صفحة الكاتب : الشيخ راضي حبيب

تحليل فلسفي عرفاني حول إقدام الشهيد النمر على الإعدام بنفس مطمئنة فلسفة الخطاب الاستشهادي وإيقاظه للضمائر.
الشيخ راضي حبيب

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

نتناول في هذه المقالة أهمية مفهوم الخطاب وفلسفته الاستشهادية بصورة موجزة تناسب سعة النشر المقالي حتى لا يفوتنا من مقاصده العليا أهمها، فمفهوم الخطاب الاستشهادي يقوم على بعدين هما:
الأول: (البعد القالبي) وهو يتناول جانب الأبعاد الفنية الأدبية والبلاغية للخطاب.
الثاني: (البعد القلبي) وهو يتناول جانب الأبعاد الروحانية عند صاحب الخطاب.
وقصة النبي موسى عليه السلام هي أبرز ما يناسب هذه الفلسفة التي في متناول كلامنا حين قال تعالى في محكم كتابه حكاية عن نبيه موسى (ع): (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي). (طه: 25 - 28) .
المعنى الاصطلاحي للخطاب الاستشهادي:
ونعني بـمصطلح "الخطاب الاستشهادي" من خلال الذوق العام هو حركة الخطاب الإيماني نحو ايقاظ الضمائر واحيائها بعد موتها من خلال كشف الحقائق ، (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون).(البقرة: 72 - 73) 
انطباق الخطاب القالبي بالقلبي:
وحتى لا يكون الخطاب مفرّغ من محتواه الثوري، فمتى اتفق البعد القالبي مع البعد القلبي المطلوب ستقع النتيجة الصحيحة في تحريك الضمائر نحو فهم ماهية الحقائق فقوله: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) يشير إلى البعد القلبي المطلوب لينتج عنه البعد القالبي الحركي نحو فهم الحقائق كما ينبغي لظهورها من خلال القالب اللفظي للخطاب بدليل قوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي).
ويوجد هنا نقطة مهمة وهي أن تفعيل الخطاب الاستشهادي تختلف مراتبه في الشدة بحسب اختلاف نوعية حالة المجتمع المتلقي له وحجم القضية.
نزعة الاستشهاد في الخطاب:
نزعة الاستشهاد هي اتِّجاه فِطْريّ واستعداد نَفْسيّ لاتِّخاذ مَنْحًى مُعيَّن اِسْتِجابة لدوافِع ايمانية، بحيث تسيطر على الشعور سيطرة كاملة يتمكن فيها صاحب الخطاب من رسم واظهار قيمة الخطاب حتى لو كلفه الأمر ان يرسمه بدمائه وتقديم نفسه على المذبح بنفس مطمئنة راضية.    
أثر السلوك العرفاني على الخطاب الاستشهادي:
وحقيقة الخطاب الاستشهادي تقتضي الانتقال العرفاني من مرحلة علم البيان إلى علم العيان وحصول الفناء عن ذاته في ذات الله من خلال التخلص من الحظوظ النفسانية والتعلق بالحقوق الربانية وهو ناتج عن ازاحة الحجب عن حقيقة العوالم الانسانية السبعة المتمثلة بـ (عالم الطبع) و(عالم النفس) و(عالم العقل) و(عالم القلب) و(عالم الروح) و(عالم السر الخفي) و(عالم السر الأخفى). ووصولاً إلى مقام (سدرة المنتهى) والتشبّه بالمبدأ والتحقق بعالم الانسان الكامل حتى تصدر عنه "كلمة الله العليا" ويكون محلاً لها من حيث التأثير المطلق وسريانها في كل الوجود (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ( مريم:50).
ويكون هذا الخطاب الاستشهادي مخلد بقدر ما تكون الحقيقة المطالب بإظهارها وتحريك الضمائر نحوها لها اتصال برب العزة والجلال، وذلك من منطلق مقام التسليم المطلق لله الذي يعكس الأبعاد الروحية للخطاب. 
ثمرة الخطاب الاستشهادي:
يرتكز الخطاب الاستشهادي على "ايقاظ الضمائر" في المجتمع الانساني الميت الذي ختم الطاغوت المستبد على قلبه وسمعه وبصره، وتحريكها نحو فهم الحقائق الالهية المعتم عليها بسبب الاضطهاد أو حب الدنيا.
وأهم ثمرة يجب تحصيلها في عملية الخطاب الاستشهادي هي «رجع الصدى» المتمثل بيقظة ضمير المجتمع وهو ما تقع مسؤوليته على «المستقبل» والمتلقي في العملية الاتصالية بالخطاب الاستشهادي.
 درجة الخطاب الاستشهادي:
