صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

من الاخطاء العقائدية عند مدرسة الحكمة المتعالية ... ( 9 )
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 ومن المعلوم ان الارادة تكوينية هي التي يدور حولها الخلاف بين علماء الشيعة الامامية (الذين يقولون انها من صفات الفعل) وعلماء الحكمة المتعالية (الذين يقولون انها من صفات الذات) ، أمّا الارادة التشريعية فهي خارج النزاع بين المذاهب لأنها تتعلق بما يريده الله سبحانه من عباده. 
يقول الشيخ المفيد (رض): " لا يخلو تعالى جدّه أن يكون مريداً لنفسه او بإرادة ، ولا يجوز أن يكون مريداً لنفسه لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون مريداً للحسن والقبيح ، وقد دلّ الدليل على أنه لا يريد القبيح ولا يفعله. ولا يجوز أن يكون مريداً بارادة لانها لا تخلو من ان تكون موجودة او معدومة ، ولايجوز ان تكون معدومة لأن المعدوم ليس بشيء [ولا] يوجب لغيره حكماً. وإن كانت موجودة لم تخل من أن تكون قديمة أو محدثة ، فإن كانت قديمة وجب تماثلها للقديم تعالى ، وكذلك السوادان والبياضان ، فيجب تماثل القديمين كذلك. وأيضاً فلو كان مريداً بارادة قديمة لوجب قدم المرادات بأدلّة قد ذكرت في مواضعها. فلم يبق إلا أن يكون تعالى مريداً بإرادة محدثة ، وهذا باطل ، من حيث كانت الارادة عند مثبتيها عرض ، والاعراض لا تقوم بانفسها ولا بد لها من محال ، ولم تخلّ محلّ هذه من ان يكون هو أو غيره ، ومحال كونه تعالى محلّ شيء من الاعراض لقدمه. ولا يجوز ان يكون مريداً بارادة محدثة تحلّ في غيره لوجوب رجوع حكمها الى المحلّ ، ولا يصح أن يكون حكمها راجعاً الى محلها ، ويكون تعالى مريداً بها ، ووجودها لا في محل غير معقول ، واثبات ما ليس بمعقول يؤدي الى الجهالات ، فثبت أنّه مريد مجازاً لا حقيقة ، فتأمل ذلك"[1].
وقال الشيخ ابو الصلاح تقي بن نجم الحلبي ت 447هـ: (وهو سبحانه مريد، لوقوع أفعاله على وجه دون وجه، وفي حال دون أخرى، وافتقار وقوع الافعال على ذلك الى كون فاعلها مريداً. لتعلّق كونه قادراً عالماً بجميعها على حد سواء، فلا يجوز اسناد وقوعها على الوجوه وفي الاوقات المخصوصة الى كون فاعلها قادراً عالماً. وإرادته فعله. لاستحالة كونه مريداً لنفسه مع كونه كارهاً، لأن ذلك يقتضي كونه مريداً كارهاً لكل ما يصح كونه مراداً، وذلك محال. ولأن ذلك يوجب كونه مريداً لكل ما تصح ارادته من الحسن والقبح، وسنبين فساد ذلك. أو بإرادة قديمة، لفساد قديم ثانٍ، ولأن ذلك يقتضي قدم المرادات، أو كون إرادته عزماً، وكلا الامرين مستحيل، وكونها من فعل غيره من المحدَثين محال، لأن المحدَث لا يقدر على فعل الارادة في غيره، لاختصاص إحداثها بالابتداء، وتعذر الابتداء من المحدَث في غيره، ويستحيل وجود قديم ثان على ما نبينه، فلا يمكن تقدير إحداثها به. وهي موجودة لا في محل، لإستحالة حلولها فيه تعالى، لكونه قديماً يستحيل كونه بصفة المحالّ، وحلولها في غيره في حيّ أو جماد يقتضي اختصاص حكمها بما حلّته، ويحيل تعلّقها به تعالى، فثبت وجودها لا في محلّ، ولوجودها على هذا الوجه الذي له انقطعت عن كلّ حيّ ما وجب اختصاصه به تعالى)[2].
وقال العلامة الحلي (رض): "والاوائل نفوا الارادة عنه تعالى لأن القاصد الى ايجاد شيء يكون مستكملاً بذلك الشيء من حيث انه اذا فعله حصل ما هو اولى به ان يفعله فإن القاصد لإيجاد شيء لو لم يكن له ذلك اولى به لما توجه القصدُ نحوه"[3].
