صفحة الكاتب : عباس البغدادي

الغرب يُكافئ "بلطجة" أردوغان
عباس البغدادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 اعتاد المراقبون على رؤية الهوّة في نهاية كل مطاف بين الادعاءات النظرية الأوروبية في "الجدّية" بالمساهمة في حلّ الأزمات الخطيرة التي تضرب منطقة الشرق الأوسط والعالم، وبين النتائج والخطوات العملية التي تفرزها القرارات والإجراءات المتبعة! وما الاتفاق التركي الأخير مع الاتحاد الأوروبي المبرم في بروكسل في 29 نوفمبر المنصرم والذي سُمّي بـ"معاهدة إعادة القبول" سوى دليل آخر على بروز تلك الهوة بين المزاعم الأوربية في محاربة الارهاب، وبين التطبيق العملي لها..!
ربما شكّل الاتفاق الأخير "صدمة" للمفرطين في التفاؤل بعد هجمات باريس الارهابية الأخيرة، بأن الأحداث قد استدعت مجدداَ وجوب "إعمال العقل" في خطط واستراتيجيات الاتحاد الأوروبي في محاربة الارهاب الداعشي، بعيداً عن المصالح السياسية الضيقة أو الإنجرار الأعمى خلف الأجندات الأميركية، وكان أمل أولئك المفرطين في التفاؤل بأن يسعى القادة الأوربيين سريعاً بعد تلك الهجمات الى وضع خطة عمل تدرج في أولوياتها تشخيص حكومات الدول الداعمة للإرهاب الهمجي العابر للقارات، وتحميلها قسطاً كبيراً من المسؤولية فيما حصل (على اقل تقدير)، ناهيك عن اتخاذ الإجراءات المناسبة لمعاقبتها (وهذا ما يكفله القانون الدولي) جرّاء تورطها الخطير في دعم الارهاب! وممّا زاد في الإفراط بذلك التفاؤل ان أصواتاً عقلانية كثيرة من مراكز قوى وشخصيات سياسية أوربية مؤثرة قد أشارت بأصابع الاتهام الى حكومات بعينها؛ بأنها تقف وراء استفحال أمر داعش ونظائره ودعمهم في الخفاء بأساليب متنوعة، وجاءت تركيا والسعودية وقطر على رأس تلك الدول الداعمة، مما رفع بدوره من سهم التوقعات لدى المتفائلين بأن "إجراءات رادعة" أوروبية ضد تلك الدول المتورطة في طريقها الى الإقرار والتنفيذ..! لكن ما حصل فيما بعد (وبسرعة غير معهودة) عبر الخطوات العملية الأوروبية، جاء ليُسفّه كل تلك التوقعات ويبدّد شحنات التفاؤل في وضع نهاية للإرهاب المتنامي! ومن ذلك ما أسفرت عنه "معاهدة إعادة القبول" المشار اليها، والمبرمة مع تركيا أردوغان!
لقد نصّ اتفاق بروكسل الأخير على تقديم 3 مليارات يورو (3.2 مليار دولار) لـ"مساعدة" اللاجئين السوريين في تركيا، "الفارين من العنف الدائر في بلادهم، والذين يحاولون الوصول إلى أوروبا في أضخم موجة هجرة تهدد وحدة الكتلة الأوروبية" حسب وصف المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أثناء إعلان نتائج الاتفاق! واختزلت الساعات الثلاث للاجتماع الأوروبي - التركي بحصول الاتحاد الأوروبي على "تعهد" تركي بوقف تدفق اللاجئين الى أوروبا، يسري مفعوله في بداية يونيو 2016، مقابل حصول تركيا على حوافز مالية (سبق ذكرها)، وأخرى سياسية تتعلق بـ"إحياء محادثات انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي"، مع تسهيل دخول الأتراك الى دول الاتحاد دون الحاجة لتأشيرات دخول ابتدءاً من أكتوبر 2016، فيما لو أوفوا بالتزاماتهم بشأن تدفق المهاجرين!
لن يحتاج المرء الى كثير عناء في التوصل الى ان ما حصل في اتفاق بروكسل المذكور لا يعدو أن يكون "مكافأة" أوروبية طال انتظارها من الجانب التركي، ولن يقتنع أحد بأن مبلغ 3 مليارات يورو ستنفقه الحكومة التركية على اللاجئين السوريين كما تزعم، أو كما يصوّر الاتفاق ذلك، لأن تفضيل هؤلاء الموت غرقاً في البحار (أثناء محاولاتهم الوصول الى غرب أوروبا) على تجرعهم المآسي وانتهاك أبسط حقوقهم الإنسانية خلال إقامتهم في نعيم "الضيافة التركية" التي يصفها أردوغان نفسه، خير دليل على عمق معاناتهم في كنف تلك "الضيافة"! أما السلطات التركية فاعتمادها الكبير منذ أوائل الأزمة السورية في مطلع 2011 بالإنفاق على اللاجئين، قائم على المساعدات الدولية المتدفقة من الأمم المتحدة، وكذلك المِنَح السخية المستمرة من الإتحاد الأوربي ودول مانحة أخرى كاليابان، وليس من ميزانية الحكومة كما تروّج لها الماكينة الدعائية الأردوغانية!