وأعلى درجات الخطاب الاستشهادي الفناء بالله علماً وعيناً وحقاً ففي قول النبي (صلى الله عليه وآله): «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله». وفي حديث آخر عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ حق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».
والمراد من "كلمة حق" في الحديث الشريف هو حصول (الكمال اليقيني) المترتب على اجتياز جميع مراتب اليقين (علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين).
التضحية وقود الضمائر:
أن هذا النوع من الخطاب يجب أن ينسجم مع المبدأ الالهي ويتسم بمعالجة أوضاع المجتمع، حتى لو كلف الامر تقديم النفس على المذبح ، لان التضحية من مقتضيات الخطاب الاستشهادي، بأن يتنازل الإنسان عن ذاته لدينه، وعن دنياه لأخرته فعندها سوف تتعالى هالته الروحانية بمعاني ومقاصد الاستشهاد العليا وتعمم في سماء النفوس فتنقدح لهم الحقائق وتكون وقوداً تستمد منه بقية النفوس الطاقة الثورية لكسر وتحطيم قيود النفس الأمارة، نحو حركة تغيير دواعي الشر والفساد من خلال مسيرة الاصلاح لتعميم الخير.
 سر الاعجاز في انتصار الدم:
والاعجاز هنا يتمحور بكيفية انتصار الدم على السيف، وكيفية انعكاسه الكمالي وسريانه في مطلق الوجود، وذلك عندما يظن الطواغيت بان قتل صاحب الخطاب وقطع أوداجه الاربعة وانتهاك مادة حياة الجسد بإسالة دمائه ينتهي بانتهائها كل شيء! ولكن العكس من ذلك حيث ستكون بداية الثورة الالهية ضد الظالم.
والسر هنا يتجلى في انفكاك الروح من القيد المادي، وهنا أذكر أحد مصاديق الخطاب الاستشهادي وهو الشهيد "سعيد بن جبير" أحد أصحاب الامام السجاد(ع) ذكره المؤرخ ابن الاثير قال: فلما قتُل التبس عقل الحجاج، فجعل يقول: قيودنا قيودنا ! فظنوا أنه يريد القيود ، فقطعوا رجلي سعيد  من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود.
 وكان الحجاج  إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه ، فيقول : يا عدو الله فيم قتلتني ؟ فيقول الحجاج: (ما لي  ولسعيد بن جبير! ما لي  ولسعيد بن جبير!). [الكامل في التاريخ]
ولعلّ المراد الأقرب لكلمة "قيودنا قيودنا" التي كانت وراء حقيقة إلتباس عقل الحجاج عندما رأى أن اخراج الروح المظلومة من قيدها الجسماني واطلاقها في ساحات الرضوان الالهي أعطاها التمكن على من قتلها وظلمها حقها. حيث جاء في نهج البلاغة: (يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُوم).
الامام الحسين(ع) أكمل مصداق للخطاب الاستشهادي:
وأكمل مصداق في ساحات الخطاب الاستشهادي حطم أعلى رقم قياسي هو الامام الحسين(عليه السلام) وذلك عندما أراد طاغوت زمانه يزيد اللعين إرغام الامام الحسين(ع) على بيعته فقال(ع): "مثلي لا يبايع مثلك ألا وان الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة" وانطلق ولسان حاله يقول: "إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني". وقد خطّ الامام(ع) خطابه الاستشهادي بدمائه الطاهرة وكان من أبرز ما أطلقه في خطاباته الاستشهادية في وجه الطغيان والجور مقولته(ع) المشهورة: " ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة(القتل) والذلة(المهانة) وهيهات منا الذلة" فكانت شعار مخلد وقائم إلى يوم الدين، وقد سنّ الامام الحسين(ع) هذا النوع من التوجه الخطابي في الأمة الاسلامية واجاد الشاعر بقوله:
كَذِبَ المَوْتُ فَالْحُسَيْنُ مُخَلَّدْ*** كُلَّمَا أَخْلَقَ الزَّمَانُ تَجَدَّدْ
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ راضي حبيب
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/01/10



كتابة تعليق لموضوع : تحليل فلسفي عرفاني حول إقدام الشهيد النمر على الإعدام بنفس مطمئنة فلسفة الخطاب الاستشهادي وإيقاظه للضمائر.
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net