صفحة الكاتب : عيسى عبد الملك

وللأقدار لعبة... { فصل من رواية لم تكتمل بعد}
عيسى عبد الملك

 

رن جرس الشقة الصغيرة الانيقة في الطابق الثامن من عمارة ملي في شارع فكرت أميروف، حيث يتربع أمامها بمهابة، تمثال كبير لهذا الموسيقار الأذري، يتوسط جزرة وسطية على شكل حديقة رائعة التنسيق .انه هو لا غيره .هذا السائق الأذري الودود الكهل .انا اضبط من ساعة بك بن .لا احترم أولئك الذين لا يحترمون الزمن، الزمن حياة .عفوا لا اقصدك يا صديقي ، اقصد الناس والشعوب والامم . فقط اولئك الذين يعطون الزمن حقه تقدموا، وبقي الثرثارون والكسالى في الخلف ينتظرون معجزة . يراوحون في مكانهم كجنود عديمي الانضباط ياصديقي .لكني ارى انك تحترم الزمن، قال لي السائق كمال الاذري، وهذا اسمه الذي سيرافقني في هذه الرواية ، وعندما سألته كيف عرفت ؟ قال انك تحمل ساعة يد ودفتر ملاحظات وقلما وآلة تصوير .في السابعة صباحاً ، اقرع جرس العمارة مرتين , وأذهب . في الثامنة أقرع الجرس مرتين ايضا تكون انت قد تهيأت للخروج .فعلى السائح ان يحسب حساب الدقائق .إذن عليّ ألّا اخيّب ظنه.يرن جرس الشقة .استيقظ واتهيأ وأنتظرغير كثير . هو يوقف سيارته عند المنعطف حيث حانوت صاحبه الاذري الكهل الذي كان ذات يوم معه في فصيل واحد ايام الشباب وخدمة الوطن،كما قال. منهاج حفظته كواجب مدرسي .هذا أول يوم. نهضت .سويت فراشي .سرت في الممر المفروش نحو المغاسل والحمام. أخذت دوشا بعد أن حلقت لحيتي.القيت نظرة على المرآة فطمأنتني : تستطيع أن تخرج للناس بهذا الوجه الذي لا يشبه وجه أحد في باكو . عدت. على نار هادئة كنت قد تركت ابريق الشاي .سكبت الماء الحار على كيسين من شاي نبتون تركت خيطيهما خارج القدح .وضعت قطعتي سكر.رحت أذوبهما .من علبة اخذت قطعة جبن ومن علبة أخرى قليلا من مربى المشمش وقطعة خبز أذري من سلة خبز. عيناي لا تفارقان التلفاز .مازال لدي ربع ساعة. لم يقرع كمال الجرس .اخترت قميصا ابيضا بنصف ردن وبنطلونا أزرقاً وحذاء خفيفاً يشبه الخف .ولأني أحب العطر كثيراً، تعطرت بعطر دهن العود .في غرفتي وعلى شاشة التلفاز راحت مغنية أذرية رائعة الجمال تغني .كانت أغنية باللغة التركية التي لا اتقنها لكنّ اللحن أعجبني . سرحت مع الأغنية وجمال المغنية الأذرية .أيقظتني رنة جرس الشقة .أطفأت التلفاز على مضض وخرجت .القى كمال علي ّ تحية الصباح بوجه بشوش ثم تفحص باب الشقة .تأكد من قفله .، ثم قال بلغة عربية :توكل! وتوكلت .كمال يخلط في الكلام بين الروسية والتركية والانكليزية والاذرية والعربية مستعيناّ بالاشارات يحاول جاهدا أن يوصل الفكرة . راحت سيارة المرسيدس ،الحديثة الجميلة، تصعد بانسياب مريح، كأنها تسير على بساط من حشيش . لاحفر ،لا مطبات ولاعوارض كونكريت ونقاط تفتيش .لا نقاط عسكريةولا عسكريون ملثمون يحدقون في وجهك بارتياب فتشعر بامتعاض من اجراء لا مبرر له .أنا مندهش، تماما كطفل يشهد منظرا بهيجاً لأول مرة ،مدينة العاب مثلا . ورود على امتداد الشارع تتفيأ اشجارا عالية منسقة بشكل هندسي .الناس ببطء يسيرون. ترتسم على وجوههم علامات رضى واضح .شاب وشابة يمشيان، يطوق أحدهما خصر الآخر بحنان، بشكل يتقارب الرأسان فيه يتمايلان على الرصيف .