وقال في (مناهج اليقين): "الحق عندي أن الارادة ليست بزائدة على الداعي"[4].
وقال في (الاسرار الخفية في العلوم العقلية): "انها العلم الخاص بما في المخلوقات من المصالح الراجعة اليهم وهو الداعي الى الايجاد ، والحكماء عبّروا عنها بالعناية وهو قريب من هذا ، فإنهم فسّروها بالعلم بنظام الكلّ على الوجه الاكمل الموجب لصدور الفعل ، والارادة والقدرة والعلم متغايرة بالاعتبار وإن كانت واحدة بالذات"[5].
وبخصوص قول العلامة الحلي (رض): "ويجب ان يعتقد أنّه تعالى مريد لأن نسبة الحدوث الى جميع الاوقات بالسويّة فلا بد من مخصّص هو: الارادة". يشرحه المقداد السيوري بقوله: "أقول لمّا ثبت أنّ العالم محدث ، فتخصيص وجود المحدثات بوقت دون وقت مع تساوي الاوقات بالنسبة اليها لا بد له من مخصّص خصّص وجوده بذلك الوقت دون غيره من الاوقات ، وإلا لزم التخصيص من غير مخصص ، وهو محال. وذلك المخصّص هو الارادة ، وهو علمه بما في وجود ذلك الحادث في هذا الوقت من المصلحة دون غيره من الاوقات ، فلهذا اختصّ وجود بذلك الوقت. هذا معنى كونه مريداً لما يفعله ، كما تقول: انّه تعالى اراد خلق العالم لما علم في وجوده من المصلحة. واما معنى كونه مريداً لأفعال عباده ، فإذا قلنا: انّه تعالى اراد من العبد الايمان ، فمعناه: انه اراد: امر به ، لأن كل من امر بشيء لا بد أن يكون مريداً [له] ، وقد أمر العبد بالايمان ، فيكون مريداً له"[6].
وقال العلامة الحلي (رض) في كتابه (شرح الباب الحادي عشر): (انه تعالى مُريد وكاره، لأن تخصيص الافعال بايجادها في وقت دون آخر، لابدّ له من مُخصص وهو الارادة، ولأنه تعالى أمَرَ ونهى، وهما يستلزمان الارادة والكراهة بالضرورة). وقد شرح المقداد السيوري هذا النص بقوله: (اتفق المسلمون على وصفه بالارادة، واختلفوا في معناها. فقال ابو الحسين البصري هي عبارة عن علمه تعالى بما في الفعل من المصلحة الداعي الى ايجاده) ، الى ان يقول: (فإذن الحق ما قاله ابو الحسين البصري. والدليل على ثبوت الارادة من وجهين الاول ان تخصيص الافعال بالايجاد في وقت دون وقت آخر، وعلى وجه دون آخر، مع تساوي الاوقات والاحوال بالنسبة الى الفاعل والقابل، لا بد له من مخصص، فذلك المخصص إما القدرة الذاتية، فهي متساوية النسبة، فليست صالحة للتخصيص، ولأن من شأنها التأثير والايجاد من غير ترجيح، وأما العلم المطلق فذلك تابع لتعيين الممكن وتقدير صدوره، فليس مخصصاً والا لكان متبوعاً. واما في باقي الصفات فظاهر انها ليست صالحة للتخصيص. فإذن المخصص هو علم خاص مقتضي التعيين الممكن ووجوب صدوره عنه، وهو العلم باشتماله على مصلحة لا تحصل الا في ذلك الوقت او على ذلك الوجه، وذلك المخصص هو الارادة. الثاني: أنّه تعالى أمر بقوله ((اقيموا الصلاة)) ونهى بقوله ((ولا تقربوا الزنا)) فالامر بالشيء يستلزم ارادته ضرورة والنهي عن الشيء يستلزم كراهته ضرورة، فالباري تعالى مريد وكاره وهو المطلوب)[7].
