صفحة الكاتب : صالح الطائي

المدائني الراوية والموصلي المطرب ولهو الحديث
صالح الطائي

تتفق المذاهب الإسلامية على حرمة سماع الغناء، ولهم في ذلك أحاديث لا تحصى، قال محمد بن عبد الله الأندلسي (ابن العربي) في "حكام القرآن" في معنى قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين}: لهو الحديث: هو الغناء وما اتصل به، فروى الترمذي والطبري وغيرهما عن أبي أمامة الباهلي أن النبي (ص) قال: "لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن، ولا أثمانهن; وفيهن أنزل الله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ... }. ومن رواية مكحول عن أم المؤمنين عائشة، قالت: قال رسول الله (ص): "من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه".
وقال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" عن معنى لهو الحديث: "وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن". ونقل القرطبي عن أبي الفرج، قوله: وقال القفال من أصحابنا: "لا تقبل شهادة المغني والرقاص". كما أن الأجرة على الغناء محرمة أيضا، قال القرطبي: قلت: "وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز. وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك".

وقد خالف إسحاق الموصلي كل هذه الأحكام فاشتهر بجيد الغناء وأكثره طربا، وجنى من ذلك ثروة عظيمة، جعلته من أغنى أغنياء عصره، لدرجة أن راوية مشهورا مهتما بالحديث النبوي؛ مثل المدائني كان يلوذ به ليجني من خيره خيرا، ويكسب منه المال، مع أن المدائني أحد الرواة المشهورين، وقد ترك أثرا كبيرا في عالم الخلاف بين المسلمين.!

المدائني هو: علي بن محمد بن عبد الله بن أَبي سيف أبو الحسن، المعروف بالمدائني، ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومات سنة خمس وعشرين ومائتين في دار إسحاق الموصلي، لأنه كان منقطعا إليه. وهو مولى عبد الرحمن بن سمرة القرشي.
أصله من البصرة، سكن المدائن وبها لقب، ثم انتقل عنها إلى بغداد، فلم يزل بها إِلَى حين وفاته ولم يغير لقبه.
للمدائني مصنفات كثيرة، منها: تسمية المنافقين، خطب النبي عليه السلام، كتاب فتوحه، كتاب عهوده، كتاب أخبار قريش، كتاب أخبار أهل البيت، من هجاها زوجها، تاريخ الخلفاء، خطب علي وكتبه، أخبار الحجاج، أخبار الشعراء، وغيرها.
وروى عن المدائني كثيرون منهم: الزبير بن بكار وأحمد بن أبي خيثمة والخزاز والحارث بن أبي أسامة والحسن بن علي المتوكل، وغيرهم.
كان المدائني يتيه فخرا بعلاقته مع المغني (المطرب) إسحاق الموصلي، تلك العلاقة التي كان يكسب من ورائها ذهبا. ينقل الدكتور العسلي في كتابه "دراسات في تاريخ العرب" عن المؤرخ ابن الأثير صاحب كتاب (الكامل في التاريخ) في حديثه عن علاقة المدائني بالمغني إسحاق الموصلي، قوله: "وأتصل بإسحاق بن إبراهيم الموصلي اتصالا وثيقا".
وكان المدائني يفاخر بذلك، ولا يستحي منه، نقل الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن أبي خيثمة، قوله: كان أبي، ومصعب الزبيري، ويحيى بن معين، يجلسون بالعشيات على باب مصعب، فمر رجل ليلة على حمار فاره، وبزة حسنة، فسلم، وخص بمسألته يحيى بن معين، فقال له يحيى: يا أبا الحسن، إلى أين؟ قال: إلى هذا الكريم الذي يملأ كمي دنانير ودراهم، إسحاق بن إبراهيم الموصلي. فلما ولى، قال يحيى: ثقة ثقة ثقة. فسألت أبي: من هذا؟ قال: هذا المدائني".
هذا المدائني كانت له روايات مزقت شمل الأمة، وقد أخذوا بها وصدقوها على علاتها، وقالوا عنه: ثقة ثقة ثقة، في وقت نجدهم فيه يضعِّفون الكثير من كبار الرواة لمجرد أنهم من أتباع أهل البيت لا أكثر، فيقولون عن الراوي: "هو ثقة، صادق، ولكن فيه تشيع وموالاة، فلا تؤخذ روايته"!.

أما الموصلي، فهو إسحاق بن إبراهيم بن ماهان (أو ميمون) بن بهمن الموصلي التّميمي بالولاء، الأرجانيّ الأصل المعروف بابن النّديم الموصلي، نادم الرّشيد والمأمون والمُعتصم والواثق ولد عام 767م في مدينة الري.
سافر إسحاق مع أبيه إلى بغداد، وتلقى تعليمه على يد أساتذة أكفاء منهم هيثم بن بشير الكسائي الذي تتلمذ على يد أحد تلامذة والده وهو منصور زلزل، فتعلّم من هيثم الضّرب على العود، أما فنون الغناء فأخذها عن عاتكة بنت شذا، فاشتهر بالغناء والموسيقى، حتى أصبح من أشهر وأمهر المغنين والموسيقيين في العصر العباسي وبلغ أعظم منزلة عند الخلفاء العباسيين الذين عاصرهم من هارون وإلى المتوكل.
تفرّد الموصلي بالغناء وصناعته، وكان إذا ما قام بتلحين قصيدة شعر لا يجرؤ أحد من معاصريه على تلحينها مرة أخرى، لأنه كان على معرفة تامة ودقيقة بأصول الموسيقى وأسرارها ودقائقها، وقيل: إنه أول من ضبط الأوزان التي تبنى عليها مقامات الموسيقى العربية، وميز بينها بشكل لم يقدر عليها أحد من قبله.
ولأنه بلغ هذا الشأن الرفيع فقد تمكن من جمع ثروة كبيرة جعلت من المدائني وأشباهه يلوذون به، ينتظرون فتات موائده، ثم بعد ذلك، يجلسون لرواية السنة النبوية ووقائع التاريخ الإسلامي بما لا يخدش العلاقة بينهم وبين أولياء نعمتهم، حتى لو كان بهذه المرويات فرقة الأمة واختلافها، ولذا أرى أن سبب بلوانا المعاصرة إنما جاء نتيجة العلاقة الشاذة بين الراوية والمغني عبر التاريخ.!



 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/06



كتابة تعليق لموضوع : المدائني الراوية والموصلي المطرب ولهو الحديث
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net