ثلاثة فصول (الخروج من المغارة ، افتح يا سمسم ،كلمات كهرمانة الأخيرة)  .

وقد اعتدت أن اكتب عن الرواية التي تثير انفعالاتي الشخصية والأحاسيس الذاتية حولها بمقال نقدي انطباعي ، والانطباعي كما يعرفه رائد الانطباعية (الأديب الفرنسي أناتول فرانس  أن قيمة أي عمل أدبي تكمن في نوعية الانطباعات التي يتركها في نفس القارئ وهذا الانطباع هو الدليل الوحيد على الوجود الحي للعمل الأدبي)1. ويرى  الدكتور بدوي أحمد طبانة ((أن النقد التأثري يعبر دائماً عن الرأي الذاتي لصاحبه ، ومدى استجابته للعمل الأدبي ، وانفعاله به ،وفي هذا النقد كثيراً ما تتعارض الآراء بتعارض الميول والنزعات، واختلاف العواطف والانفعالات . ))2 وخلاصتي من هذه المقدمة هو عدم الخوض بالأشكال النقدية الأخرى التي لا شأن لي بها كقارئ  متوخيا ً في الوقت ذاته  الابتعاد عن  (السذاجة والمبالغة) والتي يتهم بها هذا النوع من النقد .
تبدأ الرواية بكلام غير قابل للتصديق يردده الجيران (مفاده أن ((كهرمانة))في نصبها القائم في منطقة الكرادة ، توقفت عن سكب الزيت في جرارها ، حيث شوهد أربعون لصاً تباعاً مغادرين تلك الجرار ليتوزعوا ، تحت جنح الظلام ، في شتى أحياء العاصمة !!)ص7
استهلال ذو مغزى وتأثير وجذب لأحاسيس القارئ ومشاعره ودعوته للخوض في متن الرواية و التنبؤ بما يومئ اليه هذا النص ، والحدث الذي بعده  والمتمثل بنظرة الاشمئزاز والاحتقار للبطل (الرواي العليم)  من طبيبة نسائية تؤكد لفتاة مسيحية محجبة تدعى (دنيا) كانت برفقته بأنه لامجال للخطأ في التشخيص بعد عدة شهور من الحمل وأن عليها الإسراع قبل فوات الأوان ، الأمر الذي دعا الفتاة  بعد الخروج من العيادة  أن تعول  على شهامته للزواج  منها كأجراء شكلي درءا ً للفضيحة فيسارع إلى الرفض كونه متزوجا ً إضافة لاختلاف الدين والتقاليد التي تمنعه بالاقتران بهذه الشاكلة مفكرا بذات الوقت بحبها لـ(يحيى) وصداقته له تمنعه من ذلك .ثم ما يلبث أن ينتهي المشهد باختفاء الفتاة في الزحام  ..
ثم يبدأ  الراوي  بعدها باعتماد تقنية ( "الإرتجاعات الفنّية -Flashbacks" ) والتي طغت تماما ً على بقية الأحداث سأستعرضها بطريقة كاملة وغير مجزأة كما في  الرواية التي أراد الروائي وبذكائه المعهود أن يجعل القارئ  متحمسا ً يرتقب النهاية مع كل نص .
وابدأ من خلال صوت (مي) المرأة المثقفة التي أحبت  روايات (البطل) والذي يظهر فيها بثوب الأديب المشهور إذ  راحت تبحث عنه  فتتعرف عليه فتتمخض العلاقة بينهما الى حب سرعان ما أخذ بعده الصادق في المشاعر مع  توافق في وجهات النظر و الصفات والهوايات ثم ما لبثت فيما بعد ان  وجدت منه تهربا في حسم العلاقة ما بين حبها وزوجته فتقرر الهجرة الى بلد اجنبي تاركة له إرثا ً عاطفيا ً ينوء عن حمله كلما عصفت به الذكريات .
ثم يعود الرواي ليمارس حياته مع أقرانه من الأدباء والكتاب منتظرا ً أي اتصال هاتفي من الفتاة المسيحية (دنيا) الذي أعياه التفكير بحالها وما سيترتب عليها جراء الحمل من مجهول رغم  الشائعات التي كانت  تدور عن علاقة غير شرعية قائمة ما بينها وبين( يحيى) الذي تعمل عنده في مكتب للاستنساخ براتب يعينها للعيش وإعالة افراد عائلتها من العجائز والمرضى الذين وجدوا صعوبة في الهجرة بعد الاحتلال الهمجي الأمريكي للعراق وما خلفه  من صور تراجيدية  في غاية الدقة والتأثير والبشاعة  نقلها لنا الراوي عبر سلسلة متزامنة من الأحداث منذ إعلانه للسفر الى مدينة (الأسلاف،  مدينته الحدودية ) قبيل الاحتلال وأثناء عودته وما بعدها ، صورة ظلامية أشترك فيها الجميع بالتقاطها ( المحتل ، العصابات الإجرامية ، السراق القادمون من خارج الحدود وداخله بمختلف أعمارهم وأجناسهم ،  إضافة لصور  حرب الأديان بين الطوائف المسيحية والمسلمة ) .