وقال السيد ابو القاسم الخوئي (رض): (الارادة منه تعالى عبارة عن المشيّة التي هي فعل من أفعاله سبحانه ، فيوجد الافعال بإعمال القدرة ويوجد إعمال القدرة بنفسه ، وهذا المعنى هو المراد في صحيحة عمر بن أذينة ، من قوله (عليه السلام): ((خلق الله المشيّة بنفسها ثم خلق الاشياء بالمشيّة)) ، وقرأ بعض الفلاسفة – واظن انه المير داماد – المشيّة بالرفع مع حذف لفظ خلق، أي المشيّة ثابتة بنفسها ، مع أنّ الموجود في الرواية ذكر لفظ خلق قبل المشيّة وتكراره بعدها ، فراجع. فتحصّل أنّ إرادته تعالى لا تكون من صفاته الذاتيّة بل من صفاته الفعليّة ، [وأنّه] قد عبّر عنها في الروايات تارة بالمشيّة – كما في صحيحة محمد بن مسلم ، وكما في صحيحة عمر بن اُينة التي تقدّمت الاشارة اليها – واخرى بالإحداث ، وثالثة بالفعل ، كما في صحيحة صفوان بن يحيى. فالمتعيّن هو الاخذ بهذه الروايات الدالّة على أنّ إرادته تعالى هي مشيّته وإعمال قدرته ، وهي فعله فقط ، وإما الإرادة الذاتية وقد يعبّر عنها بالإرادة الازليّة التي هي الأساس لمذهب الجبر وما يرجع إليه من أنّ أفعال العباد منتهية إليها ممّا لا حقيقة له)[8].
وقال السيد عبد الاعلى السبزواري (رض): (والائمّة الهداة (عليهم السلام) جعلوا إرادته تعالى عين فعله)[9].
ويقول الشيخ حيدر الوكيل: "الارادة وهي من صفاته الفعلية ، وهي بمعنى فعله ، فارادته هي فعله ، والمراد بارادته هنا هي التكوينية ، اما التشريعية فهي المرتبطة بفعل العبد بمعنى انه يريد صدور الفعل من العبد بارادة العبد ، فيأمره وينهاه"[10].
وفي معرض ابطال مذهب ابن عربي هذا في ان (الله مريد غير مختار) – آنف الذكر - يقول الشيخ ماجد الكاظمي: (هل ان ارادة الله جلّ وعلا ذاتية فلا يتخلف المراد عن الارادة؟ ام ان ارادته صفة من صفات الافعال لا من صفات الذات وانه فاعل بالاختيار؟ اقول: هذه احدى نقاط الخلاف بين الفلاسفة والاخرين حيث ان الفلاسفة تبنّوا ان ارادته تعالى عين ذاته وعليه فلا ينفك المراد عن الارادة وحاصله قدم العالم لقدم الذات المقدسة الالهية) ، وقال: (ويلاحظ عليه: ان الله جل وعلا مريد مضافاً لكونه مختاراً فليست ارادته منفكة عن اختياره فلا يمتنع ان تكون الارادة "بالمعنى الاتي من العلم" عين الذات وقديمة لكن متعلقها "يعني المراد" يحصل في وقت خاص فكون الارادة عين الذات لا ينافي تعلقها بمراد منفك زمناً عن الارادة فالذات الالهية حسب ما تقدم من الدليل العقلي القاطع قاهرة لا مقهورية ولا مغلوبية فيها. واما اعتبار ان المراد لا ينفك عن الارادة زماناً ووجوداً فمعناه حذف الاختيار عن الذات المقدسة وهو باطل عقلاً وهل يصح ان يكون لنا اختيار ونحن لا نملك من امرنا شيئاً الا ما ملّكنا الله اياه وربنا لا يملك قدرة الاختيار. ! والحاصل فسواء قلنا ان الارادة من صفات الذات ام من صفات الافعال فذلك لا يستلزم صدور الخلائق عنه تعالى بالايجاب لا بالاختيار ولذا ارجع العلماء ارادته تعالى الى صفة العلم وقالوا: "ارادته لأفعال ذاته عبارة عن علمه الموجب لوجود الفعل في وقت دون وقت بسبب اشتماله على مصلحة داعية الى الايجاد في ذلك الوقت دون غيره". هذا الى ان الفاعل بالايجاب لا يسمى مريداً وذلك لأنه مضطر ومقهور على صدور الفعل منه[11].
وفرّق السيد محمد جعفر المروّج الجزائري بين الفاعل بالايجاب فخصه بأسم العلّة وبين الفاعل بالاختيار حيث قال في ضمن كلام له : (لعدم كونه تعالى علة للكائنات بل هو موجد لها بالارادة والاختيار ولا سنخية بين الواجب والممكن حتى يكون وجود الممكن من مراتب وجوده جلّ وعلا)[12].
