صفحة الكاتب : د . عبير يحيي

موت بحكم الحياة
د . عبير يحيي

  صغيرة  يحكمها الحمق ، والخافق بين جنباتها يرقص طرباً ، لمحت طيفه وكأن عصا سحرية لمستني فحوّلتني من مراهقة إلى عاشقة، 

-" يا إلهي كم يشبهه! هل يُعقل أن يكون هو؟"
هذا ال (هو) نجمي المفضّل" ، تراه بقلب مراهقة ،" كلّ يوم كنت أراه بنفس المكان وبنفس التوقيت ، أنا.... فتاة ريفية  تتمتع بجمال غريب غير معهود في قريتها الصغيرة ، مدلّلة والديها ، الوالد كان حريصاً جداً على أن تتم تعليمها الجامعي لتحمل بالنهاية شهادة ذكائها المتوقّد، وتخرّجت من كلية الآداب بتقدير ممتاز ، أهّلتها للعمل بمؤسسة حكومية بمركز جيد ، 
 تلتقيه في طريقه لعمله في مؤسسة تابعة لمديرية السياحة ، مليح الوجه مرّ الحسن على قسماته فوسمه، بعد تبادل النظرات ثم الابتسامات ، فالتحيات ، كان الحسم بلقاء انتهى بأخذ موعد لزيارة أهله لطلب يدها  .....  ....
حضر مع أمه وأبيه ، أوجست خيفة من أمه التي كان من الواضح أنها تتحكَّم وتمسك بكلّ زمام حياته ، لكنّها وطّنت نفسها واثقة بقدرتها على احتوائه والاستقلال به دون أن تبخس أمّه حقّها به، فترة خطوبة شفافة ثم عرس في ربيع مزهر ..كان عرساً صعيديّ الطراز، انتهى بانتقالها إلى عِش الزوجية في قريته في الطابق الذي يعلو دار أهله، حوالي منتصف الليل ، ترامى إلى مسمعها صوت غريب ، يفيض حناناً وألماً
لم تستطع أن تحدد هل هو شخص يغني ؟ أم ينادي ؟
إحساس غريب تلبّسها أنّ الصوت يناديها !
أيقظت عريسها، تسأله عن الصوت ، أجابها وهو نصف نائم :" هو عفريت نامي الآن ".
لم تستطع النوم ، ارتدت رداءً خارجياً وتسللت ، نزلت إلى فناء المنزل تتتبّع الصوت، وصلت إلى باب الحوش، أو ما يسمى بالزريبة حيث توجد بعض الحيوانات ، استجمعت قوتها ودفعت الباب، وتسمرت .....! ...."لكني أنا ، ويا ويلي من أنا وفضولي...."
هو مخلوق غريب.....! تماسكت ، اقتربت ، أحاول الحفاظ على رباطة جأشي ، قرّبت المصباح من وجه المخلوق وهالني منظره.... !
عجوز بعيون بيضاء، وكأن القزحية عندها قد تحلّلت وذابت فاحتلّها البياض، مرّ الزمن على وجهها ويديها مخلِّفاً أخاديد شديدة الغور، واختفى لون الحياة فارّاً من جنباتها ، مخلِّفاً شحوباً بانت منه العروق خرائطَ محبّرة ، نما شعرها عقدة صوف بيضاء شعثة، أسمالها تستر القليل من جسدها النحيل الذي فقد كلّ شيء إلا من هيكل عظمي يبرز مفاصله بعنوة من وراء جلد متغضّن، استطالت أظافر اليدين  حتى شاركت أهل الكهف السبعين ، لم ترتكس لتسليط الضوء على وجهها، فهي عمياء،  أحسّت بأنفاسها المتلاحقة ، توقفت عن الغناء الشجي سألتني باستغراب ووجل:
- " من أنت؟."       أجبت بتلعثم :
- "أنا عروس أحمد يا خالة".
- "عروس أحمد ؟ لا يجب أن تبقي هنا يا ابنتي ، عليك مغادرة هذا البيت فوراً، سيفعلون بك ما فعلوه بي ".
رفعت وجهي إلى السقف فالتقت عيناي عيون القمر الوقحة ،  وهو يرسل ضوءه من السقف متسللاً ليكشف كل  الأسرار.....نعم هي عادة سيئة لديه عرف بها خصوصا بين العشاق، لم يمنع تجسسه السقف فهو سعف جريد، وسيقان ذرة .....!.
