صفحة الكاتب : صبحة بغورة

عندما يبكي الوطـن
صبحة بغورة

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رجع بقطيعه وقد أتى المساء عليه ، هبت نسائم الليل الأولى ، سار وراء قطيعه و زواحف الحيرة تتبع خطواته البطيئة ، يمشي ألهوينا و هو لا يدري على أي دروب الاغتراب سيلاقيه الموت ، أصبح يشعر بغربة مريرة في وطن تفوح منه رائحة الدم والنار ، دخل غرفته وتمدد مستسلما للنوم فبعد يوم شاق يكون التعب قد نال منه ، توسلت إليه ابنته أن يحكي لها حكاية رائعة و يحلق بها في عوالمها المدهشة ، خارج البيت الأرض ارتوت من سخاء المطر وعلى جنبات البيت أزهرت زهورا برية معلنة عن قرب بداية الربيع ، كان أهل القرية  يسعدون كثيرا لهذا ، محمد لا يعرف اليأس أبدا لكن مع أوجاع الوطن أصبح رجلا أتعبه الانتظار يخاف من أن يكبر و يشب أطفاله و تكبر معهم حيرتهم و ألامهم معا ، نهض مبكرا كعادته وأخرج قطيعه  و قد تيمه الشوق بين الأضلاع فرحا و طربا ،انحنى للحظة  بكل المحبة للذين ودعهم ذات يوم وكان مجبرا على وداعهم وفي قرارة نفسه نار متوهجة وكم تمنى أن تخرج هذه النار و تحرق هذا الإخطبوط  العملاق الذي احتضن بلاده وأهله وعشيرته الذين لا يزالون يتقافزون في نبض القلب و في الذاكرة حريق وحدته محبته لهم ، ليست مجردة تقع خارج الزمان و المكان ولأن تكون مشعة يجب أن تكون فعلا و بين الكلمة والفعل مسافة الألف ميل، سار ولم يشعر بالرياح التي كانت تلعب بأسماله البالية وبالحجارة التي تصطدم بحذائه المرقع ، فيسأل نفسه هل حقا وراء البحار حياة كريمة ؟ لن يتراجع في مشقة السفر الطويل و عبور البحار أو يتردد حتى وان وقع في شباك حراس الحدود و الموانئ ، إنها شباك منصوبة في حافة الأقدار التي تحتل فوهات بنادقهم الصدئة المعبأة بالبارود بعد أن جرى تبرير القتل الذي لا يغير في حقيقته شيئا، في قريته يمارس بالليل القتل بنوعيه القتل بكل أشكاله و أنواعه وهو يعلم انه لا يوجد في معتقدات مجتمعه سوى حقيقة واحدة لا خلاف عليها هي حقيقة الموت ، توقف بقطيعه ليشرب من ماء النهر الحزين ليروي عطشه أما هو فلن يروي ضماه إلا دماء من دمروا وطنه و شردوا شعبه ، توقف متأملا لحظات ثم مزق قناع الصمت بالحديث مع نفسه ، إن نهر بلادي لا يجري بدماء الأبرياء و حجارته من جماجم الضحايا، انه مثل طائر منفي إلى الموت ، هو خياره  أن يموت في صقيع وطنه أفضل من أن يموت راحلا ، انه يرفض الانسلاخ عن وطنه ليعيش بلا وطن و يموت بلا وطن، كثير من الطيور ترى أن عدم وجود وطن يحرمها نعمة كبيرة وهم يسمون بروحهم فلا يعنيهم في أي شقوق الأرض يوارون ما تبقى منهم ، دموع ، آهات ، غربة ، رحيل ، شيء ما ينظم كل هذه المعاني في عقد لامتناهي من الحبات قد تنفرط منه حبة، وقد تنتظم فيه حبة ، انه العقد الممتد مابين لظى الصيف وقر ليالي الشتاء الباردة الكئيبة المخيفة  التفت فأبصر بستانا لا يزال صامدا رغم السنين القاحلة التي مرت عليه ، هذا البستان كان بالأمس كالعروس ليلة زفافها أما اليوم أصبح مثل أرملة في ثوب الأحزان يملؤه نعيق الغربان توجه إلى مكانه المعتاد وجلس على صخرة ، انه يفضل الموت دونما أي صوت يصدره، لا يحب توسل الرحمة والشفقة من قاتله ، يقابل الموت وهو يسبح في فضاء المجهول حاملا الألم في قلبه وبين أجنحته مثل طائر أعياه الترحال ، لكنه يقاوم حتى لا تنتهي الرحلة ويموت غريبا طريدا .