بيد ان الأشد خطورة في الأمر، هو ان هذه المكافأة للأتراك قد تزامنت (ليس صدفة بالتأكيد) مع حدثين خطيرين، الأول؛ هجمات باريس الارهابية الأخيرة، والثاني؛ حادثة إسقاط الطائرة الروسية بنيران المقاتلات التركية فوق الأراضي السورية، ومقتل أحد طياريها في 24 نوفمبر المنصرم، أي قبل 5 أيام فقط من اتفاق بروكسل المشار اليه!
ثمة إشارة تخص الحدث الأول؛ وهي ان الابتزاز التركي المستمر منذ تورط الأتراك العلني في إشعال الحريق السوري مطلع 2011 قد أتى أُكله لنظام أردوغان، فبدلاً من أن يُعتبر (بعد هجمات باريس) نظاماً مداناً بتسهيل انتقال الارهابيين، ودعم داعش بشتى السبل، ومنها لوجستياً، عبر تسهيل تدفق عشرات آلاف الارهابيين عبر الأراضي التركية، وتسهيل تجارة تهريب النفط المسروق بواسطة داعش من سوريا والعراق، وكذلك الآثار المهربة، أقدم الاتحاد الأوربي على إبرام اتفاق بروكسل مع هذا النظام المتواطئ جهاراً مع الارهاب، وجعله يفلت عبر أكثر من "ممّر آمن" من جريمة تورطه، والاتفاق الأخير شكّل قطعاً أحد هذه الممرّات الآمنة! وفيما يخص الحدث الثاني؛ فإن لغة التضامن والدعم مع الخطوة التركية الخطيرة في إسقاط الطائرة الروسية، جاءت بليغة بأسلوب "التورية" من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً وأن عدة أيام فقط تفصل اتفاق بروكسل عن حادث التصعيد مع الطرف الروسي عبر إسقاط طائرته، والتي تتفاقم تبعاتها (حتى كتابة هذه السطور)، وتنذر بتداعيات خطيرة اذا لم تطوّق سريعاً! فكأن لسان حال الأوروبيين هو الوقوف مع نظام أردوغان في هذه الأزمة، رغم ضعف المبررات التي يسوقها، وأفضل دلالة على ذلك هو تناسي الاتحاد الأوروبي لملف التورط التركي في دعم داعش ونظائره؛ بل وتقوية معنويات الحكومة التركية بتقديم 3 مليارات يورو لها (في ظل عقوبات روسية أُعلنت مؤخراً ضد تركيا ستكلفها مليارات الدولارات كما هو متوقع)، مع وعد بإلغاء شرط حصول الأتراك على تأشيرة "شينغن" لدخول دول الاتحاد، وأيضاً - وهو الأهم - تجديد فرصة "إحياء محادثات انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي" كحلم يتطلع له أردوغان ليضيفه الى مكاسبه التي يتبجح بها! وما رشح من الخطوات الأوربية الخطيرة مؤخراً، والتي تخالف الانطباعات السائدة باتجاه علاقاتها (غير الحميمة) مع نظام أردوغان، هو دعم الاتحاد الأوروبي الذي تكرّس عملياً للتمهيد لفوز حزب أردوغان في الانتخابات البرلمانية الفاصلة الأخيرة التي جرت في تركيا في الأول من نوفمبر الماضي، وذلك الدعم جاء بإطلاق تصريحات أوروبية من قادة الاتحاد الأوروبي تشيد بمستوى العلاقات مع حكومة أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية"، وان "آفاق التعاون على كل المستويات في تزايد"، وتلميحات أوربية قوية بتنشيط مباحثات انضمام تركيا للإتحاد الأوربي، كل تلك الإشارات عززت لدى الناخب التركي القناعات بأن أردوغان وحزبه هما "الأفضل" لرفع مستوى التعاون مع الإتحاد الأوربي (وعادة ما تكون هذه الجزئية بيضة القبّان في الانتخابات البرلمانية التركية)، مما أفضت هذه القناعات المتشكلة الى فوز "العدالة والتنمية" بصورة ملفتة في الانتخابات الأخيرة!
