صفحة الكاتب : نزار حيدر

عاشُورْاءُ السَّنَةُ الثّالِثَةُ (١٤، ١٥، ١٦)
نزار حيدر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
   ما الذي أراد الامامُ الحُسين السّبط (ع) تحقيقهُ في مشروعهِ الاصلاحي عندما كتبَ في وصيّتهِ التي تركها في المدينة المنوّرة عند أخيهِ محمد بن الحنفيّة {وَأَسِيرُ بِسِيرةِ جَدِّي رَسُول الله (ص) وَأَبِي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ (ع)}؟!.   
   تعالوا نرى ما الذي فعلهُ الامامُ أَميرُ المؤمنين (ع) على صعيدِ مشروعهِ الاصلاحي الرّسالي عندما بايعهُ المسلِمون خليفةً لهم بعد مقتلِ الخليفةِ الثّالِث!.
   لقد شرعَ الامامُ (ع) أَوّل ما شرعَ في إصلاحِ الجهازِ الاداريّ والماليّ في الدّولة، ولقد كانَ شديداً جداً وحاسماً في ذَلِكَ، فمِن جانبٍ غيَّر وبدَّل عُمّالاً كثيرون في عدّة حواضر إسلاميّة، وعلى رأسهم طاغية الشام الطّليق بن الطّليق مُعاوية بن أَبي سُفيان ابْنُ هندٍ آكلة الاكباد وحفيدُ حمامة صاحبة الرّاية في الجاهليّة.
   إِنَّ المُصلحَ الحقيقيِّ لا يمكنهُ ان يُحقّقَ أَو يُنجز شيءٌ من مشروعهِ بالادواتِ الفاسدةِ أَبداً، ولذلك كان قرار الامام (ع) صارماً جدّاً في تطهير الجهاز الاداري في الدّولة من الفاسدين قبل إطلاق مشروعهِ الاصلاحي، ولهذا السّبب أَحكمُ أَنا شخصيّاً على فشل [الإصلاحيّين] تحت قُبّة البرلمان، لانّهم يريدونَ إنجازِ الاصلاحِ بالفسادِ والنّجاح بالفشلِ، وأنّهم يريدونَ إنجازِ التّغيير المرجو بنفسِ الادواتِ الفاسدةِ التي أَوصلت البلاد الى ما هي عليه اليوم، بل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ} فبنظرةٍ سريعةٍ للوجوهِ والعناوينِ التي تظهر علينا كلَّ يومٍ تلقي علينا دروساً في الاصلاحِ ومحاربةِ الفسادِ فستجدها أَنّها هيَ هيَ نفس الوجوه السّوداء الكالِحة التي لم تجلِب الخير للبلد على حدِّ وصف الخطاب المرجعي لها! سواء تحت قُبّة البرلمان أَو حولَ الطّاولة المُستديرة!.
   ولقد وصلت بهم الوقاحة والتّسافُل والصّفاقة وعَمَى البصيرة لدرجةٍ انَّ (عِجْلاً سميناً) واحداً على الأقل من الفاسدين راحَ يحدِّثنا قبل عدَّة أَيام عن الصّحوة والنّهضة (الاسلاميّة) في مؤتمرٍ بائسٍ عديم الطّعم والّلون والرّائحة الّا رائحةِ الفسادِ والفشلِ والاتّجار بالدّين والمذهب والتّاريخ والرمزيّة! فأَيّ إصلاحٍ ونهضةٍ ننتظر من هؤلاء الفاسدين؟! خاصَّةً أَصحاب العمائم منهُم؟! والّذين يُفسدون ثلاثاً؛ الدّين والسّياسة وعندما يقبلونَ لأنفسهِم لعبَ دور حصان طَروادة ليمتطيهِ الفاسدون والفاشِلون للعودةِ الى الواجهةِ؟!.
   أَلاصلاحُ لا يتحقّق بأَدواتٍ فاسدةٍ، فكيفَ اذا كان المصلحُ فاسداً؟! والنّجاحُ لا يتحقّق بأدواتِ الفشل، فكيف اذا كان [النّجاحُ] المزعوم هو الفشل؟!.
   ولذلك كان قرارُ الامامِ (ع) صارماً وحاسماً جداً في تنحيةِ طاغيةِ الشّام لإزالة العقبات التي تقف في طريق مشروعهِ الاصلاحي الرّسالي الرّبّاني.
   فكم فاسدٍ مثل مُعاوية على العراقيّين تنحيتهُم قبل إطلاقِ مشروعهِم الاصلاحي الحقيقي؟! مُعاوية المنهج وليس الهُويّة!.
