صفحة الكاتب : مصطفى الهادي

الفساد ، دراسة نفسية . الأسباب والعلاج.
مصطفى الهادي

 التربية الصالحة للطفل هي الاساس الذي ترتكز عليه قواعد النشأ السليم ، تعهد النبتة الصغيرة وهي برعم يُجنبها الاعوجاج فتنشأ مستقيمة شامخة جميلة المنظرحتى ضلها يكون مستقيما اي افعالها ، الاعوجاج عندما يكبر لا ينفع معه التقويم إلا الفأس. فالبيت والأسرة والمحيط هي التي تصوغ شخصية الطفل وتؤسس لنوع التعامل المستقبلي الذي سوف يعطيه الطفل حينما يكبر. ولربما اول عناصر الفساد هي تلبية رغبات الطفل واعطاءه الرشوة من أجل ان يسكتوه عن البكاء ، والطفل يعرف جيدا هذا السلاح ويُحسن استخدامه فيجبر ويُعلّم ابويه على طاعته بدلا من أن يقوم الابوان بتعليم الطفل على طاعتهما وهكذا تنشأ مع الطفل الصغير طريقة اسكاته عن طريق اعطاءه الرشوة فيتمادى الطفل في الطلبات مستعينا بالبكاء ، ويتساهل الآباء في اعطاءه كل ما يُريد من أجل قطع صوته المزعج وهكذا تنشأ مع الطفل عادة اعطاءه ما يُريد فتصبح عادة ملحة في حياته المستقبلية تدفعهُ ومن أجل السكوت عن الخالفات والتجاوزات إلى أن يتقبل الرشوة. اضافة إلى عوامل أخرى قد تدفع الإنسان إلى الفساد منها الفقر وغياب الرقابة وموت الضمير والاثراء السريع عن طريق جمع المال من دون تعب.

هذا على مستوى الفرد ، واما على مستوى المجتمعات التي تتكون من مجموعة أفراد حيث يكون فيها الفرد لبنة في بناء المجتمع فأن اقدم الكتب والمدونات تخبرنا بأن الفساد والرشوة كانت قديمة قدم الإنسان على هذه الأرض وقد حفلت الكتب السماوية القديمة بنصوص تحث الإنسان على ترك الفساد والرشوة وتُهدده بالعقاب الصارم في الدنيا والآخرة.(1)

والفساد حسب التعريف العالمي هو سوء استخدام السلطة لتحقيق مكاسب خاصة. ولا يقتصر الفساد على الرشوة فقط فالكثير من الرسميين الفاسدين يضعون أيديهم أحيانا على ممتلكات الغير أو السطو على الممتلكات والأموال العامة للدولة ، ولعل اسوأ أنواع الفساد هو المحسوبية والمحاباة وهي استغلال المنصب لتوظيف وتعيين الأقارب أو الأصدقاء ممن لا خبرة لهم، بينما بقية الشعب يعيش في البطالة والفقر والعوز.
ومع أن البشر كلهم عرضة للفساد إلا أن الفساد يتفشى في الأجهزة الحكومية بشكل خاص وخصوصا في الأحزاب السياسية فهي الأكثر فسادا وإفسادا ثم يأتي من بعدها الشرطة ثم المؤسسات التشريعية والقضائية ثم المؤسسات العامة. (2)
كثيرون وضعوا برامج وخطط للقضاء على الفساد ولكن أي منها لم يُحقق نتيجة وذلك لعدم الجدية في التعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة فالخبيرة في مكافحة الفساد البروفسورة (سوزان روز أكرمان) (3) تقول : (أن الإصلاح يتطلب تغييرات جذرية في طريقة عمل الحكومات.أن مكافحة الفساد يجب أن تبدأ عند قمة الهرم) فالاطاحة بالرؤوس الكبيرة من المفسدين تُخيف المفسدين الصغار ولكننا نرى أن الحكومات تُحارب الفساد في دوائر الدولة الصغيرة وتطرد وتُعاقب الموظفين المفسدين ولكنها تتغاضى عنه بين المسؤولين الكبار.

