صفحة الكاتب : زيد الشهيد

الإفضاء الشعري وامتلاك حرية هتك الرتابة قراءة في نص ( تحلم اللبوة ) من مجموعة (( أجلس جنب حياتي )) الشعرية للعراقية سهام جبار
زيد الشهيد
في كلمتهِ التي القاها سان جون بيرس خلال مأدبة نوبل التي نالها  في العاشر من كانون أول 1960 أكَّد أنَّ (( الشعر الحديث ينخرط ، وفاءً لوظيفته الخاصة بتعمق سر الانسان ، في مشروع ترمي سيرورته الى تحقيق تكاملية الانسان )) (1) وهو بهذا يشير الى تحالفِ الشعر مع الجمال ، من خلالِ تكاملية الانسان ، ككينونة تتماهى من أجل ادراك مصافي اللذّة المنبعثة من الدواخل وإنْ كان ما يصاحبها أو يسير بموازاتها شيءٌ من الألم .. فالإفضاء شعراً لا يأتي مستجداً ولا آنياً ، في كثير من الاحيان ، لينسكب على الورق متشكلاً قصيدة .. انه صراعُ ذاتٍ مع محيط ، ورؤيةٌ متجددة مع واقع مألوف يغدو حين النظر اليه تياراً عارماً أو شلالاً هادراً يبغي ادراك ما لم يُدرَك من قبل . انه (( فعلٌ واندفاع ، وقوةٌ وتجديد )) كل ذلك من أجل تحقيق تكاملية الانسان التي يؤكدها بيرس (2)عبر صناعة الجمال . وعند لويس بورخس الشعرٌ شيء مخبوءٌ في الكلمات ، (( وعندما يأتي القارىء المناسب تظهر الكلمات الى الحياة ))(3) وبظهورها يظهر الشعر متجلياً يتوخى تجسيد الجمال . أي انّه التمظهر بين الشعور الدفين والرغبة الملحة للظهور بصيغة من التمرد الذاتي وامتلاك الحرية القادرة على هتك الرتابة . ولعلَّ خير مَن يجسد هذه الرؤية هي قصيدة النثر التي بحد ذاتها (( نوع من التمرد والحرية )) على حدِّ قول سوزان بيرنار التي عدَّت القصيدة (( ثورة فكر ، ومظهراً من مظاهر النضال المتواصل للإنسان ضد مصيره ))(4) وهذا ما يبرر نشأتها (( من اتحاد قوتين متناقضتين : قوة فوضوية مدمرة وقوة تنظيمية فنية )) (5) . ولعلَّ نص ( تحلم اللبوة ) الذي احتوته مجموعة (( أجلس جنب حياتي )) للشاعرة سهام جبار يتحلَّى بهكذا توصيف ، من ناحية قوة تنظيميته الفنية مقرونة بقوة فوضويته . ففيه تتبارى ضمائر ( الأنا) والـ (هي) والـ (أنتِ) .. وعلى ايقاع حضور هذه الضمائر تنشأ هيكلية النص الذي تتجاوز فيه الشاعرة الرمز الذي تأتي به القصيدة التقليدية فتصنع رموزاً من دفين ذاتها مثلما يطيح بقدسية الشكل الذي تعتمده القصيدة التقليدية الكلاسيكية . فالشاعرة تقترب هنا من رؤية بيرس ومسلكه في كتابة القصيدة . بيرس الذي عمل على (( الاخلال بالتوازن بين اللغة ودلالاتها ))(6) ونادى (( بانمحاء اللغة كمؤسسة اجتماعية منظمة للعالم أمام الاندفاع الفوضوي للفظ المعبر عن الثورة الذاتية المضطربة المحطمة ))(7) .. ضمير الصوت الثالث يرسم :
بالخصومةِ تمشي ، حاجباها معقودان 
وبقتالِها يتهامسون تحلم اللبوة 
وهي تسأل أن تجد طرقاً أخرى
يقولون ما لهذهِ الطرق كثرت 
وتجدها مجموعة في سلة
يتيمة تدعو وأبواها يتناسلان منها . ص55 
اللبوةُ حيرى ، وجدت نفسَها مزروعةً على اديم التيه ، وهي التي تبحث عن مستقرٍّ لها . من اينَ لها بوصلة الوصول وهي التي تراهم ، كل ما حولها بنفس الحيرة ، يطوقونها ، بالأسئلة ، عن جدوى الوجود وماهية الهدف ؟ .. فلسفةُ التيه تنثرُ عطرَها في فضاء الغارقين في الحيرة مثلها .
