جسداً ضئيلاً بين الجموع وقف مدهوشاً كغيره بالمرآة التي تنتصب فوق الجبل أمامهم، كل واحد منهم كان يحمل شمعة تعكس نوره الداخلي القلق، ترتجف مع أقل نسمة هواء باردة، وتبدّد القليل من الظلام الذي يلف المكان، لحظة تفكير أبعدته عن ضجيج من حوله شعر بها وكأنّه ورقة شجر في غابةٍ بشريّةٍ ضخمة، أعادوه إليه رغماً عنه بمسيرهم نحو هدفٍ واحد.. المرآة.
وسار حيث الجميع يسير، عبر ذلك الطريق الجبلي الوعر، نحو المرآة وردد ما يرددون:
- مقدّسةٌ خطواتك يا روح التحدّي الحكيمة تائهةٌ إلى ظلام القبور يا روح الانكسار.
صوتٌ بعيدٌ داخله أعاد الجملة مئات المرات على مسمع قلبه، ولكنّ عقله كعادة العقل كان يتساءل كيف ستتوه الخطوات إلى مكانٍ محدّد؟.
ارتجافة قلبه كلما سمع الجملة جعلته يوقن أنّ القلب طريق العقل وأنّ للجملة معنى لا يكاد عقله الفارغ أن يفهمه.
سار معهم لا يدري هل هو يتجاوز طريق التحدي الحكيم أم الانكسار، تقدّمه ذلك البدين محتلّاً موقع خمسة أشخاص، يمشي وكأنّه سلحفاةٌ مرهقة تحمل بيتها فوق ظهرها، وتحارب لأجل كلّ خطوةٍ للأمام، حاول تجاوزه فاصطدم برجلً آخر أمامه، التفت إليه بنظرةٍ غاضبة أضافت إلى وجهه المشوه مسحةً شيطانية، شعر بالخوف وحاول ألّا يظهر مشاعره على وجهه حتى لا يجرح إحساسه، تابع سيره وتجاهل بطء الحركة.
صوت بكائها قربه لفت نظره إليها، كانت تحمل بين يديها طفلاً مريضاً منهكاً أو ميتاً، لم يتجرأ أن يسألها، ولا حتى أن يساعدها بحمل شمعتها التي تكاد تسقط من بين يديها المتشبثتين بولدها، فهو بالكاد يجمل شمعته.
على جانبي الطريق كان هناك الكثير من المرايا المتكسرة ترسم له ولأولئك الذين يمشون معه صوراً مشوّهة، ما إن نظر في تلك المرايا حتى انطفأت شمعته، شعر بالقلق والخوف ولكنّه بقي يحدِّق في تلك المرايا محاولاً أن يكتشف حقيقة المكان الذي تاه فيه، لمح قرب السيدة الباكية شخصاً هرماً، حطام إنسان، ليس هو؟!، ولكنّ حركة كمّ سترته الذي يلوِّحه الهواء البارد جعله يدرك أنّه هو، رفع يده الوحيدة التي يملكها ويحمل بها شمعته فتحرّكت يد الهرم، لا بدّ أنّ تلك المرايا المشوّهة الداخل ترسم صوراً مشوّهة للحقيقة ، عليه ألّا ينظر إليها أبداً، فهو لا يريد أن يقيِّم نفسه بعيون الآخرين، عاد بنظره إلى المرآة الهدف فهي التي ستهبه الحقيقة كاملة، وعندما حدّق بنظره نحوها عاد النور إلى شمعته.
أدرك أنّ المثابرة في المسير على بطئه سيحلّ المسألة، توقّف الجميع أمام مرآة الحقيقة وحدّقوا بها، رأى نفسه شاباً قوياً وسيماً، والغريب أنّه كان يملك يديه الاثنتين، شمعته كانت تضيء بنورٍ عظيم، حتّى أنّ الظلام اختفى، وخُيِّل للجميع أنّهم في وضح النهار، الدفء لفّ جسده، التفت إلى من حوله، سأل البدين:
-هل تراني كما أراك؟ هل ترى نفسك؟...
لم يدعه يكمل جملته فابتسامة عريضة من الرضا كانت كافية، حتى أنّ صاحب الوجه المشوّه بدا وسيماً وبدون المرآة.
* * * * * * * *
في محطّة للحافلات كان يقف وكمّ سترته يلوّحه الهواء، يجرّ عربة حديدية لحمل الحقائب بيده الوحيدة التي يملكها، نزلت سيدة معها ثلاثة أطفال والكثير من الأمتعة، اقترب منها:
- تحتاجين مساعدة؟
نظرت إليه باستغراب وقبل أن تجيب حمل أمتعتها بخفّة ووضعها فوق العربة، كان مستعدّاً لموقف مماثل فهو لم يبدأ طريق التحدّي الحكيم حتّى يخسر، أخرج حبلاً ربط العربة بخاصرته، وحمل طفلها الذي بالكاد يمشي بيده التي أراد لها أن تتحوّل إلى أسطورة بقاء، بينما كانت هي تحمل الرضيع، ساعدها على قطع الشارع، وضع الطفل من يده في المقعد الخلفي لسيارة أجرة، وأنزل حقائبها، كان يعلم أنّ كلّ من في المحطّة يحدّق به باستغراب ولكنّ تجربته الأخيرة علّمته ألّا ينظر في عيون النّاس لأنّه قد يصادف الشفقة التي ستُدخله متاهة الانكسار، وعندما كانت تعطيه أجره رأى في عينيها الكثير من الاحترام، ولا يدري لمَ شعر أنّه يعرفها، أو أنّها تذكّره بتلك السيدة الباكية تحمل رضيعها المريض، ابتسم فهناك دوماً من يفهمه.
منذ ذلك اليوم أصبح ركّاب المحطّة يطلبونه هو بالتحديد لنقل حقائبهم، لم يكونوا يتساءلون عن الشيّال الذي بيدٍ واحدة، لم يعد هذا لقبه، كانوا يقولون:
-أين هو السيّد القويّ ليحمل أمتعتنا؟
سوريا