جال المصباح في أرجاء الزريبة ، بقرة  هنا ، وحمار في الزاوية  ، عنزة هناك ، وعشة فراخ ، رائحة روث الحيوانات خانقة ، سألتها بشفقة غيض:
- "من أنت يا خالة ؟"
- " عمّة أحمد، أظن أنّ عمري قد تجاوز السبعين، أقيم هنا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كنت قبلها أعيش مع أختي وأولادها، توفيت وضاق أولادها ذرعاً بي ، لم أتزوج ، قدمت إلى أخي والد أحمد ، أعطيته قطعة الأرض خاصتي وما كنت أدّخره من نقود، مقابل أن أقيم عنده ويكون لي ستراً ، لكن زوجته لم يرق لها ذلك، أجبرته على إلقائي هنا، وأشاعت بين الناس أنني توفّيت بعد أن توفّيت أختي،  لم يعلم أحد بوجودي هنا ، أذاقتني كل ألوان المهانة والحرمان، بكيت حتى ابيضّت عيناي، لم أغادر مكاني هذا منذ ثلاثين سنة  ، تتعاقب علي الفصول ، فأغرق شتاءً بالمطر المتسلل من هذا السقف المتهالك ، وأكتوي صيفاً بلهيب الشمس الحارقة ".
أصوات بالخارج ، وقع أقدام تقترب ، ويفتح الباب كاشفاً وراءه أخت أحمد وأمه ، و النار والشر والشرر تتطاير عيونهم حتى لامس أواره أثوابي فتراجعت  خائفة ،لكنني سرعان ما استعدت رباطة جأشي، تحفّزت لمواجهتهم حين أطلقت أم أحمد سؤالها كزئير الوحش :
- " ماذا تفعلين هنا ؟ المفروض أنك عروس، موقعك إلى جانب عريسك ".
 حاولت بكل جهدي أن يكون صوتي قوياً وقلت :
-" سمعت  أنيناً غريباً منعني من النوم  ، فنزلت استكشف مصدره ، ووجدت العمّة هنا، لماذا هي هنا ؟ماذا فعلت حتى استحقت هذا الحكم بالسجن المؤبد ؟".
اتسعت عينا أم أحمد حتى كادتا أن تفرّان من محجريهما ، و أخت أحمد تشيرلي من خلفهما أن اسكت ولم التفت اليه ، وصبّبت كل تركيزي على أم أحمد لامنعها من الانقضاض علي، لن تنال مني، حتى اطلقت استهلال غضبها بأول رصاصة نحوي:
- " من أنت أيتها الحمقاء حتى توجهي لي هذه الأسئلة الملفّحة بالاتهامات ؟ ليس هذا من شأنك ، كما أنه لا دخل لك بالعمّة لا من قريب ولا من بعيد، انسَي تماماً أنك رأيتها، وإلّا لن ترَي خيراً أبداً، تحركي إلى الأعلى واقبعي إلى جوار عريسك ، هذا الغبي كعادته ، نام نومه العميق ، ولم يشعر بك تتسلّلين ، تحرّكي "
 نظرت  إليها بازدراء مفتعل ، مررّت من أمامها وهي ترمقني بكل كبرياء وكأنها ترسل لي رسالة .. أن احذر غضبها ...نظرت إلى العمّة ، اقتربت منها وهمست في أذنها :"
" ألقاك غداً ..!"
- تمتمت العمة بخوف وهمست : 
-"لا تفعلي ...ارجوك.... لا تفعلي" 
في الصباح ، كان الحديث أبعد ما يكون عن حديث بين زوجين توّجا حبهما بالزواج ..وانبته بعنف بأسئلتي المحرجة :
-  " كيف تقدمون على وأد بنت دمكم هكذا ؟ - أي قلوب تحملون بين جنباتكم ؟"
 أشاح بوجهه عني وأشار بيده بملل أن أفي الموضوع وقال بلهجة محذرة :
 - " إياك أن تتدخلي بهذا الأمر ، وإلا ستفتحين عليك جبهة أمي التي لن ترحمك".
غضبت حتى صعد الدم إلى رأسي و قلت: 
-:" يبدو أن الرحمة غادرت قلوبكم جميعاً، كيف تسكتون على هذه الجريمة ؟ماذا فعلت المسكينة حتى تسجن وتُدفن هكذا ؟ ألستم بشر ، الا تخافوا الله ...؟". صرخ بغضب شديد :
 " - أمي من فعلت هذا ".
أجبته بصرخة اعلى من صرخته  : 