أحد أهم الطرق لمكافحة الفساد هو استغلال الانتخابات للإطاحة بالمسؤولين الفاسدين الكبار، ولكن حتى الانتخابات يجري تزويرها والتلاعب بنتائجها أو العمل بنظام المحاصصة بعيدا عن نتائج الانتخابات وهذا يجري حتى في البلدان المتقدمة. فبإمكان الأثرياء في الغرب ان يقوموا بتمويل الحملات الانتخابية وبالتالي يتحكمون في نوعية المسؤول الذي سوف يصل للسلطة والذي سوف يوفر لهم الكثير من الامتيازات، ناهيك عن اصحاب النفوذ من الكتل السياسية الصغيرة وشيوخ العشائر الذين يستطيعون ايصال حتى التافهين إلى سدة الحكم مقابل امتيازات يحصلون عليها فيما بعد.
وهذا السلوك لا يُهدد شرعية ونوعية الحكم بل سوف يفقد الرأي العام الثقة بهكذا انتخابات وهكذا حكومات. وبالتالي سيكون البلد عرضة للتدخلات الخارجية أيضا ومسرحا للفساد والجريمة والارهاب وإذا فقد أي بلد في العالم الأمان فإن مصيره إلى الزوال.وإذا قيّض الله إلى بلد ما أن يكون فيه حكم يخلو من الفساد وحكومة نزيهة فإن (الانقلابات) بالمرصاد لأن استقرار اي بلد وخلوه من الفساد يضر بمصالح بعض الدول فتعمل على تقويض الحكم وتفرض حكومة انقلابية تحقق لها اطماعها في ثروات البلد وطاقاته.
كثيرون يعتقدون أن سَنّ قوانين صارمة جديدة من شأنه أن يُحارب الفساد ولكن الكثير من خبراء القانون وجدو أن زيادة قوانين مكافحة الفساد في حالات كثيرة تفسح مجالا أوسع للفساد وذلك من خلال تأثير المشرعين الذين يصوغون القوانين التي تحمي كبار المفسدين وتُعاقب صغارهم.ناهيك عن فساد المؤسسات التشريعية نفسها في البرلمانات والتي لا تسمح ان تتضرر منافعها أو تفقد امتيازاتها.

أن الحل يكمن في مكافحة اهم عنصرين من عناصر الفساد وهذه مسؤولية الجميع التي تقع على عاتق كل فرد منّا وأن الإنسان يبدأ بنفسه قبل غيره.

فالفساد يقوم على دافعين هما (الجشع والمصلحة الشخصية) اضافة إلى الأنانية التي تكوّن اطارا يحمي هاتين الصفتين الذميمتين. وإذا امتلكت الدولة أو الأفراد الرغبة والقدرة على تطبيق البرامج الصحيحة التي من شأنها القضاء على الفساد فإن ذلك سيكون سهل التحقيق فعلى كل أنسان أن يكون رقيبا لأعماله محاسبا لأفعاله صابرا قانعا يكتفي بالمهم الضروري ولا يطلب المزيد الذي لربما فيه ضرره فكما أن كثرة الماء تُميت الزرع ، فإن كثرة الشهوات تُميت القلوب فتصبح مرتعا للفساد.

أن المشكلة الرئيسية تبدأ من الأسرة التي تُعلّم الفرد فحتى في البيئة المثالية التي تُقدم أفضل تربية أخلاقية فإن بعض البشر يختارون طريق الغش والفساد والسبب هو الاساليب الخاطئة التي تتبعها بعض الأسر في تنشئة الطفل حيث تعتقد ان هذا الاسلوب هو الناجح فتدفع الطفل إلى الكذب والاحتيال منذ نعومة اظفاره لكي يتخلص من نمط معين من العقوبات التي تراها الاسرة مناسبة لتربية الطفل. وقد أقر الخبراء بأن الكثير من طرق التربية الأسرية الخاطئة يتسبب في منع الحكومات من خلال مدارسها وبرامجها من استئصال الفساد ولذلك فإن جلّ ما تطمح إليه بعض الحكومات هو تضييق مجال الفساد والحد من آثاره المدمرة.