كلما صعدنا، كلما شممنا رائحة البحر واقتربت اصوات اولئك الذين سبقونا الى ساحل البحر، حيث يزدحم السائحون من شتى الأقطار.راح هواء ساحلي رطب بارد منعش، يلفع وجهي من خلال نافذة المرسيس.هواء نقي خال من التلوث .حرصت على ان أملأ رئتي منه قدر المستطاع .افتح منخري العريضين عن آخرهما ثمّ اطلق زفيرا ملوثا تراكم في القصبات الهوائية كي تنظف. صوت مغنية هاديء رخيم يبعثه الراديو . كمال في انسجام تام مع الأغنية الاذرية انا بين لحظة وأخرى تنفلت مني كلمات هي تعبير عن ألم دفين .يسمعها السائق الأذري الكهل الذي ربما ظن أن بي لوثة عقلية . انا استمع لكلمات السائق وهو يحدثني باعتزاز عن بلاده .كان يشرح كدليل سواح .هذا الشارع اسمه ..وهذه الساحة اسمها.. وهذا المجمع السكني اسمه: كل اسماء الشوارع والساحات ومجاميع السكن، نسميها باسماء الشعراء والأدباء والفنانين ومن خدموا البلاد . من حقهم علينا . لم أكن أصغي، كنت لا أفهم ثلثي كلامه. ولكي يفهمني ، كان يستعين بيديه لتوضيح مايريد الكلام عنه .كان يؤلمي حديثه . يذكرني ببؤس الفنانين والأدباء وذوي الفكر عندنا وبالذين دفنوا في مقابر الغرباء. ولأني لم ارد ان اخذله. رحت اتظاهر بالاهتمام بحديثه . كان في منتهى الطيبة ،حريصا على ادخال البهجة الى قلبي المتخم بالحزن .أردت أن لا أحرم من مشاهدة معالم جمال المدينة.كنت استمتع مبهورا بما أرى . كمال، وهذا اسمه، يجهد أن يريني اجمل الاشياء في اقصر وقت تحدده اقامتي كسائح . في الليل: افكر كثيرا في وضع برنامج اليوم التالي قال لي كمال مرة .قريبا خلف هذه التلال يوجد البحر الذي يعج بالسائحين عادة في مثل هذا الوقت،
ـــ الجو جميل يشجع على السباحة ، ما رأيك في السباحة و رؤية حوريات البحر في بحر الخزر ؟ بعد قليل سترى الحوريات يسبحن. ، قال كمال وغمز بعينه.راقت لي الفكرة ، فليس أجمل من السباحة في نهر أو بحر .كان كهلا مثلي ولكن عركته التجارب . بضعة بيوت في ضيعة تثير الاعجاب برزت أمامنا .فجأة انحرف عن الشارع قرب الرصيف أمام حانوت صغيرمنسق بعناية ، ركن كمال سيارة المرسيدس الصغيرة الانيقة . راح يمازح البائعة الشابة فبدت أكثر مرحاً منه.لفت نظرها الي .رفعت يدها ملوحة بالتحية.رفعت يدي . وبخفة شاب عاد ومعه علبتي عصير باردتين .
ـــ يعجبك البحر ؟
ـــ كثيرا . 
ـــ بعد قليل نصل اليه هيء نفسك فالناس لا يسبحون ببنطلون ههههه.
ومن اقرب حانوت، اشتريت كسوة سباحة .كانت سوداء بخيوط بيضاء تماما كتلك التي سبحت بها في البحر الابيض المتوسط والاسود وبحر البلطيق قبل ظهور الشيب قبل عقود. لماذا هذا اللون وهناك الوان زاهية كثيرة؟ .أهو الحنين دائما الى الماضي الذي يسكنني ، حكم السن والوقار، أم لون حياتنا في العراق ، لون الأكفان وأثواب الحداد ورايات الشوارع حتى في الأعياد ؟ أم لون سيارات المسؤولين المظللة،لون نظارات أفراد الحمايات النزقين ربما وربما زي المليشيات المرعب للنساء والاطفال وكل المدينة . لون لم نعد نعرف غيره . لم ارد على سؤال السائق كمال الذي اختار لي كسوة سباحة ملونة شبابية تجلب السائحات كما قال مازحا.. لماذا الاسود ؟ سألني بوجوم .ألفناه يا صديقي ، أجبت.