وقال القاضي الفيلسوف محمد سعيد القمي: (اعلم ان حدوث الارادة والمشيئة من مقررات طريقة أهل البيت ، بل من ضروريات مذهبهم صلوات الله عليهم)[13].
 
الأعيـان الثابتـة:
نفس الإخفاق الفكري دائما يصاحب ابن عربي حيث يقيس الخالق تعالى شأنه بالمخلوق !  فيظن انه حيث إنَّ علم الله تعالى قديم فيكون علمه بالممكنات قديم ايضاً ، ولذلك ذهب الى اعتبار ان هناك اعيان ثابتة هي اعيان الممكنات وانها قديمة ومعدومة في نفس الوقت !! وفاته انه حيث لم يأخذ معرفته عن طريق آل البيت (عليهم السلام) فهو لا يؤمن بأن علم الله تعالى عين ذاته ، والخالق تبارك وتعالى لا يقاس على المخلوق ، فلا يُقال ان علم الله تعالى الذي هو ذاته المقدسة حيث انه قديم فعلمه بالممكنات قديم ايضاً ، حيث لا يجوز ان يكون علمه محدث او متغير لان ذلك من صفات الممكنات لا من صفات القديم. ولذلك ذهب ابن عربي الى القول بوجود اعيان ثابتة هي اعيان الممكنات جميعها وهي اعيان معدومة وازلية في نفس الوقت !! والحق هو ان يتوقف عند العلم الالهي ولا يفكر بعقله البشري القاصر عن كيفية تكوّن العلم الالهي وعدم تغيره بوجود الممكنات ، فهذا شيء لا يمكن ان يدركه عقل ابن عربي ولا غيره من العقول البشرية القاصرة. ولا يُقال عن هذا انه تعطيل عن معرفة الله تبارك وتعالى حيث ان المعرفة البشرية لهذا حدود تقف عندها فيما يخص عظمة الخالق جلَّ وعلا.
فلنلق نظرة على فكرة الاعيان الثابتة وفق تصور ابن عربي ، حيث يشرحها الدكتور محسن جهانگيري فيقول: "يبدو ان ابن عربي اول مفكر اسلامي واضع اصطلاح الاعيان الثابتة"[14] ، وقال: "الاعيان الثابتة في عرفان ابن عربي وأتباعه عبارة عن حقائق وذوات وماهيات الأشياء في علم الحق. او هي بتعبير آخر الصور العلمية للأشياء والتي هي ثابتة في علم الحق منذ أزل الآزال وتبقى ثابتة حتى أبد الآباد"[15]... "ان الاعيان ثابتة في علم الحق بالتجلي الذاتي والفيض الاقدس ، وهي موجودة بوجوده ، إلا انها معدومة في نفس الوقت ، أي غير مجعولة وليس لديها وجود خارج ومستقل عن ذاته ، وتبقى في حالة العدم والاختفاء الى الابد. وأن ما يظهر بالتجلي الشهودي للحق تعالى ويصبح ذا وجود عيني وخارجي بفيضه المقدس ، هي أحكام الأعيان وآثارها وليست الأعيان"[16].
"بل يصل الامر عند العارف حيدر الآملي الى ان يعد العلم المتمثل بالاعيان الثابتة هو ذاته  الخالق. فالاعيان من حيث إنها موجودة في العلم ومعدومة في الخارج فإنها مجعولة من حيث هي هي ، او انه لا يصدق عليها انها مخلوقة في العلم والخارج ، لذلك تكون عبارة عن الخالق بالضرورة ، حيث لا واسطة بين الخالق والمخلوق ، فالخالق واحد ومن ثم فإن الفاعل والقابل واحد لا غير ، وهو ذات هذه الاعيان"[17].
ويرى سيد كمال الحيدري وهو من اعلام الحكمة المتعالية: "ذهب الباحثون المحققون الى ان صفحة الاعيان الى الله سبحانه كصفحة الاذهان الى الانسان"[18].