فأقصى ما تقوم به الحكومات هو ترويج النزاهة والأمانة والشعور بالمسؤولية لدى الناس وهذه الأهداف النبيلة لا يُمكن للحكومات السياسية ان تقوم بها لوحدها بعيدا عن (الدين) الذي يُشكل وازعا فطريا آخر في عملية ردع الفساد والقضاء عليه .

فالحكومات تستطيع من خلال برامجها العقابية وقوانينها الصارمة ان تحد لربما من ظاهرة الفساد في التعاملات اليومية ولكن الدين أيضا يغلق الأبواب الأخروية بوجه من يؤمنون به فيتوعد المفسدين بالعقاب الأخروي الأبدي الذي يحرمهم من التنعم برضا الله تعالى ورضوانه.ناهيك عن العقوبات الدنيوية القاسية التي تتوعد المفسدين والسراق. ولو قام الانسان بتطبيق قوانين السماء من دون محاباة أو تحيّز لكانت الآن الدنيا بخير فهل نلوم الدين على بعض القوانين التي يراها البعض صارمة ؟ مثل قطع يد السارق (4) او القصاص من القاتل أو اقامة الحد على من يتلاعب بأعراض الناس ويهتك شرفهم أو سجن من يتسبب في سلب الأمن من الناس واخافتهم،

أن المعترضين على هذه القوانين هم طبقة المفسدين انفسهم الذين يُريدون الانفلات من كل رقيب او حساب والتحرر من القيم الأخلاقية التي تحكم الفرد والمجتمع ، والقوانين الدينية تقف حائلا بينهم وبين ما يطمحون إليه ولذلك يشنون الحملات الظالمة على هذه القوانين التي تردعهم وتحد من تصرفاتهم المخربة.
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.

المصادر.
1- سفر الخروج 23: 8 (ولا تأخذ رشوة، لأن الرشوة تعمي المبصرين، وتعوج كلام الأبرار الشرير يأخذ الرشوة من ليعوج طرق القضاء الآخذون الرشوة، الصادون البائسين في الباب).
2- اضافة إلى المدونات والكتب القديمة الدينية منها والتاريخية فإن مقياس الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية وضع حديثا ارقاما خرافية عن الفساد المستشري في جميع الأنظمة،واما على مستوى أوربا فقط فقد صرحت ممثلة مفوضية الشؤون الداخلية في الاتحاد الأوربي (سيسيليا مالمستروم) أن الفساد في أوربا بلغ مستويات مرعبة. Anna Cecilia Malmström (born 15 May 1968) is a Swedish politician who has served as European Commissioner for Trade since 2014
3- الفساد والحكم: الاسباب، العواقب، والاصلاح.. سوزان - روز اكرمان / ترجمة : فؤاد سروجي. مكتبة بستان المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع, 2003 .

4- قطع يد السارق لربما ليس في السكين ، بل باعطاءه ما يكفيه لقطع (لكفّ) يده عن السرقة. وإن كنت أنا شخصيا أرى أن الفساد حالة مرضية نفسية لا ينفع معها إلا قطع اليد والعقوبات الصارمة كالاستئصال من الجذور، لأننا نرى أن الكثير من السراق والفاسدين ليسو فقراء بل لربما من أغنى الأغنياء ولكن أيديهم تسرق كل شيء تصل إليه فكيف يتم قطع أيدي هؤلاء ومنعهم من الفساد.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مصطفى الهادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/07/14



كتابة تعليق لموضوع : الفساد ، دراسة نفسية . الأسباب والعلاج.
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net