صفحة الكاتب : خالد الصلعي

الوثبة المعرفية
خالد الصلعي

حين سأل \"جاستون باشلار\"نفسه :\"هل التخلي عن بعض العادات الثقافية ،أمر سهل؟؟\".أجاب :ان ذلك بالنسبة للعقلاني ،مجرد أزمة يومية صغيرة،نوع من الانفصال في التفكير \".وهولا يقف عند هذا الحد ،بل يضيف ،وهذا هو الأخطر:ورغم أن هذا الانفصال جزئي ،-مجرد صورة -فإن له رغم هذا نتائج نفسية خطيرة\".
حين نداعب كتابه \"جمالية المكان\"،ترجمة الكاتب الأردني الراحل \"غالب هلسا\"،وفي خضم الانشغال بكونية الحقل الابستمولوجي العربي،وقلة تنوعه ،وضحالة انتاجيته المعرفية، والكمية .اذ يلاحظ أي ماسح لمجمل المطبوعات العربية،أنها تكاد تكون نسخا ومسخا وتكرارا ،لما ألف منذ خمسين سنة مضت .الافي شذرات قليلة ،لاتسعف في بناء مجال ابستمولوجي نؤسس عليه صرح حضارتنا.والحضارة هي منتوج فكري قبل أي شيئ ،بشهادة المشتغلين في علوم الحضارة.فاذا كان مجال الابستمولوجيا هو حقل العلم بأصول العلم والمعرفة ،كما يوضح ذلك الباحث والناقد \"علي حرب\"،فان منهج البحث في أصول المعرفة ،لم يبدأ بعد في عالمنا العربي .
ونحن هنا لسنا سباقين الى الدعوة الى بناء أو فتح أبواب البحث في أصول المعرفة .بل هي دعوة سبقنا بالتأكيد اليها غيرنا .ورغم كونها دعوة لها قيمتها المعرفية والحضارية والوجودية؛الا أنها لم تجد بعد من يتمثلها ويسندها ويعلن لها .وأنا اذا كنت أعلن اليوم بصراحة دعوتي اليها ،فلأني وجدت نفسي منخرطا منذ البداية في الكتابة عنها ،دون أن أدرك او أهتم بما كنت أدعو اليه .الى أن توضحت الرؤية بعد قراءات متعددة .فوجدت ذاتي في نفسها استعدادا ،بل شذرات في ذهني لهذا الاتجاه .
وعندما صادفني سؤال \"باشلار\"،فقد عمل على تنبيهي الى هواجسي المعرفية ،ورؤياي الثقافية.فلا مشاحة ،اذا قلت كما يقول الكثيرون مثلي من جيلي ومن هم بعد جيلي،أن ما قرأناه ،وما يكتبه -كبار-مثقفينا لا يجد استجابة معرفية لدينا.لأن كتاباتهم قاصرة عن السير بموازاة التحولات المعرفية والعلمية والاقتصادية والسياسية في العالم.وهذا عائد بالضبط الى هذه النقطة التي اثارها \"باشلار\"،ألا وهي\" التخلي عن بعض العادات الثقافية\" ،ولا يهم نسبية وقيمة هذا التخلي،هل هو سهل أم صعب؟ينتمي الى عالم الامكان أم الى عالم الاستحالة؟. وباشلار ،اذ ينطلق من ذاته يسائلها ،ويخلخل عاداتها ،موظفا آلية نفسية وذهنية انتقادية ورقابية ،فهو يعلن بطريقةالماحية الى القدرات الانسانية الهائلة التي يتوفر عليها الانسان .فهو اذ ينطلق من ذاته ،فانما ليوخزنا ليس الا ؛خاصة ونحن نعلم ان العالم الرزين ،والباحث في جماليات الظواهر الانسانية بعمق وتفرد ،انما يكتفي بالاشارات ،وليس بكثرة الشروحات والاستطرادات .فهو لو كان منافقا ،لسهل عليه القول اكتشافه للأمر بعد قراءات مضنية ،وجهد كشفي هائل،وسبر موغل في أغوار التجارب الكبرى لكبار الكتاب والمبدعين والفلاسفة.ولكنه بتواضع الكبار نقل الينا بأمانة تجربته الذاتية في مقاربة اشتغالاته المعرفية\"ان ذلك بالنسبة للعقلاني مجرد أزمة\"باعتباره كان قبل انخراطه في الدراسات الظاهراتية ،ذات الميل الأدبي ،يشتغل بحقل\"فلسفة العلوم\".
ان هذا الوعي الذاتي بالانتقال من ميدان معرفي الى آخر هو ما كنت نبهت اليه في أكثر من دراسة سابقة .وصرخت في وجه كتابنا الذين لا يمدوننا بتجاربهم الحميمية ،مع شيئ يفترض أنه أخص خصائصهم الوجودية ،وهو الكتابة،الا قلة قليلة ،مثل صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي،ونزار قباني...الا أنها لاتعدو انطباعات سطحية،ومحاولات محتشمة للحديث عن الذات..ربما كان ذلك عائد الى طبيعة ثقافتنا المحافظة التي ترى في تخطيط التجربة الذاتية بكل اخفاقاتها ونجاحاتها واصطداماتها ...جزءا من فضح الذات وتعرية عورتها..واني أذهب أبعد من ذلك لأقول ،لأنهم لاينخرطون في فعل الكتابة ،وجدانيا وعقلانيا وروحيا،بل هم عبارة عن نقلة ،أو تعبيريين،أو لنقل بشكل اوضح انهم مجموعة من الناسخين والكلاميين .فليس للناسخ أن يتفاعل مع ما ينسخ، كما ليس للمتكلم أن يتبلور مع مجرد كلام عابر .انما المتفاعل ،هو المبدع،في أي حقل معرفي كان .لأنه هو من يتعامل مع اللغة بحذر ووعي واحساس ،ويفكر ألف تفكير قبل ان يجيز للعبارة او للرؤية او للمفردة حق العبور الى الجمهور .كما أود ان أنوه الى أن هناك من المبدعين من تعثر داخل تضاعيف تجربتهم الكتابية على تجربتهم الذاتية الحياتية،وان لم يخصص كتابا لشرح علاقته بحقل الكتابة.