كتبها سربُ مدارس وفتيات وبكاء 
مفاتيحها بالأيدي وهي في الصرّة
تتلفت عن سفر مختبئ 
وتحت عباءةٍ عقفتها عصا 
تلطمها الابواب . 
وعلى الابواب طرقها . ص55
صوتُ المرأة لوعة ، ومثلما الرجل يغرقُ في الكبرياء المزيفة أمام جبروت الزمن والحياة ليخرج طاووس منفوش الريش تتحرك المرأة وكتبها ( ايامها ، وآمالها ) سربُ مدارس تعلم الخيبة وتنتج البكاء .. إنَّ الصراع الذي خلقَ قصيدةً كهذه لمدمِّر رغم قوة فنيتها التي تشير اليها بيرنار ؛ وإنَّ الاخلال بالتوازن بين اللغة ودلالاتها الذي يرتأيه بيرس لإحداث ثورة ذاتية لتعبير احكم الشاعر صدقية شعره ، جاعلاً منه أحد مظاهر نضال  الإنسان ضد مصيره .. وتبارى صوت الأنا في تضاد القصيدة ، في جموحه النافر وإن ضمخته اللوعة .. صوت الأنا الانثى في نص الشاعرة يتلبس بثوب اللبوة فيخرج متوالية من الشكوى ؛ تيار من الألم .. صوت (الأنا) يرفض هيمنة الـ(هو) ؛ بل ويزدريه . لأن الـ (أنا) مفعم بالحلم . والأحلام تتجاوز الواقع . تُبقي اللاواقع منطقة مرفوضة .. في الحلم تجريد من العصا الملوحة عن بعد أو عن قرب .. والحلم يترجم الحرية ؛ والحرية ابجدية للانطلاق وتفكيك عُرى الهيمنة . أبجدية الـ(هو) تنشطر في توالي الشكوى فتستحيل الى (هم ) يوصدون الابواب ويغلقون عليها المنافذ بينما ( الأنا) تطرق علَّ الباب تتوارب لتغترف قبضة هواء الحرية تديم لها زمن الانعتاق .(( تلطمها الابواب // وعلى الباب طرقْها )) .
في المقطع الثاني يأخذُ ضميرُ (الأنا) وسيلة البوح وإن كان قد انبثق وانبعث في نهايات المقطع الأول .. صوت (الأنا) يأتي تضرعاً بعدما تقدم بالشكوى من الاسئلة المتهافتة التي تضيق عليه حياته ، وأغلق الابواب فحجب عنه أيما نسمة للحرية .. يجيء التضرع مغموساً بخضيب دم اللوعة بحثاً عن قلب سليم يخلو من اسئلة التشكك ويمتلىء بغيوم الطيبة بحق (الأنا ) في الحرية والعيش بأقدامه لا بأقدام القوّامين اجحافاً واستهانة واستعباد :
سيولٌ من وحدة تجرفني 
وجبلُ تسلقي منهزمٌ
يا أيكَ العالم المتشابك
خذ بأصابعي ولفَّ
ولف روحَ ضراعتي بمحفة اللين
أما من قلبٍ سليم ؟!     ص58 
ويأتي الصوت الثاني( صوت المُخاطِب) ليدخل  حومة توضيح الرؤيا . يأخذ دور العرافة التي تمسك بكف السائل عن غيبهِ .. صوت المُخاطِب هنا يُكينن المُخاطَب ( الأنا ) بوجود هو طبيعة ، مفرداتها يناعة ولوحتها انطباع لجمال (( ساقية ، صباح ، سماء باهرة ، فراشات ، صدى بحر ، زهرة تدخلين ، غابات ، رحيق ، تشع ، اللون ، السعادة )) . كل هذا شيفرة يتجلى تفكيكها عن بهاء دواخل (الأنا) .. مفردات تجافي  ( البغض ، الضغينة ، نصب الشراك ، الحسد ، النميمة ، الغِيبة ) التي تحتويها الروح ذات الطبيعة الرمادية  المجبولة على فعل الحقد يتراغى كالعصف المغبر .. والمُخاطَب هنا وفق رؤية المُخاطِب ورؤياه قلب يفيض بالحب ، وينثر امطاره طيبه في الاجواء . يأتي بالصباح ، والصباح شيفرة الصفاء والنقاء ، من الساقية . والساقية شيفرة للعطاء ومنهل يفيض بما يروي العطاشى .