   وبرأيي، فانّ وراء إِصرار أَميرُ المؤمنين (ع) عدّة أسباب أهمّها وهي حجز الزّاوية كما يقولون سببّان؛
   الاوَّل؛ انّهُ طليقٌ وابنُ طليقٍ ولقد حرّم رَسُولُ الله (ص) الخلافة على الطُّلقاء وأبناء الطُّلقاء، على اعتبارِ أَنَّهم لا يُمكن ان يُحسِنوا مع الرّعيّة اذا تسنّموا السُّلطة أَبداً، فالعُقدةُ النّفسيّةُ في كونهِم طُلقاءَ عُجِنت مع جيناتهم وسارت في دمائهم من المُستحيلِ نسيانها وتجاوُزها! خاصَّةً اذا كانت السُّلطة التي يتسنَّمها الطّليق بعيدةً عن نظرِ الحاكمِ الأَعلى والخليفة، كما هو حال سُلطة الطّليق مُعاوية في الشّام والتي ذهبَ بها عريضةً لم يشأ أَيّ خليفةٍ غيرِ أَميرِ المؤمنينَ (ع) أَن يفضحهُ ويُسقِط هيبتهُ!.
   يَقُولُ أَميرُ المؤمنينَ (ع) لمُعاوية بهذا الصّدد {وَاعْلَم أَنَّكَ مِنَ الطُّلَقاءِ الَّذِينَ لا تَحِلُّ لَهُمُ الخِلافَةُ، ولا تُعْرَضُ فِيهِمُ الشُّورى}.
   وهو (ع) يستند في حُكمهِ لحديثِ رَسُولِ الله (ص) الذي ذكرتهُ كلّ مصادر الحديث والتّاريخ والسّيرة والذي احتجَّ بهِ الحُسين السّبط (ع) كذلك على مروانِ بن الحكَم عندما لقِيهُ صُدفةً كما يرويها النصّ التّاريخي التّالي؛
  وخرج الحُسين (ع) من منزلهِ يسمع الأخبارَ، فإذا هو بمروانِ بن الحكَم قد عارضهُ في طريقهِ، فقالَ؛ يا أبا عبدالله، إنّي لَكَ ناصحٌ فأَطِعني تَرشَد وتُسدَّد، فقال الحُسين (ع) وما ذاكَ؟! 
قالَ: إنّي آمرُك ببيعةِ يَزيدٍ فإنهُ خَيْرٌ لَكَ في دينِكَ ودُنياكَ. 
   فاسترجعَ الحُسين (ع) وقال؛ على الاسلامِ العفا إذ قد بُلِيَتِ الأُمة بِراعٍ مثلَ يَزيدٍ! ثم أقبلَ (ع) على مروان وقال؛ ويحَك! تأمرُني ببيعةِ يَزيدٍ ويزيدٌ رجلٌ فاسقٌ؟! لقد قلتَ شَطَطاً، لا أَلومكَ على قولِكَ لأَنَّكَ الَّلعينُ الذي لعَنكَ رَسُولُ الله (ص) وأنتَ في صُلْبِ أَبيكَ الحكَم بن أَبي العاص، ومَنْ لعنَهُ رَسُولُ الله فإِنَّهُ لا يُنكَرَ مِنْهُ أَنْ يَدْعو إلى بيعةِ يَزيدٍ! ثم قال (ع)؛ إِليكَ عنّي يا عدوَّ الله فإنّا أَهلُ بيتِ رَسُولِ الله (ص) على الحقِّ والحقُّ فينا، وقد سَمِعتُ جدّي رسولَ الله (ص) يقول؛ الخِلافةُ مُحرَّمةٌ على آلِ أَبي سُفيان الطُّلقاء وأَبناء الطُّلقاء، فإذا رأَيتُم مُعاوية على مِنبَري فابْقُروا بطنهُ، فوالله لقد رآهُ أَهلُ المدينةِ على مِنبَرِ جدّي رَسُولُ الله (ص) فلم يفعَلوا ما أَمرهُم بهِ فابتلاهُمُ اللهُ بإِبنهِ يزيدٌ. 
   فغضِبَ مروان ثُمَّ قالَ؛ والله لا تُفارقُني أَو تُبايع ليزيدٍ صاغِراً، فإنَّكُم آلُ أَبي تُرابٍ قد مُلِئتُم كلاماً وأُشرِبتُم بُغضَ آلَ أَبي سُفيانَ وحقيقٌ عليهم أن يُبغِضوكُم!. 
