صفحة الكاتب : د . عبد الحسين العطواني

التأسيس الطائفي وانعكاساته على الوضع العراقي الحالي
د . عبد الحسين العطواني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
أسس ابن خلدون نظريته في الدولة مستندا إلى مفهوم العصبية وفقا لخبراته في المجتمع العربي , وما تزال العصبية مكونا رئيسا في بناء النظم السياسية العربية لأنه يعاد إنتاجها باستمرار وفق تحالفات جهوية ومذهبية في إطار صراع مستمر على مؤسسات السلطة في غياب الممارسة الديمقراطية وضعف مؤسسات الدولة وآلياتها الدستورية والقانونية , ففي العراق أول وضوح للافتراق الطائفي والمذهبي حصل في الدولة الحديثة ما جاء بالمذكرة من أن ( العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية ) وهذا اعتراف واضح وصريح لتأسيس التمايز الطائفي بين إفراد الشعب العراقي , لذلك بدلا من أن تكون الدولة ملكا لجميع مواطنيها , أصبحت ملكا لجماعة معينة , وبدلا من اعتماد سياسة الاعتراف بالهويات , اعتمد الاستبعاد والإقصاء, وهذا ما يتعارض وحقوق المكونات التي تتضمن بالضرورة حدا للمطالب الخاصة بالاختلاف , من دون النظر إلى أن الهدف من إقرار حقوق المجتمع هو حماية جميع الطوائف من الاستبداد السلطوي .
فلو رجعنا إلى الوراء قليلا , حتى في بداية القرن العشرين لم يكن العراق موحدا في دولة عراقية لها وحدة سياسية نظرا للتعدد والتنوع في مجتمعه , ولم يدفعهم وعيهم الاجتماعي السياسي إلى تشكيل دولة تستقطب مشاعرهم وولاء اتهم وتوحيدهم في هوية وطنية , وهو ما أدى إلى نمو روح الطائفية والمذهبية والمناطقية . لذلك ظلت الطائفية مسيطرة على أذهان وعقول الحكومات المتعاقبة على الرغم من اختلاف أيديولوجياتهم وتوجهاتهم الحزبية , وهي لا تزال أيضا تتحكم في الممارسات والعادات والسياسات , آي إنها السرطان الذي ينهش في جسد المجتمع ويمنع تشكيل الوحدة الوطنية للشعب على عكس ماهو سائر في الدول المتطورة , وما يحدث الآن فنحن أمام مشهد سياسي تاريخي جديد تغيرت فيه صورة الخارطة السياسية التاريخية العراقية , هي إضافة وقفة شعبية ووطنية ضد قوى الإرهاب , ما يعني أن العراق المعاصر يشهد صوغ علاقة جديدة في مابين مساره السياسي والتاريخي , لا نستطيع أن نتنبأ بمآلاتها السياسية , وما نستطيع أن نقوله ونعلنه بوضوح , إن الحرب على زمر داعش الإرهابية لاسيما بعد الانتصارات الأخيرة في معارك تحرير الانبار والفلوجة , أخرجت اغلب السياسيين من وصاية القبيلة والمذهب وخطاب التحريض ضد الأخر , أو هي في طريقها إلى ذلك , كما أفرجت عن الحضور التاريخي من قبضة السياسي الاستبدادي وبالنتيجة فككت الحرب على داعش الذاتية السياسية القديمة , كما ضربت بهذه الدرجة أو تلك البنية الإيديولوجية التاريخية في أكثر من موضع , وعززت القيم الثابتة المستقرة في العقل الباطن لدى قطاع واسع من سكان مجتمعات العالم الأخرى.
فمثلا التفجيرات التي حصلت في الغرب أيقظت العالم الغربي على سؤال هو : هل يدفع الدين لاسيما الإسلامي الناس إلى ارتكاب المذابح ؟ , وهل هو عداء ديني أم عداء سياسي له خلفية دينية ؟ , وهل أن معتنقي الإسلام هم دعاة للعنف والإرهاب ؟ . ولذلك نقول هم لا يعرفون الكثير عن الدين الإسلامي وعن الرسالة المحمدية , كما أن طريقة فهمهم للإسلام والعالم الإسلامي بهذه الكيفية أثرت بشكل واضح على تصاعد الإرهاب .
