الاسد والارنب وقيادة البلاد وسراب الوعود وضبابية التصريحات

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تُشكّل قضايا الكذب مجالاً خصباً لإثارة وتأمّل إحدى الإشكالات الطريفة والمعقّدة، التي تتّصل اتّصالاً وثيقاً بالكائن البشريّ والحياة اليوميّة، وترتبط ارتباطاً عميقاً بالتواصل الإنسانيّ وتجليّاته المختلفة. وقد أضحى موضوع الكذب، في العقود الأخيرة، محوراً علميّاً وإشكالاً فكريّاً، يحتلّ موقعاً متميّزاً في الدراسات الإنسانيّة والأبحاث الأكاديميّة المعاصرة، سواء على صعيد تنوّع المقاربات الوصفيّة والتحليليّة، التي تُلامسه، أو على صعيد تعدّد الحقول المعرفيّة، التي تُعنى به.

وفي هذا الصدد، يُمكن إيجاز المقاييس المعتمدة في التّمييز بين الكذب وباقي أنواع المخادعة في مقياسين هامّين: أوّلهما، يتمثّل في قصد الكاذب، الذي يتعمّد تضليل المتلقّي، إذ قد يقول الكاذب الحقيقة فعلاً عن غير قصدٍ، كما قد تصدر عن الإنسان الصادق معلوماتٌ خاطئةٌ دون قصدٍ أو تعمّدٍ؛ وثانيهما، يتجلّى في عدم المعرفة المسبقة بالمستهدف، حيث يكون الهدف المقصود من التّضليل غير معلومٍ، ممّا يجعل على سبيل المثال من المحتال أو الدّجال كاذباً على عكس السّاحر أو المُمثّل.

وإذا كان الكذب يعتمد على التقنيتين الشّائعتين المتمثّلتين في الكتمان والتزييف,فيمكن طرح ثلاث تقنيّاتٍ أخرى، ندرجها في ما يلي: أوّلاً، قول الصّدق بطريقةٍ مضلّلة، إذ يعمد الكاذب إلى التكلّم عن شيءٍ صادقٍ، بشكلٍ يعني، ويفيد عكس ما يُريد قوله؛ ثانياً، قول نصف الحقيقة على أنّها الحقيقة كاملة، حيث لا يكتمل الصّدق بمعلوماتٍ ناقصةٍ ومجزّأةٍ؛ ثالثاً، المراوغة الاستدلاليّة الخاطئة، التي تتمّ عن طريق تقديم معلوماتٍ عاديّةٍ، مع التكتّم المقصود والسّريّة المبالغ فيها. وعلى هذا الأساس، تُستبعد مجموعةٌ من الأشكال التعبيريّة عن دائرة الكذب، من قبيل الانخداع، حينما لا يُدرك الإنسان أنّه يخدع نفسه، ولا يعرف دافعه الخاصّ لتضليل نفسه، والوعد المخلوف إنْ لم يحصل العلم به، والعجز عن التذكّر، والاعتقاد بأنّ الخاطئ صحيحٌ، والتّعبير الخاطئ غير المقترن بالقصد المتعمّد للتضليل.

وقد جنحت بعض المقاربات المعتمدة، في جملةٍ من الأبحاث الأكاديميّة والعلميّة نحو إيجاز الدوافع إلى الكذب، فذهبت إلى أنّ الدافع قد يكون اجتناب العقاب، أو توفير الحماية، أو بلوغ المنفعة، أو كتمان السّر، أو كسب الإعجاب، أو تجاوز وضعيّةٍ حرجةٍ، أو ممارسة السّلطة على الآخرين، عبر مراقبة المعلومات، التي يتوفّر عليها الهدف ؛ غير أنّ هذه المقاربات استثنت من هذا النطاق أكاذيب التأدّب lies of politeness ، إذ اعتبرت أنّها ليست كذباً، نتيجة إعمال القواعد الآدابيّة في بعض الوضعيّات التّخاطبيّة الخاصّة، من قبيل رفع الحرج عن أحد المتخاطبين أو الاحتفاظ بمفاجآتٍ ما مثل مفاجأة حفلة عيد الميلاد أو غيرها.

إجمالاً، يُمكن القول بأنّ الكذب يُعتبر فعلاً لفظيّاً يستلزم تحفيزاً لا مشروعاً للمعرفة، والمعلومات في إطار التفاعل والتواصل بين أفراد المجتمع؛ إنّه ليس فعلاً كلاميّاً بالمعنى التقليديّ، ما دام أنّه لا يستجيب للشّروط المناسبة المألوفة، فليست هناك أيّة شروطٍ نسقيّة يجب أن تتوفّر من أجل الكذب بشكلٍ ملائمٍ.

وعلى العكس من ذلك تماماً، يُشكّل فعل الكذب خرقاً جليّاً لنقطتين أساسيتين: أولاهما، خرق الشّروط التداوليّة النوعيّة، التي تعتمد أثناء الإثبات المناسب والملائم؛ وثانيهما، خرق المعايير الأخلاقيّة العامّة للصدق، التي هي أساس كلّ التفاعلات الإنسانيّة؛ غير أنّه في بعض الحالات يسمح بالكذب من الناحية الأخلاقيّة، خصوصاً في بعض الوضعيّات التواصليّة، التي يمثل فيها التكلّم بصدقٍ خرقاً لمعايير وقيم أخرى، من قبيل التأدّب والتحفّظ والتكتّم المشروع وغيرها، مثل الكذب على العدو أثناء الاستنطاق. وبهذا المعنى، لا يكون الكذب مشروعاً، إذا كان يُسيء لمصالح المتلقّي أو يضرّ بمصالح الآخرين؛ وبنفس المعنى الشّامل للشرعيّة الاجتماعيّة والسياسيّة، تنتفي مشروعيّة الكاذب – سواء كان شخصاً أو مؤسّسة – كلّما أكّد هيمنته عبر التعسّف وإساءة استعمال السّلطة مثلاً، من خلال مراقبة وسائط التواصل والخطاب العموميّ، وبالتالي الولوج العموميّ للمعرفة والمعلومات. ويتّضح، ها هنا، بأنّ مختلف هذه الوضعيّات يحتاج إلى تناولٍ دقيقٍ ومعالجةٍ تداوليّةٍ خاصّةٍ، وفقاً لطبيعة السياقات المؤطّرة لها، وهو الأمر الذي سنتوقّف عند بعض تفاصيله، بعد أنْ نبرز أهمّية صياغة البنيات اللغويّة في الإنجازات الكاذبة، باعتبارها بنياتٍ أساسيّةً، تتضمّن مجمل المؤشّرات السياقيّة، والإحالات المرجعيّة التواصليّة. 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/07/23



كتابة تعليق لموضوع : الاسد والارنب وقيادة البلاد وسراب الوعود وضبابية التصريحات
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net