فقالَ (ع) ويلك! إِليكَ عنّي، فإِنَّكَ رِجسٌ وإنّا أهلُ بيتِ الطّهارةِ الذي أَنزَلَ اللهُ فِيهِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فنكَّسَ مروانٌ رأسهُ فقالَ لهُ السِّبطُ (ع) {أَبشِر يا ابْنَ الزَّرقاءِ بكلِّ ما تكرهُ مِن الرَّسولِ (ص) يَوْمَ تقدِمُ على جَدّي رَسُولِ اللهِ (ص) فيسألُكَ عن حقّي وحقِّ يَزيد}.
 
عْاشُورْاء السَّنَةُ الثّالِثَةُ  (١٥)
                       
   نستطرد الحديث هنا عن السّبب الاول الذي حدا بالإمام أَميرِ المؤمنين (ع) للإصرار على إِقالة طاغية الشّام الطّليق ابْنُ الطّليق مُعاوية، الا وهو كونهُ طليقاً لا يحقُّ له ان يعتلي مثل هذا الموقع في الدّولة، حسب ما نصّ عليه الدّستور [الحديث النّبوي الشّريف]. 
   ففي كتابٍ للامام (ع) الى الطّليق مُعاوية عندما طلب مِنْهُ ان يُقرُّهُ على الشّام بذريعةِ حقن دماء المسلمين! كتب له الامام يقول؛
   وَأَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ، فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لاُِعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ.
   وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُس بَقِيَتْ، فَمَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ ومَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النّارِ.
   وَأَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ والرِّجَالِ، فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ، وَلَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الاْخِرَةِ.
   وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف، فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُوسُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلاَ المُهَاجرُ كَالطَّلِيقِ، وَلاَ الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ، وَلاَ الْـمُحِقُّ كَالْمُبطِلِ، وَلاَ
الْمُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ، وَلَبِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
   وَفِي أَيْدِينَا بعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ، وَنَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ.
   وفي كتاب آخر يقول له الامام (ع)؛
   أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ [فِيهِ] اصْطِفَاءَ اللهِ تعالى مُحَمَّداً(ص) لِدِينِهِ، وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ بِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً، إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلاَءِ اللهِ عِنْدَنَا، وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا، فَكُنْتَ فِي ذلكِ كَنَاقِلِ الَّتمْرِ إِلَى هَجَرَ، أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ.
   وَزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الاِْسْلاَمِ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ، وَإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ، وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ، وَالسَّائِسَ وَالْمَسُوسَ! وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ، وَالـتَّمْييزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الاَْوَّلِينَ، وَتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ! هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا، وَطَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا أَلاَ تَرْبَعُ أَيُّهَا الاِْنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ، وَتَعْرِفُ قُصُورَ درْعِكَ، وَتَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ! فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ، وَلاَ لَكَ ظَفَرُ الظَّافِرِ!.
   وَإِنَّكَ لَذَهّابٌ فِي التِّيهِ، رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ.
   أَلاَ تَرَى ـ غَيْرَ مُخْبِر لَكَ، لكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أُحَدِّثُ ـ أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمُهاجِرينَ،لِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَخَصَّهُ رَسُولُ اللهِ(ص) بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلاَتِهِ عَلَيْهِ!.
   أَوَلاَ تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْديِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ وَلِكُلّ فَضْلٌ ـ حَتَّى إذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا كمَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ، قِيلَ: الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَذُوالْجَنَاحَيْنِ!.
   وَلَوْ لاَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً، تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ.
   فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِه الرَّمِيَّةُ، فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا.
   لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَلاَ عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بَأَنفُسِنَا، فَنَكَحْنَا وَأَنْكَحْنا، فِعْلَ الاَْكْفَاءِ، وَلَسْتُمْ هُنَاكَ! وَأَنَّى يَكُونُ ذلِكَ كَذَلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ وَمِنْكُمْ أَسَدُ الاَْحْلاَفِ، وَمِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ، وَمِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينِ وَمِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، فِي كَثِير مِمَّا لَنَا وَعَلَيْكُمْ!.
   أَمّا السّبب الثّاني؛ فإِنَّ الطّليق مُعاوية لم يُبايع علياً للخلافةِ، مُتذرَّعاً بحججٍ شتّى! فكيف يُمكن ان يكونَ واليهُ على مصرٍ من أَمصارِ المسلمين؟! فعدم مبايعتهِ لهُ يعني أَنّهُ لم يعترف بهِ حاكماً أَعلى للدّولة فكيف يُعقل ان يكونَ والياً لحاكمٍ لم يعترف بولايتهِ الدُّستوريّة والقانونيّة ناهيكَ عن الشّرعيّة؟!.