هنا تجدر الإشارة أن الإسلام بالمعنى الذي يقصده الدواعش والمتطرفين , وفي ممارساتهم الغريبة الذي أخذ فيه الإيمان طابع التزمت والترهين أو التصوف والانعزال , أصبح الإسلام المشكلة وليس الحل , فغالبا ما يدفع الإيمان الأعمى بصاحبه إلى ارتكاب جرائم القتل وبقناعة راسخة , لاسيما عندما تكون رأسه محشوة بأفكار التعصب وفتاوى فقهاء الظلام التي تجيز بأحقية قتل من يعتنق دين أو مذهب مخالفا لهؤلاء , ألم يكن الإسلام دينا اجتماعيا عمليا واقعيا , وضع لكل عمل حدوده ومقاييسه ولكل حالة حلولها , وربط المجتمع بنظام دقيق للألفة والتكامل , والتكافل بضمان اجتماعي , وتجنيد إجباري للذود عن الوطن لغرض الجهاد وليس للتفجير والإرهاب وقتل الأبرياء , (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده , والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وإعراضهم , والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )
فعندما ننظر من زاوية واحدة إلى مشهد متعدد الزوايا ستكون فيه الصورة ناقصة لا محالة , والأحكام عليها ستكون ناقصة أيضا ومجتزأة , وهنا ليس للحكم على ذلك المشهد أهمية إذا كان لا يستند إلى رؤية المشهد من زواياه كافة . 
لا ننكر أن جذور التعصب الديني الذي نشهده اليوم يعود إلى أكثر من ثمانية قرون مضت , لكن هذا لا يمنع ألا يكون إيماننا إيمان المتأمل الحكيم الذي يبحث عن الحقيقة فيستوحيها شعوره , ويتمثل بالإنسانية فيجعلها شعارا ومبدأ , ويتصف بالأدب الجم والخلق القويم فيتخذه سلوكه وعمله , والسؤال الذي يفرض طرحه : هو ما العمل وما الوسيلة للخروج من حالة الشلل واليأس التي ترافق الدمار والفوضى الأمنية والسياسية التي نعيشها والضحايا التي ندفعها من أبناءنا يوميا ؟, وأبشعها كارثة التفجيرات الإرهابية في الكرادة التي حصدت مئات الأرواح من الأبرياء , فقد أيقظت بل وهزت ضمائر اغلب دول وشعوب العالم وإعلان تعاطفهم ووقوفهم مع العراق , باستثناء قوى الضلالة والإسناد الداعشي المتمثلة ببعض العرب , وعملائهم ممن يحسبون على الطيف السياسي في الداخل العراقي ,علينا إن نعترف لعلاج العضال يفترض تشخيصا دقيقا للعلة وأسبابها , ومعرفة يقينية بفاعلية العلاج في حالات مماثلة سابقة , لان الجهود الفاعلة على الساحة العراقية تكاد تنحصر بالقوى الحاكمة التي يقتصر جهدها على ما من شأنه الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها , متوسلة في ذلك الفساد والقمع في معظم الأحيان . 
فمن مسلمات الأمور لاسيما منذ نشأة الأحزاب السياسية المنظمة , أن عملية التغيير الناجعة تعتمد على طرفين يؤدي كل طرف فيها دوره في عملية التغيير بشكل يتكامل مع دور الطرف الأخر وهما حزب منظم , وشعب متحفز, بمعنى أن الشعب عليه أن ينظر إلى الأمور لكي يفهم الرهان الأعظم لما يحدث حاليا وبالتالي أن يبتعد من انتخاب الحكام المتطرفين والعنصريين .