في ساقية تأتين منها بالصباح 
عيناك تسحبان مرآة سماء باهرة 
من فراشات  بأرجلهن آثارُ طين هادئة 
أوراقكِ تأوي صدى بحر غائب 
من زهرةٍ تدخلين الرؤية سعيدة 
مطلقة جنحيك للتذكر ، وغاباتك للغيوم . ص59 
وينتفض ضمير (الأنا ) في المقطع الرابع والأخير .. ينتفض صوتاً انثويا يرسم خريطة الآتي ، ويعلو على هيمنة الـ(هو) .. يقول الزمن فجراً لا الوقت أمساً . فالفجر بيده والأمس خلّفه للباحثين عن مسار الـ(هو) والـ( هي) والسابرين غور صراع الـ(هو) والـ(هي) وصولاً الى الحقيقة .. لكأنَّ الـ(الأنا) الانثى تُقرَّ انتصارها ، وإن بدَت صاغرة ، على الـ( هو) ، وإنْ ، جاهر بالهيمنة . فالشبك والاتجاهات والإشارات والفجر بيدها .
الحمامةُ تصيدُ شبكاً 
السربُ يقنصُ اتجاهات
أنا مُفتَرَضة وحيّة 
أزاوج الاحياءَ بالدهور 
والكائنات العالقة بالموت السائب 
ألتمعُ بتسمية الحرية وأغرِّدُ فجراً موارباً 
أطلقُ اشاراتي الى العين السعيد . ص61 
أستعيد أنا القارىء في هذه المقطع كتناص ذاكراتي ما قالته عشتار عن نفسها (( أنا الأول وأنا الآخر . أنا البغي؛ وأنا القديسة ؛ أنا الزوجة ؛ وأنا العذراء ؛ أنا الأمُّ ؛ وأنا الابنة ؛ أنا العاقر ، وكثرهم أبنائي . أنا في عرسٍ كبير ولم أتخذ زوجاً ؛ أنا القابلة ولم أنجب أحداً . أنا سلوة اتعاب حملي ؛ أنا العروس ، وأنا العريس ، وزجي مَن أنجنبي . أنا أمُّ أبي وأخت زوجي ، وهو من نسلي )) . ورغم كل ذلك يجانبها الصوت الذكوري فيحيّدها ، ومن ثم يسعى لجعلها تابعاً . يصنع منها أداةً تلبي احتياجاته .. ورغم ذلك تعيش ، هي ، الرجاء في الانعتاق من ربقته فتروح تبحث عن طرق الخلاص  ، وأينها طرق الخلاص :
أمدُّ فراغاً ينادي في المحابر
يا طُرقي !!
إنَّ سهام جبار وهي تقدم النص دعوة لتسليط القراءة عليه انما تقدّم روحاً توخّى البوح متجاوزاً المكابدة والعناء إلى حالة جمالية وإنْ كان للمازوشية من لمسات تفشي بها الدلالات وتقرها المدلولات .. إنّ بوحَ المرأة عن معاناتها جزءٌ من تكاملية الانسان التي أشار إليها بيرس في كلمته أمام لجنة تكريمه وجموع الحاضرين .
إننا إزاء شاعرة تعي ما تريد قوله ، وبين يديها هدف انساني تبغي عرضه على المتلقي الذي لا يتوخى فقط اللذاذة من القراءة انما الحكمة ، الآيلة الى الجمال . الحكمة التي يراد لها ان تكون فحوى تجربة معاشة مرَّ الباحث عن الاستنارة لإدراكها بكلِّ تعثراتها ، وتلكؤاتها ، ومخاطرها .
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)، (2) اناباز- منفى ، سان جون بيرس ، ت علي اللواتي ، الدار العربية للكتاب 1985 ، ص131
(3) 
(4) قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا ، سوزان بيرنار ، ت: د.زهير مجيد مغامس ، دار المأمون –بغداد 1993 ، ص288 
(5) نفس المصدر، ص270 
(6)،(7) قراءة علي اللواتي كمقدمة لكتاب اناباز- منفى ، الدار العربية للكتاب 1985 ، ص6 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زيد الشهيد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/05



كتابة تعليق لموضوع : الإفضاء الشعري وامتلاك حرية هتك الرتابة قراءة في نص ( تحلم اللبوة ) من مجموعة (( أجلس جنب حياتي )) الشعرية للعراقية سهام جبار
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net