   في كلِّ دُول العالَم لا يُستوزَر أَبداً من يرفض الدُّستور مثلاً او لا يعترف بشرعيّة الحاكِم! لانَّ فاقِد الشّرعية لا يمنحْها لأَحدٍ، أليس كذلك؟! فكيف أراد الطّليق مُعاوية أَن يُقرُّهُ الامام (ع) على ولايةِ الشّام وهو بالأساس لم يعترِف بشرعيّةِ سُلطَتهِ؟!.
   أراد إِمضاءً على سُلطةٍ شرعيّةٍ [وِلايةِ الشّامِ] من حاكمٍ لم يُقِرُّ لهُ بشرعيّةِ ولايتهِ!.
   لقد دعا الامام (ع) هذا الطّليق الى بيعتهِ في أَوّل كتابٍ بعثهُ لهُ بعد بيعةِ المسلمينَ لهُ بالخلافةِ قائلاً لهُ؛
   مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ:
   أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي فِيكُمْ، وَإِعْرَاضِي عَنْكُمْ، حَتَّى كَانَ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَلاَ دَفْعَ لَهُ، وَالْحَدِيثُ طَوِيلٌ، وَالْكَلاَمُ كَثِرٌ، وَقَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ، وَأَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ، فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ، وَأَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْد مِنْ أَصْحَابِكَ، وَالسَّلاَمُ.
   ولقد ردَّ الامامُ (ع) على الطّليق مُعاوية بتشكيكهِ في بيعةِ النّاس لهُ بالخلافةِ في رسالةٍ بعثها اليهِ يَقُولُ لهُ فيها؛ 
   إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْبِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ منه، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى.
   وفي كتابٍ آخر لهُ كتبَ عليهِ السّلام؛
   لاَِنَّهَا بَيْعَهٌ وَاحِدَةٌ لاَ يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ، وَلاَ يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ، الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ، وَالْمُرَوِّي فِيهَا مُدَاهِنٌ.
   ولهذَين السَّببَين وغيرهما كان قرار الامامِ (ع) حاسماً، فكتبَ إلى جرير بن عبدالله البجلي لمّا أرسلهُ إلى مُعاوية؛
   أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ، وَخُذْهُ بَالاَْمْرِ الْجَزْمِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ، أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ، فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ، وَالسَّلاَمُ.
 
عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الثّالِثَةُ  (١٦)
            
   الأَمرُ الثّاني الذي لم يتهاون فِيهِ أَميرُ المؤمنينَ (ع) والّذي بنى عليهِ مشروعهِ الاصلاحيِّ الرِّساليِّ، فكانَ حاسماً فِيهِ شديداً بِلا هوادة، هو إِعادةِ وإِرجاعِ المسروقاتِ والمنهوباتِ من المالِ العامِ الى خزينةِ الدّولة.
   ولا فرقَ في ذَلِكَ بَيْنَ الاموالِ المنقولةِ وغيرِ المنقولةِ! فقد يسرقُ الحاكمُ مِنَ الدّولةِ نقداً، كما لو كانَ البنگ المركزي يديرهُ أحد أعوانهِ فيُسرّب لهُ المالَ نقداً كما فعلَ (القائد الضّرورة) مُدّة رئاستهِ للحكومةِ حتّى سرقَ هُوَ وأُسرتهِ وزبانيتهِ ومُحازبيهِ ما تسبّبَ بافلاسِ الخزينةِ العامّةِ! وقد يسرقُ أملاكاً تابعةً للدّولةِ من مبانٍ وقِطعِ أراضي وغير ذلك عندما يعرضها للبيعِ على نَفْسهِ! فيشتريها بسعرِ [البلاش] كما فعلَ جلُّ السياسيّين وفيهم عمائم فاسدة، إذ استَولَوا على أملاكِ الدّولة في أكثر من مُحافظةٍ، منها العاصمة بغداد والنَّجف الأشرف وغيرها!.
   وقد يوظّف الحاكم المال العام، المنقول وغيرِ المنقولِ، لشراءِ الذِّممِ لتكونَ لهُ بوقاً أو ذيلاً! أو لإِسكاتِ الأصوات المُعارضةِ، فتلوذُ بالصّمتِ على جرائمهِ وأخطائهِ وانحرافاتهِ! كما فعلَ الخليفةُ الثّالثِ، كما تذكر كتب التّاريخ قصصاً كثيرةً بهذا الصّددِ! عندما أطلقَ يدُ الأمويّين في المال العام، أموالاً وأَملاكاً وأَراضٍ شاسعةٍ! أو لشراءِ أصواتِ النّاخبين، كما فعلَ [عِجلٌ سمينٌ] واحِدٌ على الأقلّ، عندما وزّعَ سندات قِطَع الأَراضي على [الفقراءِ] لكسبِ أَصواتِهم، ليتبيّنَ فيما بعدُ أَنّها مُزوّرة! وليست حقيقيّة كما فعلَ الخليفة الثّالث مع الأمويّين!.       