ألا تكمن المشكلة الأساسية للعالم الإسلامي في عدم فهمه للنصوص الدينية وفي عدم القدرة وعدم الجرأة على موضعتها ضمن سياقها التاريخي الطبيعي , بمعنى إن النصوص الدينية المقدسة في الإسلام وغير الإسلام يمكن نجد فيها آيات تدعو إلى الجهاد والعنف , وأخرى تدعو إلى العفو والرحمة والمغفرة , والثانية أكثر من الأولى في القرآن الكريم , ومن الواضح أن الحركات المتطرفة والمتزمتة لا تأخذ إلا بالآيات الأولى ولا تركز إلا عليها لتبرير عملياتهم الإرهابية باسم الجهاد , ومن ثم فان هؤلاء يتلاعبون بالآيات على غرار نزعاتهم العدوانية , مثلما يفعل فقهاء الظلام في توجيه المخاطر والأضرار لتنمية وتفعيل الهويات والانتماءات الفرعية كالطائفية , والمذهبية , والقبلية وسواها في العراق , ما يضمن تفكك النسيج الاجتماعي ويذهب بوحدة المجتمع ومناعته , أو كفاعل أساس في نموها , أو الآفة التي هي أساس تقويض مؤسسات الدولة والذهاب بقوة المجتمع وأمنه في وجه التحديات الخارجية , فضلا عن دورها في تشويه الدين وانتشار جرائم الإرهاب التكفيري , وتذكية الحروب الأهلية .
حقا يكشف العراقيون اليوم عن طريق حربهم ضد الدواعش , بعضهم بعضا , يبحثون عن ذواتهم وهويتهم السياسية والوطنية المصادرة , العراقيون اليوم يكتبون تاريخهم الذاتي الخاص , كقوات مسلحة , وقوى أمنية , ومكافحة إرهاب , والحشد الشعبي ,وأبناء العشائر كأفراد وكشعب , وليس تاريخ الطغاة والأنظمة والسلطان , يكتبون إلى القول وبالفعل وبأنفسهم ما يعتقدونه وما هم مقتنعون به , ولمصلحتهم , على الرغم من المتاعب والتحديات التي تواجههم ,والوضع الاقتصادي الذي أتيح ضعفا في بنيان الدولة مكن من توسع التدخل الخارجي بصورته السلبية , وحول العراق إلى ساحة صراع , لاسيما الصراع الإقليمي الذي وجد في داعش فرصة لتوسيع نفوذه وتحقيق أهدافه بتنفيذ سياساته المعلنة وغير المعلنة .
وفي هذا السياق ومما تقدم , يمكن القول أن تعميق الاندماج الاجتماعي والوطني يتطلب آلية تقوم بتسوية التناقضات السياسية من التمييز وعدم المساواة , لان سلطة الدولة تكون ذات مضمون وطني عندما تتجاوز الانتماءات العصبوية وبالتالي فرض الإصلاح من دون التفريط بوحدة الدولة عندها سيكون نصرا شعبيا تاريخيا , وأما في المفاضلة بين الإصلاح ووحدة الدولة , فترى انه لا يمكن أن ينال الشعب المكسبين معا ضمن ظروف البلد الحالية , فلا معنى إذن لإصلاح من دون دولة , ولا ينبغي أن نخشى الفيدرالية في العراق فقد تكون الحل لئلا تسيطر فئة على الفئات الأخرى وتستأثر بها وتقهرها كما يعتقد ويروج البعض, لكي تصبح متحررة من النزعات الطائفية والمذهبية والعنصرية , فأن الفيدرالية قد تكون فعلا الحل الأفضل لنا الآن إذا ما طبقت بنهجها الصحيح , ولا ينبغي أيضا أن نخلط بين الفيدرالية , والتقسيم , لان الفيدرالية تسمح بوجود علاقات بين مختلف المكونات على مستوى المراكز أو العواصم , مع ترك حرية كبيرة للأقاليم على صعيد التربية والتعليم والصحة وإدارة شؤونها المحلية بنفسها, وبهذا نستطيع أن نؤسس مسارا جديدا لقطع الطريق أمام المخاطر التي يمكن أن تغذي قوى الإرهاب في ظل التعقيدات الناجمة من مخلفات التأسيس الطائفي للسياسات السابقة .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبد الحسين العطواني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/07/11



كتابة تعليق لموضوع : التأسيس الطائفي وانعكاساته على الوضع العراقي الحالي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net