ويشرح يحيى محمد فرضية الاعيان الثابتة فيقول: "لفظ الاعيان الثابتة هو لفظ عرفاني اريد به معنى الماهية الامكانية قبل ان يفيض عليها الوجود. وهو يصدق على الاشياء الكلية والجزئية ، بينما يطلق الفلاسفة على الكليات عادة مصطلح الماهيات والحقائق، وعلى الجزئيات مصطلح الهويات. ويُقصد بالاعيان الثابتة انها صور الاشياء الكامنة في العالم الالهي ، او انها صور الوجودات الامكانية. لكن اذا كنا قد علمنا ان الماهيات هي اظلال الوجود وان لها خصوصية محاكاته في الشبه، فان الامر في العلاقة بين الاعيان الثابتة والوجودات الممكنة لا يستقيم الا بان يتخذ صورة العكس، حيث يكون الوجود الامكاني تابعاً وظلاً حاكياً لما عليه تلك الاعيان. فهذه الاخيرة تسبق الوجود وتتقدمه رتبة باعتبارها كائنة في محل الجمع الالهي. والاعيان مع هذا السبق والتقدم والاصالة فانها ليست معدودة في لوح الوجود، وعلى حد قول الفلاسفة والعرفاء انها ما شمت رائحة الوجود ولا كانت موضعاً للجعل والتأثير، بخلاف الحال مع نظيرها الوجود. لكن من جانب اخر انها بهيئتها الجمعية تعبر عن ذات الوجود الالهي الذي يمثل صور الاشياء جميعاً ضمن قاعدة (بسيط الحقيقة كل الاشياء). وهنا ان الفارق بين الوجود والماهية يتحدد بحسب اعتبارات الحدود، حيث تتصف الماهية بكونها محدودة، أما الوجود المحض فهو عبارة عن مجموع الماهيات من غير ان يكون محدوداً بحد خاص، مثلما صوره صدر المتألهين. فها نحن امام مشاكلة ومطابقة اخرى بين الوجود والماهية، او الاشياء والاعيان الثابتة. فالمشاكلة والسنخية بين الوجود والماهية على الصعيد المعرفي الانساني ما هي الا نتاج تلك المشاكلة السابقة بين الاعيان الثابتة والاشياء، وبالتالي بين المبدأ الاول والوجودات الفائضة عنه. ورغم ان صدر المتألهين انكر وجود سنخية بين المبدأ الاول والماهيات الكلية ، الا ان اعتبار الماهية شبحاً وصورة للوجود، لا بد ان يحتم وجود نوع من التناسب بينها وبين الاول. نعم انه عند اخذ الوجود بمعناه الفعلي فانه لا مجال للقول بوجود اي شبه ومشاكلة بين الطرفين، لكن اخذ الوجود بمعناه الذاتي يقيم هذه العلاقة، وهو المعنى الذي صرح به ذلك الحكيم في العديد من المرات، واعترف بوجود المشاكلة والمحاكاة بين الوجود والماهية، وبالتالي يتحتم ان يكون بين المبدأ الاول والماهيات نوع من الشبه والمشاكلة مهما بدا ضعيفاً، فمن المقرر وجود هذه المشاكلة بينه وبين الوجودات الفائضة عنه، وانه مع وجود المحاكاة بين هذه الوجودات وماهياتها، فانه لا محالة ان تكون هناك مشاكلة ومحاكاة بين ذلك المبدأ والماهيات المجعولة عرضاً بجعل الوجود. بل نجد في بعض المواضع ان كلام صدر المتألهين يتضمن هذه المسانخة والمحاكاة، كالذي صرح به تعويلاً على اثولوجيا افلوطين، اذ قال: ‹‹ان جميع الماهيات والممكنات مرائي لوجود الحق تعالى، ومجالي لحقيقته المقدسة، لكن المحسوسات لكثرة قشورها لا يمكن فيها حكاية الحق››. ورغم اننا لا نجد اتحاداً نوعياً بين الماهيات المجردة او المفاهيم النوعية الكلية باعتبارها مفاهيم مبهمة، لكن فيما يخص الماهيات الجزئية يلاحظ انها تعكس ما عليه رتب الوجود الخاصة، وبالتالي فان تكثر الماهيات واختلافها انما يأتي من حيث كونها مفاهيم كلية غير مجعولة. وسواء اعتبرنا الماهية المجعولة هي نفس الذات المشخصة أو أنها ظل الوجود وتابعه، ففي كلا الحالتين يقتضي الامر ان تكون هناك وحدة للماهيات يسود بين مراتبها التشابه والتشكيك. الامر الذي يفسر لنا علة مشابهة محض الوجود للوجودات من حيث كونهما وجوداً، في الوقت الذي يشابه الماهيات من حيث كونه جامعاً لكل