   ففي أَوّلَ خطابٍ لهُ عندما بويعَ خليفةً للمسلمينَ قال عليه السّلام بكلِّ وضوحٍ وصراحةٍ وصرامةٍ؛
   أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي رَجُلٌ مِنْكُمْ، لِي ما لَكُم وَعَلَيَّ مَا عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي حَامِلُكُم عَلَى مَنْهَجِ نَبِيِّكُمْ، وَمُنَفِّذٌ فِيكُمْ مَا أَمَر بِهِ.
   أَلا وَإِنَّ كُلَّ قَطِيعَةٍ أَقْطَعَهَا عُثْمَانُ، وَكُلَّ مَالٍ أَعْطَاهُ مِنْ مَالِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ فِي بَيْتِ المَالِ، فَإِنَّ الْحَقَّ لا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ الاِْمَاءُ وَفُرِّقَ فِيِ الْبُلْدَانِ لَرَدَدْتُهُ؛ فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةٌ، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!.
   إِنَّ هذا النّص التّاريخي الالهي العظيم يُلخِّص كلّ مقوّمات المشروع الاصلاحي الحقيقي، وما دونهُ وغيرهُ كذبٌ ودجلٌ وهُراءٌ وتحايلٌ وتجارةٌ رخيصةٌ بالدّينِ والمذهبِ والنصِّ المقدَّس.
   فالإصلاحُ عادةً ما يمونُ من سنخِ المُصلحِ، والعكسُ هو الصّحيح، ولقد حدَّد الامامُ (ع) في النّصِّ أَعلاهُ الأُسس التّالية للاصلاحِ وللمصلحِ على حدٍّ سَواء؛
   ١/ الرّاعي لا يميّزهُ شيءٌ عن الرّعيّة، الّا الانجاز، فكلُّ تمييزٌ أو تمايزٌ على أَساس المنصب والانتماء والعشيرة والحزبيّة والمناطقيّة فهو مرفوضٌ ومردودٌ.
   هذا يعني أَنّهُ ليس للرّاعي ميزةً إضافيَّةً على الرّعيّة فيتكبّر ويتجبَّر، أَو كما تصفُ عقيلةُ الهاشميّين بطلة كربلاء زينب بنت عليٍّ بنت فاطمةَ الزّهراء بنتَ رَسُولِ الله (ص) طاغيةَ الشّامِ الأَرعنِ الطّليقُ ابْنُ الطّليقِ يزيد بن مُعاوية بقولِها {فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ فِي عِطْفِكَ، تَضْرِبْ أَصْدَرَيْكَ فَرَحاً وَتَنْفُضَ مُذْوَرَيْكَ مَرَحاً، جَذْلَانَ مَسْرُوراً}.
   وهي صفة الانسانُ عندما يطغى، على العكسِ ممّا أَوصى بهِ لُقمانُ إِبنهُ، كما في قولِ الله تعالى {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
   وقولهُ تعالى {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}. 
   أَوَلَم يكتب أَميرُ المؤمنينَ (ع) في عهدهِ الى مالك الأشتر لمّا ولّاهُ مِصْرَ {وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ}.
   إَنَّ الحاكم العاقل والحكيم لا يرى لنفسهِ ميزةً على النّاس لمجرَّد المنصب والموقع والسّلطة والسُّلطان، أَبداً، فليس عاقلٌ يتباهى بمُلكٍ زائلٍ وموقعٍ لا يدومُ يصفهُ أَميرُ المؤمنين (ع) بقولهِ {صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الاَْسَدِ: يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ} وصدقَ عليهِ السّلام عندما كتب في عهدهِ المذكور {وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدرُِ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ!
   إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال}.  
   وانَّ من المساواةِ الانصافِ، وهو أحدُ أَعظمِ صفاتِ المرءِ، كما وردَ في الحديثِ الشّريفِ {مَنْ لَا إِنْصَافَ لَهُ لَا دِينَ لَهُ} فما بالُك بالحاكمِ والمسؤولِ؟!.
   يَقُولُ أَميرُ المؤمنين (ع) في عهدهِ للأَشتر؛
   أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ.
   ٢٦ تشرين الاول ٢٠١٦
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نزار حيدر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/10/27



كتابة تعليق لموضوع : عاشُورْاءُ السَّنَةُ الثّالِثَةُ (١٤، ١٥، ١٦)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net