ودعت الشمس السماء ورحلت وودع محمد مكانه وعاد إلى قريته فظهر له سكانها من بعيد ، البعض منهم كالحشرات الجائعة التي تبحث عن الطعام ، والبعض الآخر جالسين مستندين إلى الجدار محملقين في السماء و كأنهم يطلبون منها الرحمة ، ألقى عليهم السلام ومضى مسرعا إلى كوخه ، لقد نفض غبار الجبن عن نفسه وعزم الليلة أن يحمل بدل العصا سلاحا ، وأن يصبح بدل الراعي المدافع عن وطنه،  ترجته أمه فهو الوحيد الذي تركه لها الموت ويريد أن يذهب إليه بنفسه ، مات أخوه العسكري في تفجير ثكنة، ووالده بسبب رفضه المنطق المغلوط لقد أعطينا البلاد حقها، رد عليها بل لا تزال تحتاج إلينا ولن نبخل عليها بأرواحنا و بكل ما نملك ، أنه اليوم قرر و لن يتراجع أبدا فالموت يلاحقهم إلى بيوتهم فلماذا لا نواجهه في بيته ؟ الموت بشرف أرحم ، البلد أصبحت مليئة بالتائهين و الغرباء و المسافرين الذي أنهكهم الرحيل والضائعين عن ذويهم و الجائعين و الذين يبحثون عن لقمة العيش و المتخلفين و المارقين و ممن لا يرتاح لهم بال أو يهنأ لهم عيش إلا إذا ساءت الأحوال بتحطيم الشباب و تدمير الاقتصاد وضياع البلاد ، لا أريد أن تنتهي بنا أحلامنا في هاوية جهنم كل ما نأمله العيش سعداء تغمرنا الفرحة مع من نحبهم الذين نتمنى أن لا تنتهي تلك اللحظات معهم ، مللنا وخزات الألم المتتالية والفراق الذي ليس له حد ومن الرحيل عندما يأتي في المشهد الأخير فيهز الروح ويغمرها بالتعاسة و الآلام ويذيقها طعم المرارة الحقيقية ، لا شيء يجيبه إلا رجع الصدى ، إنها نفس استقوت من عباب بحر وهي تمخره  بشجاعة  ، توقفت والدته عن طرح الأسئلة المتعبة خشية أن يتحول العالم كله إلى سؤال أحمق كبير فقد غلبها برده و الكل يرى حياته مجرد علامة استفهام غير منتهية ، في لحظة حاسمة أحس برغبة ملحة تدعوه للخروج من دائرة الضياع ومن ظلال الأسئلة التائهة ،أحس بشيء يتصارع بداخله أشبه بقنبلة موقوتة حان انفجارها، انفجار مجنون يدمر كل شعوره باليأس و الغبن ، خرج ولم يعد ، مضت أيام و شهور و لا يعلم احد في أي معسكر موجود ، اغتيالات و انفجارات بين ظالم ومظلوم ، كان عسكريا منضبطا في مجموعته كانوا يلحقون بالمجرمين الهزائم بأوكارهم ،وكانوا هم يهزمونهم في أهلهم وبيوتهم ، لكنه لم ييأس وواصل حتى ينقشع الغيم على مصابهم، مرت سنين الجمر و الدمار ، خرجت الشمس من المعتقل ورحلت الغربان والنسور إلى جحيمها الأبدي فابتهج الكون وخرج المعذبون يتنفسون هواء فيه حرية ، رجع محمد إلى بيته و هو يتصفح وجوه المارة عله يجد أهله بينهم وفجأة سمع صوتا يناديه فالتفت فإذا بأمه تسرع نحوه و تعانقه و هو يذرف دمعا على زوجته و بنته اللتان ذبحا في ميدان القرية و ترك الموت له أمه التي كانت بدعواتها تراعيه.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صبحة بغورة
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/03/07



كتابة تعليق لموضوع : عندما يبكي الوطـن
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net