أما (يحيى شفيق) فكان من بين اهم الشخصيات  التي عمد الركابي على توظيفها بحنكة  من خلال عرض شامل ودقيق لحياته شأنه شأن كل الشخصيات في الرواية فهو الفقير ابن (المبيضجي) الذي زوجه والده منذ مطلع شبابه من امرأه لم تكلفه شيء كونها يتيمة لينجب منها البنات فقط  ثم ما يلبث أن يكون لديه مكتب استنساخ  يعيله للعيش  فتجمعه علاقة صداقة متينة  بالراوي تنتهي بخصام سببه التقريع لعلاقته   غير المشروعة مع (دنيا)وما ال اليه الثراء الفاحش غير المشروع.
اما الاسترجاع الأهم والأشمل الذي أجده محور الرواية هو شخصية (بدر فرهود الطارش ) مدير متحف (الأسلاف) المشلول والذي يتعرف عليه الرواي من خلال لقاءات متواصلة  يسترجع ذكرياته وفق  ( التخيّل التاريخي ) التي يقول عنها الناقد العراقي (حسن سرمك حسن ) (انها آليّة عمل في السرد للتعامل مع وقائع التاريخ وليس جنسا إبداعياً يحل محل جنس الرواية التاريخية)3  يسترجع معه السنين التي أمضاها (بدر)  في بغداد برعاية المستر "تيلر تومسون"  لصّ الآثار الذي هرب ثم عاد مع احتلال العراق ، وانخراط بدر في المدرسة الأمريكية للبنين عام 1926 ،. ثم تفاصيل علاقته بالمستر تومسون ومقابلاته للمس بيل وجهودها والمستر تيلر في تأسيس أول متحف عراقي .. ورحلة بدر مع تيلر بواسطة القطار إلى مواقع التنقيب في الجنوب .. وما كشف له المستر تيلر بأن العمال يبحثون عن (رب أرباب اليهود) .. ثم حديثه عن اكتشاف عالم الدراسات الآشورية "سميث" المذهل وهو رقم مسماري فيها تاريخ مشابه لأدق تفاصيل رواية الطوفان الواردة في التوراة (ص 239) .. 
وكانت المحصلة النهائية من هذه العلاقة هي ملفات ووثائق تاريخية تعينه على كتابة الرواية .
والمثير في كل ما ورد أن بدر وما وصل اليه من مكانة مادية ووظيفية مرموقة لم تكن عن طيب خاطر او محبة سرت في قلب (تومسون) لبدر ليرعاه منذ صغره بل لاكتشاف الأخير منذ وقت مبكر أنه أبيه وان العينان الزرقاوان في وجه بدر نتيجة جماع غير شرعي كان يمارسه تومسون مع (شذرة) والدة بدر...حقيقة كشف عنها  فرج شقيق بدر الذي يكبره بكثير وكان يرى الحادثة تتكرر يوميا دون أن يفكر  بالثأر او الانتقام أو  غسل العار ..
تنتهي أحداث الرواية مع  اتصال  (دنيا) ولقائها مع الراوي  في بغداد و ما نتج عن حقائق كانت غائبة عنه إذ تبين أن البيت الذي اشتراه (يحيى شفيق ) في شارع الأميرات بعد ثرائه الفاحش هو مهر زواجه من( دنيا ) وان الجنين المجهول في بطنها يعود له ضمن زواج شرعي و(الشيخ غازي الشايع) هو من  اجرى العقد وقد تنصل مرار عن ذلك حسب ما ذكرته (دنيا) في الروائي .