 -" ومن أمك حتى تفعل هذا ؟ من سيّدها على عمتك ؟ كيف سكتم عنها ؟ لماذا سايرتموها ؟ "
رد بحزم وبصوت تملأه الشفقة والرفض لفعل امه اللانساني : 
-" أمي سيّدة هذا البيت والكل يأتمر بأمرها، وعليك أنت أيضاً أن تنفذي كل ما تقوله ، وإلّا ستنغّص عليك عيشتك، لقد عزلت أبي عنها منذ حوالي ٢٠ سنة و هو لا حول له ولا قوة ، وأختي أمينة كما ترين جاهلة أمية ، تمشي وراء أمي كظلّها ، لا أظنها ستتزوّج يوماً ، ستبقى خادمة عند أمي ".
- قاطعته بانبرة استهزاء : 
-" وأنت ؟"
 رد بتسائل وكانه احس بنبرة استهزائي :
 - " ماذا تقصدين ؟ اسمعي لن أفقد صفاء حياتي بسببك ، إن غضبت أمي عليّ أحالت حياتي جحيماً ، فحذاري ."
ابته بجفاء : 
- " لكنك مشارك في جريمة ، كيف لي أن آمن على حياتي معك وقلبك راضٍ وصامت عن جريمة ارتكبت في حق رحمك ؟ سأحضر عمتك إلى هنا وأجهّز لها غرفة لائقة ، تقيم بيننا "
 صاح بوجهي كالملسوع : 
-" احذري حتى التفكير في ذلك، أبعدي الخاطر عن مخك الصغير وتعالي إلي مدلّلتي ".
 - "مدللتك ؟ لا أظنك تدللني أبداً ! من سكنت القسوة قلبه لا يتقن التدليل ." رد علي بزعل :
- " فإذن ستبقين سجينة هذا البيت ، لن تغادريه أبداً"
في نهار اليوم التالي ، بعد أن أتمّمت إعداد الغداء، نزلت إلى الحوش قاصدة العمة بطبق طعام ، ولكن سرعان ما فاجأتني الحماة، وأخذت من يدي الطعام ، أتت عليه خلال دقائق، وا نا ارمقها باحتقار وازدراء و غادرت راكضة إلى الطابق العلوي لأشتكي لعريسي ما كان من أمر أمّه المتسلطة ، فما كان منه  مباغتتي بالضرب الشديد حتى ظهرت آثاره فيما بعد كدمات تماهت ألوانها بين البنفسجي والأصفر ، وقفل الباب خلفه و غادر  وأنا حبيسة الى الآن ...!
فأعلنت إضراباً عن الطعام ليكتمل معنى السجن والسجان والسجين ......
استمرت العمة السجينة كل يوم ترسل صوتها بعبارة :
- " اهربي ، وإلا ستكونين الضحية التالية ، اهربي ".
ومضى على إضرابي عن الطعام وسجني حوالي عشرة أيام ، وكان قراري الهروب ....
من نافذة صغيرة لكي أبدأ مشوار حريتي ... ألقيت بجسدي الناحل على كرسي أسقطته عمداً على سقف مجاور، ولكني أخطأت التقدير فكان السقوط عنيفاً  ، أخذني نحو دهليز مظلم يقود الى مكان غريب كالقاعة إلى قاعه و يد حانية تمسح رأسي وتتبتّل إلى الله بدعوات بالشفاء العاجل ، أظن أني شمّمت رائحة الجنّة...لم أدرك كم بقيت فيه،  أفقت مرة أخرى لأجد وجهاً محببّاً يناديني  
-:" أيتها الشقية ، هيا استفيقي كفاك نوماً لقد نمت كأهل الكهف ".
 وجه أخي المتوهّج كالبدر في الظلام ، رأيت فيه خلاصاً من ظلمة أحاطت بي طويلاً ...
وهي جلسة أخيرة مع غلطة عمري يفاوضني على الطلاق مقابل مصوغاتي الذهبية.... ! 
غادرت ،  و نظري يتفحص قمامة بشرية وقدماي تنقلني دون أن أحس نحوها ، وسمعتها تقول : 
-" اذهبي يا ابنتي، حياتك غالية ، واتركيني انتظرهم في قبري فحسابهم عسير  ".

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبير يحيي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/02/01



كتابة تعليق لموضوع : موت بحكم الحياة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net