من اول نظرة، بهرني البحر.أثار فيّ مشاعر، بدت وكأنها محرك سيارة عاطل اعيد تصليحه .سمعت دقات قلبي تضرب بعنف على داخل القفص الصدري .يا لروعة البحر وهيبته .شيء من الطاقة الحبيسة من عقود استيقظ .
ــ بم تأمرني؟ 
ـــ عد لي عند الرابعة ياكمال. 
منذ عقود اربعة لم تطأ قدماي رمال شاطيء بحر ولم اسبح به. ومنذ صغري لم اسبح بنهر، فالنهر الوحيد ملوث بدهان البواخر التي تمخر فيه على مدار الساعة.النهرمحاط بسياج عال على امتداد كيلومترات. للسياج بوابات يقف عندها رجال مدججون بالسلاح ، يفتشون الداخلين والخارجين من الميناء المتخمة بواخره بانواع البضائع. يدققون في هوياتهم.لم يأخذ كمال علبة العصير. 
.ـــ تبرع بها لسائحة عطشى شرط ان تكون جميلة ، هكذا يتعارف الناس ،علبة عصير أو سيجارة . قال كمال مازحا ثم ودعني .كان شاطيء البحر غاصّاً بالسائحين .لم يكن مهجورا كئيباً كما رأيته في الشتاء في زيارة لهذه البلاد.لم اكن أحمل سوى كسوة السباحة وعلبتي العصير ونقال استخدمه في التقاط الصور .لم أكن أنوي السباحة في بحر قزوين ذلك اليوم . كانت الزيارة ضمن المنهاج مؤجلة التنفيذ، لكن كمال زيّن لي ذلك وكعادتي في اتخاذ بعض القرارات دون دراسة، كما حدث حينما زرت هذه البلاد في الشتاء وعرقل البرد والامطار حرية حركتي وفوت علي فرص المتعة فعدت مرغما . رضخت لاقتراح كمال . كانت الساعة هي العاشرة صباحا إذ استغرق وقت قطع المسافة ساعة كاملة. تعمد كمال ان يطيل مسافة الطريق، كي يريني معالم الجمال في مدينته التي يحبها كأمه كما قال . بدت لي المظلات على الشاطيء عصيّة على العدّ .تحتها استظلّ سواح من بلدان عدة .مظلة ملونة عريضة مثبتة على عمود متين مغروس بالرمال بدت معزولة عن الضجيج ومرح السابحين . تحتها تمددت عجوز عليها مسحة من جمال آفل تتصفح كتابا انيقا على غلافه رسم عاشقين في حالة عناق .. كان وجودي قد جلب انتباهها .كنت وحيداأحمل كسوة سباحة بيدي يكشف عنها كيس من النايلون الشفاف ..كان قربها مكان فارغ يسع شخصا واحدا لا غير .فهمت ما أريد فأشارت اليه .برزت لي مشكلة .ليس لدي ما أفرشه.ابتسمت العجوز ومن سلة قربها سحبت منشفتين لم تستعملان .واحدة كبيرة كتلك التي افترشتها وواحدة صغيرة بطول مترين وعرض متر .شكرتها.ابتسمت العجوز ثم ّ اشارت الى البحر حيث السابحين .ادركت حراجة موقفي .أشارت الى المنشفة الكبيرة ان اجعلها سداًواخلع بنطلونك واغمضت عينيها مازحة .لبست سروال السباحة .كومت قميصي والبنطلون فوق المنشفة الصغير وفوقهما ساعتي وجهاز النقال .أخذت العجوز المنشفة الكبيرة وفرشتها قربها .أومأت الي ان انطلق ..انطلقت بتمهل نحو البحر .لامست قدماي الرمال الناعمة .خوف مفاجيء اجتاحني .منذ عقود لم اسبح في بحر، ماذا لو تشنجت قدماي ؟ لوحت سابحة بيدها ان تعال .شجعتني الاشارة بل جذبتني .انغمست في البحربطريقة لفتت انتباه السابحة فصاحت برافو ! بدأت دوريات الانقاذ تحث السابحين غلى الخروج محذرة من ارتفاع موجات البحر.اسرع الى الخروج .تمددت قرب العجوز التي بدت ودودة .ناولتها علبة العصير ضاربا بعرض الحائط وصية السائق كمال .شكرتني العجوز.ومن سلة قربها أخرجت لفة سندويج وبضع حبات من المشمش .رجتني أن اقبلها.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عيسى عبد الملك
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/03/06



كتابة تعليق لموضوع : وللأقدار لعبة... { فصل من رواية لم تكتمل بعد}
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net