صفحة الكاتب : عمار يوسف المطلبي

محمّد باقر الصدر
عمار يوسف المطلبي

 كنتُ صغيراً ، في مُقتبلِ العمر ، حين رأيتُه . كانتْ تلكَ هي المرّة الأولى و الأخيرة التي أراهُ فيها . في مسجدٍ قديمٍ لمْ أعد أذكر اسمهُ وقفتُ أنا و صديقي الشهيد حميد عبد الحسين نصلّي خلفهُ صلاتي الظهر و العصر. 

   إذاً هذا هو الإمام محمّد باقر الصّدر !   
وجدتني أتقدّمُ نحوهُ ، بعد أن انتهى من التسبيح ، و أجلسُ بين يديه . كان سؤالي ساذجاً ، لابدّ ، لكنّهُ انحنى نحوي يهمس لي بالجواب!
أما و قد مضت الأيّام و السنون، فإنّ ابتسامتهُ التي تشعّ رضاً وطمأنينةَ، و صوتهُ المليء بالحنان ، لن يفارقا ذاكرتي ما حييت. و مددتُ يدي الصغيرة إلى تلك اليد الحبيبة الطاهرة ، وانحنيتُ أريدُ تقبيلها ، فسحبها و وضعها على كتفي ، و شفتاهُ تلهجان بالمحبّة و الدعاء!
في تلك المنطقة النائية في جنوب العراق ، تقعُ ( المشرّح )على آخر فرعٍ لنهر دجلة و هو يمضي نحو وجهتهِ النهائيّة : الهور .
و هناكَ سمعتُ أوّل مرّة باسم محمّد باقر الصدر ، و رأيتُ كتبَهُ في مكتبة المسجد ، ثمّ اتّخذتُهُ مرجِعاً ، تأثّراً بمَنْ حولي من الشباب.
وَوجدتني يوماً أكتبُ لهُ رسالةً أسألهُ فيها أسئلةً في الفقه ، و سؤالاً عن حزب البعث!!
تلقّيتُ أوّل صفعة في حياتي من أحد البعثيّين في المدرسة ، و لأنّي كنتُ صغيراً و لا أستطيعُ ردّها ، فقد كتبتُ أسألُ الإمام الشهيد هذا السؤال: هل حزب البعث حزب كافر ؟!!
و حين قصصتُ قصّة رسالتي في المسجد ، أسرع بي أحدهم إلى دائرة البريد ، لنلحق بالرسالة قبل أن تقع الكارثة !
كان موظّف البريد متديّناً مسكوناً بكره حزب البعث ، و كان يعدّ الأيّام لا الشهور لسقوط الحكومة ، و كثيراً ما كان يستعينُ بالروايات التاريخيّة كي يثبتَ أنّ تلك الحكومة ستسقطُ بعد أسبوعٍ أو أسبوعين، و سرعان ما أعاد الرسالة إلى يدي ، وهو يقول: حزب البعث كافر ، و الأمر لا يحتاج إلى سؤال ، ثمّ أعطاني ورقةً أخرى ، لأكتبَ بقيّة أسئلتي ثانيةً ، من دون ذلك السؤال !
كان إيماني بريئاً لا يعكّره شيء ، حتّى إذا كبرتُ ألفيتني بعيداً عن تلك الجنّة المفقودة ، أعيشُ في بغداد ، و عقلي لا يكادُ يهدأ من كثرة الأسئلة !
كان الشكّ يفترسني، و باتت الصلاةُ بالنسبة لي عذاباً ، فالصلاةُ ، في آخر الأمر ، سلامٌ و تسليم ، فكيف بِمَنْ يتمرّدُ عقلُهُ على سكون النفس الذي هو الأساسُ في كلّ إيمان ؟!
كانت الفلسفةُ هي مَن فتح باب الجحيم ، و كنتُ قد غرقتُ في لجّتها ، حتّى أنّي قرأتُ كتاباً في الفلسفة مترجماً في الطريق من بغداد إلى ميسان!
كان إيماني يعني قريتي التي أحبّها ، و أصدقائي الذين عشتُ معهم ، و أبي التقيّ حافظ القرآن ، فيمكنكَ و الحال هذه ، أن تتخيّل قلقي و ألمي و رعبي من فكرة أن أجد نفسي مطروداً من ذلك الفردوس !
و كنتُ أقرأُ ما أراهُ ردّاً على أسئلتي و شكوكي، فتتعاظمُ حيرتي ، فكأنّي كنتُ ألقي بالحطبِ إلى نارٍ لا تهدأُ لحظةً من اللحظات !
كانت تلك الكتب مبنيّةً على المنطق و ما يُسمّى بعلم الكلام ، فهي أشبهُ بمعادلاتٍ رياضيّةٍ لا تُفضي بكَ إلى إلهٍ حيّ ، بل إله مُبَرهَنٍ عليه!!!
خُذ ما يُسمّى ببطلان التسلسل، و غير ذلك من الأدلّة، فإنّكَ ستجدُ نفسَكَ داخلاً في تجريدٍ عقليّ، يسلبكَ تلكَ العاطفة المتوهجة ، حين تقرأ القرآن !