-         لن يغامر هذا الرجل بمساعدتي أبداً ؛ فمنذ فشله في الانتخابات البرلمانية السابقة وهو يتهيّأ لترشيح نفسه للدورة القادمة ، بادئا ذلك بتبييض صفحته بالتنصّل من إقحام نفسه في أمر على هذه الشاكلة من التعقيد - ص 10)
فتتطلب من الراوي القيام بالمهمة ذاتها لعله يفلح معه فيضطر للسفر الى مدينة الأسلاف فيلتقي به فتفشل المهمة من جديد  وحين أراد أن يعرف عن مصير (يحيى) عن طريق  صديق أخر ويدعى(نجيب شكري ) التي قادته الظروف الاستثنائية هو الأخر  لأن يكون شخصية بارزة في المجتمع ومتهم بضلوعه في اختفاء (يحيى) فيكتشف الأخير أنه لن يعود رغم الفدية التي دفعها أهله  وأن جشعه قضى عليه جراء شحنه لبضاعة  فاسدة يتم مصادرتها وحرقها  الأمر الذي دعى الراوي أن يتنصل من المهمة تماما وأن لا يحشر نفسه وسط عصابات تحوك لبعضها طامعة بكل شيء ، ثم يعود الى بغداد لتصله بعد ذلك رسالة على بريده الإلكتروني من (دنيا)  تقول فيها
-          أنا الآن في أقصى الغرب الأمريكي ، يطالعني المحيط الهادئ من خلال شرفة شقتي ، وعلى الأرض يتقلب ابني يحيى الصغير قرب قدميّ ، رامقا إياي بنظرة دهشة من عينيه المشابهتين لعيني أبيه ، مستغربا لأنني تأخرتُ في إرضاعه ، غير مدرك أنني تأخرت ، على امتداد عمري ، في أمور كثيرة وفي مقدمتها أنني كدتُ أجعل منه موضوعا للمساومة وهو جنين في أحشائي ، طمعا في الاستحواذ على بيت مترف يقع في شارع الأميرات - نعم لم لا أصارحك بالحقيقة ؟ - لولا أنه جعلني أحسم أمري وأقرر الهجرة : حصل ذلك يوم اتصلت بي هاتفيا منبئا إياي بفشل مسعاك مع نجيب الكذاب ؛ فوسط انفعالي وأنا أرد عليك منتحبة فوجئتُ بأول ركلة منه في بطني ؛ فقررتُ لحظتها نفض يديّ عن كل شيء والنجاة به ، هو ابني الوحيد وسط زبانية جهنم - ص 290
ختاما بودي أن أنوه عن شيء مهم أخر عن الرواية تتمثل فيه  أن الرواي  العليم الذي جاء بضمير المتكلم هو نفسه  (عبد الخالق الركابي ) والأدلة كثيرة من بينها أن جنس النص الروائي  كان يشتغل وفق آلية (التخييل الذاتي ) أو ما يطلق عليه Autobiography  الأوتوبيوغرافيا). أي الكتابة عن الذات وعن الحياة الخاصة4 والمصطلح  كـمـا هـو ملاحظ  يقوم على ثلاثة عناصر: Autos الذات،Bios الحياة، Graphein الكتابة5
حيث وجدنا الكاتب داخل نصه يشير إلى نصوصه السابقة التي عرف بها مثل رواية "سابع أيام الخلق" ورواية الراووق وعلاقته وحبه  بكتابة التاريخ العراقي في منجزه الروائي. 
ولم اجد في ذلك سوى متعة قادتني للتعرف أكثر على منجزات الروائي واقتنائها من خلال الدعاية الناجعة التي وضفها الركابي داخل العمل وهو فعل  ليس بجديد فقد وضفها الروائي العراقي تحسين كرمياني في روايته (حكايتي مع رأس مقطوع ) والأمثلة الأخرى كثيرة أيضا ً..الملفت للانتباه في الرواية أنها واقعية ومنصفة من دون أن تنحاز لأي طائفة أو فئة أو حقبة  سياسية معينة  وأن أغلب الوقائع التي استوحاها  المؤلف هي من تاريخ العراق الحديث والتي جاءت  من خلال أسماء الأمكنة ودلالتها على ارض الواقع مدعمة بالوثائق موظفة بطريقة جمالية ورمزية  وكانت بمثابة ركائز مفسرة لأحداث تزيد من ثقافة القارئ ومتعته  ورصيده المعلوماتي لتاريخ وتراث  العراق 
وتأسيسا ما تقدم أن رواية (ليل علي بابا الحزين ) ماهي إلا حكاية شعب قدر له ان يبقى في ضياع من أمره وتناقض ما بين مبادئه وأفكاره وتصرفات حكامه على مختلف العصور التي مر بها   . إنها حكاية لشعب مازال هو الخاسر الوحيد في الميدان...
 
الهوامش
(1)                        أناتول فرانس هو روائي وناقد فرنسي ولد في باريس في 16 أبريل 1844 حاصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1921 لمجموع أعماله.  
(2)                        بدوى أحمد طبانة أحد ابرز علماء اللغة العربية المعاصرين( وله من المؤلفات 28مؤلفاً) ابرزها(التيارات المعاصرة في النقد الأدبي. دراسات في نقد الأدب العربي). 
(3)                        حسين سرمك حسن / عبد الخالق الركابي في (ليل علي بابا الحزين) عميد تقنية (التخيّل التاريخي) في الرواية العراقية (2 ) مركز النور   
(4)                        عمر حلي ، البوح والكتابة، دراسة في السيرة الذاتية في الأدب العربي، مجموعة البحث الأكاديمي في الأدب  . 
(5)                        الزوهرة صدقي ، حول مفهوم التخييل الذاتي . 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . اسامة محمد صادق
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/07/08



كتابة تعليق لموضوع : ( ليل علي باب الحزين ) رواية الشعب الخسران
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net