الأشياء الماهوية، او باعتبار كونه جسماً اشرف من سائر الانواع الجسمية، او انه نور الانوار جميعاً، وهو تعبير اخر عن الكيفية الماهوية وليس الوجود. هكذا حين يكون الوجود أصلاً والماهية فرعاً فانه لا يمنع من وجود سنخ وتشكيك فيما بين الفروع كما هو حاصل مع الاصول. بل اذا كانت الفروع على شاكلة الاصول، وكانت الاصول ذاتها محكومة بمنطق المشاكلة، فان الفروع ستكون هي الاخرى محكومة بهذا المنطق بالعرض والتبعية. وكل ذلك من مقتضيات قانون السنخية. كما بحسب هذا المنطق ان سريان الوجود وتنزلاته يجر معه تنزلات ما يتبعه من الماهيات. فالسريان مختص بالوجود، فهو يسري على الماهيات فيجعلها موجودة، وهو بهذا السريان الذي يحفظ للماهيات مقام التبعية يتنزل فيكون بعضه اضعف من البعض الاخر وفقاً لمقدار البعد عن المبدأ الاول، لكن ذلك يفضي الى ان تكون الماهيات التي يسري عليها الوجود هي الاخرى متنزلة بالتبع، فيكون بعضها اضعف من البعض الاخر وفقاً لما هي عليه من الرتب التابعة للوجود. مع هذا يمكن القول ان الماهيات من حيث كونها اعياناً ثابتة فانها تكون الاصل في نشأة الوجودات الفائضة، فهي لا تتقدم على وجود الممكنات فحسب، وانما ايضاً لها ارتباط سنخي معه. وهنا تنشأ المشكلة، اذ كيف يمكن تصور انها الاصل الذي تعود اليه نشأة الوجودات الممكنة مع انها لا توصف بالوجود؟ وبعبارة اخرى كيف نصف الاعيان الثابتة قبل سريان الوجود عليها، وما سر هذا السريان وعلاقة ذلك بمولد التفكير الوجودي (السنخية)؟ 
(يتبع تكملة كلام الاستاذ يحيى محمد في الحلقة القادمة إنْ شاء الله).
 
 
 
________________________________________
الهوامش:
[1] مسالة في الارادة / الشيخ المفيد (قدس سره) ت413هـ - ص7 و8.
[2] تقريب المعارف / ابو الصلاح تقي بن نجم الحلبي ت 447هـ – ص85 و86.
[3] مناهج اليقين في اصول الدين / العلامة الحلي (رض) - ص257.
[4] المصدر السابق - ص258.
[5] الاسرار الخفية في العلوم العقلية / العلامة الحلي (رض) - ص561.
[6] الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد / المقداد بن عبد الله السيوري ت 826هـ - ص66 و67.
[7] الباب الحادي عشر للعلامة الحلي مع شرحيه النافع يوم الحشر لمقداد بن عبد الله السيوري ومفتاح الباب لأبي الفتح بن مخدوم الحسيني – ص14 و15.
[8] بحوث عقائدية في ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، نصوص مختارة من مؤلفات السيد ابو القاسم الخوئي (قدس سره) / اعداد الشيخ ابراهيم الخزرجي – ص323 و324. نقلاً عن مصباح الاصول ج1 / القسم 1: 282-283.
[9]  مواهب الرحمن في تفسير القرآن / السيد عبد الاعلى السبزواري (رض) / منشورات دار التفسير في قم المقدسة / الطبعة الخامسة ، - ج1 ص276.
[10] معالم العقيدة / الشيخ حيدر الوكيل - ص24.
[11] الرؤية الفلسفية / الشيخ ماجد الكاظمي - ص156 و157.
[12] منتهى الدراية في شرح الكفاية / السيد محمد جعفر الجزائري المروج – ج7 ص291.
[13] شرح المشاعر / الشيخ احمد الاحسائي – ج1 كلمة التحقيق ص9 نقلاً عن شرح العرشية.
[14] محي الدين بن عربي / الدكتور محسن جهانگيري – ص383.
[15] المصدر السابق.
[16] المصدر السابق – ص392.
[17] الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية / يحيى محمد – ص99.
[18] التوحيد / جواد علي كسار / تقريرات ابحاث سيد كمال الحيدري – ج1 ص268.
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/11/05



كتابة تعليق لموضوع : من الاخطاء العقائدية عند مدرسة الحكمة المتعالية ... ( 9 )
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net