أو تلكَ الكتب التي تُناقشُ أزليّة المادّة أو حدوثها، في حين أنّا لا نستطيعُ أن نتخيّل الأزل بعقولنا ، أو نفهمه !
أكانَ عليّ أن أتعذّبَ ذلكَ العذاب كلّه ، حتّى أتذكّرَ أنّ ثمّةَ كتاباً كتبهُ الإمام المفكّر الذي صلّيتُ خلفهُ صغيراً ذاتَ يوم ؟!
و لم يكن الأمرُ أنّي نسيتُهُ ، و لكنّي كنتُ لا أجرؤ على قراءته !!!
لقد وقع في ظنّي أنّ فهم ذلك الكتاب يحتاج وسيطاً ، فالكتاب أصعبُ مِن أنْ أقرأهُ أنا !!!
و لكنّ لفحةَ الشكّ تحرقني كلّ يوم ، و لكنّ حزني على تلك الجنّة التي أكادُ أُطرَدُ منها أكبرُ من كلّ خوف !
و هكذا وجدتني أبدأُ بقراءة كتاب ( فلسفتنا ) ، أنا الذي كنتُ أتخيّلُ أنّي لن أقرأهُ وحدي !
في حديقة البيت ، أفرشُ البساط ، و أفتحُ الكتاب فلا أغلقهُ إلا حين أُنادى لتناول الطعام .
و أمضي في القراءة ، و يوماً إثرَ يوم تتبدّدُ غيوم الشكّ التي تكادُ تخنقني ، و يبدأُ عقلي بالاسترخاء !!
المنهجُ مختلفٌ هنا ، فهو لا يُقدّمُ لكَ البديلَ على طبق التجريد ، بل هو ينقضُ بهدوءٍ و ثقةٍ و علمٍ كلّ ذلكَ البناء الفلسفيّ المعقّد الذي يُرادُ لهُ أنْ يبدو مُطلقاً و قاطعاً و عصيّاً على النقاش !
كانت الشكوكُ تتهاوى ، و كان الإلهُ يعودُ ثانيةً ، لا إله الفلسفة المُجرّد ، بل ذلك الربّ الذي كنتُ أراهُ كلّما تطلّعتُ إلى سماء قريتنا الملأى بالنجوم ، الربّ الذي أراهُ حين كان أبي يوقظني قبل صلاة الفجر، و يمضي بي في العتمة الحانيةِ نحو المسجد الذي ينتظره ، و حين كان يتهدّج صوتُهُ ، و يختنق بدموعه وهو يناجيه بِ( يا صاحبي في شدّتي ) ، الربّ الذي كنتُ أراهُ في زرقة ماء النهر ، أو في وجوه القرويّين البسطاء حين كانوا يحلّون علينا ضيوفاً ، الربّ الذي تقول له شكراً بعد أن تنتهي من طعامك ، لأنّ يدَهُ هي التي أطعمتكَ ، و الذي تقولُ له إنّي مريض إذا مرضت !!!
هكذا أعادني كتاب ( فلسفتنا ) إلى تلكَ الطمأنينة التي افتَقَدتُها ، حتّى إذا عدتُ ذاتَ ظهيرةٍ ، في يومٍ قائظٍ ، إلى البيت ، تجلّتْ لي الحقيقةُ كَشفاً لا يُعبّرُ عنهُ كلام !!
و رأيتُ هذا الكون الهائل ، تلكَ النجوم التي لا عدّ لها و الكواكب المتناثرة و المجرّات ، مجرّد أحجارٍ مرميّةٍ في الفراغ ، و ليسَ ثمّةَ غير (( الله )) مَنْ يجعلَ كونَنا الحجريّ ينطقُ بالجمالِ و الحياة !!!
و أنتَ أيّها الإمامُ الشهيد ، يا مَنْ أعدتَ لي الطمأنينة و راحة البال ، دعني أجلس بينَ يديكَ كما جلسَ الصغير الذي كنتُهُ ذاتَ يوم ، دعني أنظر إلى وجهكَ الملائكيّ الذي تشعّ منهُ الرّحمة ، دعني أسمعُ ثانيةً صوتَكَ الذي أفاض عليّ الهدوء ، و أتوضّأُ بابتسامتكَ التي غمرتْني بالحنان !
إسمح لي سيّدي الشهيد المظلوم ، يا أبتي ، أن أنحني على يدِكَ الحبيبةِ الطاهرة ، لا تسحبْها مُتمتماً أستغفرُ الله ، أرجوكَ دعني أُقبّلها قبلةَ الامتنان ، و أبلّلها بدموع المحبّة و الحزن !

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عمار يوسف المطلبي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/04/09



كتابة تعليق لموضوع : محمّد باقر الصدر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net