واذا عدنا الى صلب موضوعنا ،فنحن نفتقر في العالم العربي ،الى كتاب ومبدعين ،يدهشوننا بتحولاتهم المعرفية ،أو بانفصالهم الجزئي بتعبير \"باشلار\" عن العادات الثقافية المتوارثة ،أو الوافدة. وربما كان ذلك بسبب المفهوم الذي نصدر عنه في علاقتنا بالمعرفة. وهو مفهوم لايخرج عن البعد العقدي والايديولوجي المنغلق .ورغم ان مثقفينا يعلمون حق المعرفة،أن كبار الفلاسفة والكتاب تحولوا خلال مراحل سيرهم الكتابية ،ونقضوا مسلماتهم القديمة ،كما هو شأن \"ماركس\" و\"ألتوسير\" وبودلير و\"غرامشي\" وجاك ديريدا...وغيرهم كثير .فانتقالهم الذي هو تطوير لرؤيتهم الأولى واخصاب لها،وتنويع عليها ،انما جاء بفعل هذه الوثبة النفسية الصغيرة،فهي لاتعدو ان تكون وعيا محايثا لفعل التفكير والصياغة ومن ثم الابداع .فأي ابداع انما هو وعي مشحون بعديد من الفعاليات الذهنية والنفسية والروحية والعصبية ،في تفاعلاتها بالوجود وتعيناته. ولعل الوعي بهذه الحقيقة هو الكفيل بمساعدتنا على احداث ذلك الشرخ أو الانفصال أو الوثبة ،لأننا ندخل الى المخبر الداخلي لذواتنا ،وكلما دخلنا اليه ،كان سهل علينا الانتقال من حقل معرفي او فني الى آخر ،دونما اضطراب أو قطيعة.قد يحدث توتر نفسي وذهني .لكنه سرعان ما يذوب بفضل كمية الوعي الذي نجهز به ذواتنا لخوض تجربة االدخول الى مخابرنا الذاتية .فتتحقق حالة الاخصاب والتنويع.
اننا بازاء ذات انسانية ،أي بازاء كون لازالت لم تكتشف آلياته وعناصره.ولسنا بازاء ذات جامدة أو لاواعية محصورة في شيئيتها وفي عمائها ،بالمفهوم الدارج وليس بالمفهوم الفلسفي عند ابن عربي.ولهذا كانت الرؤية الى الذات الانسانية الواعية المبدعة والمتفاعلة مع نفسها،رؤية دقيقة الى حد ما.ومحفوفة بالمخاطر،لأن المتحول والمتغير،دائما صعب على الامساك أو التتبع والمسايرة،بله الاستباق والاستكناه؛فالمتحول ،بطبيعته زئبقي،عصي على الملاحظة ،الا بعنت وجهد جهيد.أما الثابت فحدث ولا حرج.أي سهل للمراقبة والتحليل والشرح ،والاستفاضة.من هنا هذا الركام الغث من الكتابات التي لم ترق بأي وطن قطري عربي ،أو بأي جماعة الى مستوى الابداع والريادة.اللهم جماعة السلطة التي تعتمد الارهاب المادي والمعنوي للاستفراد بخيرات وامتيازات الانسان والأرض .فالكتابات العربية رغم الخسوف الكلي لكل الايديولوجيات الحديثة ،واقعا وفكرا ،ظلت نفس الأفكار والطروحات ،شأنها في ذلك شأن السلفيين الذين يغطون شمس العصر والواقع بغربال التراث الذي ينحازون اليه دون قراءته القراءة العلمية او النقدية .فكلا الايديولوجيتين هما انعكاس لبعضهما البعض في منهجية الاجترار.
وها نحن نلاحظ في الآونة الأخيرة ظهور مصطلح آخر ،مستورد مرة اخرى ،دون تطعيم أو اضافة محلية،هو مصطلح العلمانية.أي علينا أن نجر خمسين سنة أخرى دعوات الغرب وأفكاره .لنتبين خطلها وفجاجتها .وهذا ما يأباه السلوك السوي .علينا اذن ابتكار مفاهيمنا الذاتية المرتبطة بواقعنا .نعم وليس ذلك بعزيز أو مستحيل ،فنحن أمة بطبيعة لغتها اشتقاقية وتوليدية ،فلم الاجترار والنسخ؟.وذاتنا العربية لها من الخصوصية في ظل الكونية ما يمنحها حق الانتاج والابتكار.دونما دعوة الى قوقعة ما أو انحباس ما،بل انبجاس وتفتح. انطلاقا من الثروة المعرفية الانسانية التي نعتبر جزءا منها ،حاضرا وتاريخا.وهذا لن يتأتى الا بتغيير رؤيتنا في تناول القضايا والأحداث التي تطرأ علينا ،سواء على المستوى الفردي أو الجمعي.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


خالد الصلعي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/08/20



كتابة تعليق لموضوع : الوثبة المعرفية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net