ليس خافياً - بالطبع - على الجميع عمق المؤامرة الأردوغانية التي ألقت بظلالها الثقيلة على أزمات وكوارث خطيرة في المنطقة، وجلبت الموت والدمار والخراب لأوطان عديدة لم تسلم من شرور نزعة أردوغان في تتويجه سلطاناً عثمانياً على رقعة الخلافة العثمانية المندثرة! وكان الدور التركي كارثياً في الأزمات السورية والعراقية والليبية واليمنية، وكذلك التدخلات التخريبية في الساحة المصرية إبان سقوط نظام محمد مرسي و"الإخوان" وما تلا ذلك من أوضاع! ولكن الدور الأخطر الذي استثمره نظام أردوغان هو في الملف السوري، وتوضحّ للجميع مؤخراً بأن هذا النظام يسعى جاهداً لعرقلة أية فرص حقيقية للحلّ في سوريا لا تخدم أجندته بحذافيرها! وهو يعلم جيداً بأن تلك العرقلة وتطويل أمد النزيف السوري تصب في مصلحته، لا سيّما وأن الغرب يدأب على مكافأته، كما فعل الاتحاد الأوروبي مؤخراً في اتفاق بروكسل! فما لم يستطعه نظام أردوغان إحرازه لسنوات طويلة من الغرب وأوربا عبر الدبلوماسية الناعمة، أمكنه الآن الحصول عليه بالدبلوماسية الخشنة، والمدببّة بمئات آلاف اللاجئين السوريين الذي أثقلوا كاهل الأوربيين (بتخطيط مبيّت من حكومة تركيا)، وخلقت لهم مآزق جدّية لم يتحسّبوا لها عموماً، كما اكتنفت هذه الدبلوماسية الخشنة مخاطر تمدّد الارهاب الداعشي الذي طال باريس مؤخراً بسلسلة هجمات دموية، مع وجود مخاطر جدّية هي الأخرى، بأن تطال هذه الهجمات عواصم أوروبية آمنة مماثلة لا طاقة لها بمثل هذه "الصدمات"!
ان الاندفاع الأوربي في هذه المرحلة الخطيرة في تقديم مكافأة لأردوغان ونظامه لا يمنع من ان القيادة الأوروبية (وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا) تدرك جيداً مقدرة الذئب التركي على التلاعب بأعصاب الأوروبيين في مفاصل عديدة، خصوصاً وهم يحرمونه من عضوية "نعيم" الاتحاد الأوروبي! كما يبرع في اللعب بأوراق الضغط المتاحة لديه في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة بنيران الحرائق، والمتخمة بالتحديات لجميع اللاعبين، ولن يتوقف أردوغان عن استثمار أي ظرف لصالحه، حتى وأن ورّط الجميع (بما فيهم حلفائه) بأزمات بالغة الخطورة كإسقاط الطائرة الروسية مؤخراً.
كلما تأخر حسم ملف الإرهاب الداعشي، كلما استثمر ذلك نظام أردوغان باتجاه ابتزاز كل الأطراف، وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي، بورقة اللاجئين تارة، وبأوراق لا تقل خطورة تارة أخرى، فهذا النظام استطاع أن يستغل الدعم الغربي الكبير له؛ وأن يطبخ على مدى سنوات حكمه الطويلة كل أوراق الضغط على نار هادئة، وتمكّن من إحكام قبضته الداخلية مستغلاً الصمت الغربي المشبوه في قمعه الشرس لمناوئيه في الداخل. ولم يفوّت فرصة استثمار أزمات المنطقة في دعم الاقتصاد التركي، وذلك بإغراق السوقين العراقية والسورية بالبضائع والمنتجات التركية، مستغلاً حاجة البلدين لذلك، بعد تخريب بُناهما التحتية بفعل حروب الارهاب (وحرب 2003 في العراق)، وباتت تلك العملية تدّر على تركيا مليارات الدولارات سنوياً، وانتعشت بصورة ملفتة تجارة الموانئ التركية بعد تقلّص أنشطة الموانئ السورية. ولا يمكن إغفال دور التجارة "السريّة" التي تمثلت بالتعاون مع داعش في تهريب النفط من سوريا والعراق (مثلما فضح الروس مؤخراً ذلك بمقاطع أفلام طائرات الاستطلاع الروسية فوق حدود تركيا مع سوريا والعراق)، وكذلك الآثار السورية والعراقية المنهوبة بواسطة داعش ونظائره! هذه كلها غذّت "انتعاش" الاقتصاد التركي لسنوات، وشكلّت في حدّ ذاتها مادة "نجاح" يتبجح بها نظام أردوغان.
عقب اتفاق بروكسل المبرم في 29 نوفمبر، والذي كافأ نظام أردوغان، يخرج المرء بنتيجة واحدة، هي تبدّد الثقة بالإجراءات الأوروبية (وتبعاً لها الغربية عموماً) في جدّية محاربة الإرهاب التكفيري (متمثلاً بداعش وتوائمه)، الذي أمسى يمثل تهديداً عالمياً! وهذه السياسة الأوروبية هي بالضدّ أولاً من رغبات وتطلعات الشعوب الأوروبية في العيش بسلام، بعد أن وضعت ثقتها بطبقتها السياسية الحاكمة! وبات اللاعب الأوروبي بذلك خارج دائرة الثقة في ادّعائه "الشراكة" في القضاء على الارهاب. وعدم جدّية الأوروبيين هذه تشكّل عاملاً غير مباشر في إطالة عمر الارهاب، وتُوسّع رقعة الشكوك بكامل الادعاءات الأوروبية في المساهمة بوضع "الحلول" لمعضلات وأزمات الشرق الأوسط (هذا إن سلّمنا جدلاً ببراءتهم من التورط في أكثرها)!
4/12/2015


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عباس البغدادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/12/05



كتابة تعليق لموضوع : الغرب يُكافئ "بلطجة" أردوغان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net