كلماتنا ..
أسيرة الوجع ...
كما الروح حرمها الطين الحرية
ومضة أراد (جليل النوري) أن يجعلها معزوفة للوحة غلاف إصداره الأول (حنين المواجع) ، لكي تتناغم مع صورة تمثال (الطين) الذي يرتسم على الغلاف ، ليعزز من فكرة (احتباس) الروح في (سجن البدن) .
في مقدمته ، يقدم لنا (النوري) إعتذاراً مغلفاً بالشكوى ، عن مواجعه التي يبثها لنا على شكل ومضات ، تشاكس مجرى مياهنا بمكاشفات موجعة حقاً ، وتنم عن تجربة حياة خاضها ويخوضها إنسان يحاول أن يعزف سيمفونية العشق في زمن الخراب ، ويسعى لأن يشعل شمعة في ليل العواصف .
يتنقل (النوري) بين متناقضات الوجود ، وهيمنة المواجع ، كاظماً على جراحه التي يحسبها أحياناً أنها (تحت السيطرة) ، ولا يرى خيط الدماء التي تسيل من بين أصابعه بين (الجملة والجملة) ، لتكشف لنا عن فيض من الآهات التي لا تحتاج إلى مفرط من الذكاء لسماعها ، من بين الطبول في زمن الصخب .
الخوف المبطن بالشكوى ، الهروب من المجهول إلى واقع ضبابي ، الانكسار أمام معول السنين الذي لا يبقي ولا يذر ، محاولة البقاء لإكمال مهمة لا تريد الانتهاء ولن تنتهي أبداً :-
حطاب الزمن ..
يمسك بفأسه ...
يقطع أغصان أعمارنا ...
كلما تيبس جزء منها ..
* * * * *
فتراه يبث شكواه خائفاً من طيش الزمن الذي يبدو كالطفل ، يعبث بأعمارنا التي لا تريد الاحتجاج على فأسه في مواسم الخريف ، ولا تستطيع أن تستجدي منه (استراحة) ريثما يعود الربيع ، ولا تقدر أن توصل له فكرة أن ثمة أغصان يابسه ستورق حين يدغدها الربيع ، فلا حاجة للفأس معها .
(الصمت) (المواجع) (الصخب) (السكون) (العشق) (الأحزان) ( الحنين) ، ونواقيس أخرى تعج بها صفحات (حنين المواجع) ، يراها الجالس على أريكة مقهى (الـلامبالاة) كأنها جوقة موسيقى لحفلة عرس عابر ، بيد أن من يجلس القرفصاء في ليل (الحنين) ، ويلتحف جسده بدبابيس (المواجع) ، سيعرف تماماً إنه في حضرة (حنين المواجع) .
النوري ، في ومضاته الساحرة ، يزف عروس (الحنين) إلى حضن (المواجع) ، لتنتج للقارئ صبياً بلون (الومضة) ، عراقي السحنة ، عربي اللكنة ، جنوبي اللهجة ، إنساني الشعور ، بدائي الطيبة ، ديني الانزياح ، علماني اللثغة ، فيلسوف التساؤل ، جرئ الإجابة ، عرفاني النزعة ، يبحث عن نقطة البداية على سطح كرة عملاقة ، تمتد من مشرق الانسانية ، حتى غروب المنظومة القيمية .
(النوري) ، لم يأت (متأخراً) بمحض إرادته ، ولم يمتنع عن ركوب (سفينة) الأنبياء قبل ولادته ، ولكنه محكوم بالصيرورة التي أثبتتها قدرة وحكمة اللاهوت في عالم الامكان ، وسجلتها أقلام المقادير في لوح الوجود ، فجاء على حين فترة من انقطاع الوحي ، وغياب الأنبياء ،وعودة الأصنام ، فبات منكسراً مقيداً أمام ثبوت (الخاتمية) ، مؤمناً بنهاية وحي السماء ، ولكنه كان مؤمناً بأنه معنيٌّ بأن ينشر (دعوته) المثقلة بمسامير (الصلبان) ، وكأنه هو الذي (جاء من أقصى المدينة يسعى) .
فحمل قيثارته على كتفه ، وبدأ (يكرز) في برية الكلمات ، ممارساً دور (نبي) خائف (يترقب) ، يحاول صنع سفينة تتسع لمن لا يعلمون بأن (الطوفان) على الأبواب .
عاشق أحياناً ، صوفي أحياناً ، واقعي حد الرسوخ أحياناً ، خيالي حد الثمالة أحياناً ، يغرد بصوت غريب ، ولكنه يحاول بين الفينة والفينة أن يجعل من تغريداته مطابقة للسلم الموسيقي الذي اعتادته أذن المتلقين الجالسين قبالة مسرح الدمى ، الذي يكاد أن ينتهش كل القصص الجميلة التي كنا نحلم أن نراها على مسرح الحياة .
(النوري) ابن بيئته التي يفترض بأنها (ولاّدة) لعناصر الأنبياء الأربعة ، ولكنها خلطت التراب بالماء ، لتنتج (طيناً) لا يتشكل (كهيئة الطير) ، ولا تنفخ فيه الروح ، وخلطت الهواء بالنار ، لتنتج سموماً تمتص أخضرار السنابل بالحقول ، وتحيلها إلى (هشيم تذروه الرياح) ، فكان منه أن يحاول إعادة ترتيب العناصر الأربعة في سلم الولادة ، عبر كلماته التي مخضتها تجارب (صانع حريف) ، وشاعر موجوع .
يتملص بحرفية عن محاكم التفتيش ، ومطرقة القضاة ، وتساؤلات المتربصين ، مغطياً ومضاته بمادة (لزجة) كي تلتصق بالذاكرة ، وملبساً إياها مادة زيتية القوام تمنحها القدرة على الانزلاق من بين أصابع المتربصين ، فيثير في القرئ التساؤل ، أتراه ينادي حبيبته ؟ لا بل ينادي الإله ، لا لا .. إنه ينادي شخصاً يختفي خلف الكواليس .
ويترنح القارئ بين الومضات (النبيـّة الكلمات) ، ليجد نفسه أمام (عارف) ذائب في عالم (اللاهوت) ، يجلس على قبر (الحلاج) ليوقظ فيه مأساته من جديد :-
أحتاج نافذةً ...
أتنفس من خلالها أنوار ضياءك
فجبروت الظلام ...
أحرق أخضر روحي ... ويابسه
* * * * *
بيد أنه يخفي (المنادى) الحقيقي خلف ومضة (سابقة) ، ليمنح القارئ فرصة الانزياح نحو (معشوق) ناسوتي ، يمارس دوره البشري كالأخرين :-
عجباً لك !!
جمعت في قلبي النقيضين
نار حبك ...
و (لا مبالاتك)
* * * * *
وحين يشعر إنك توشك أن تمسك بخيط سنارته ، يسوقك إلى (طُعم) جديد ، يذهب بك بعيداً عن (الفنطازيا) ، ليهوي بك من العلالي إلى أرض الواقع ، دافعاً بك إلى محرقة الصخب من جديد :-
في قلبي ..
ألف حكاية من ليالي شهرزاد
فابعدوا الديك ...كي لا تفزز صوائحه
سواكن الروح
* * * * *
النوري ، في حنين مواجعه ، يضع القارئ بين (عدو) أمامه ، و (سفن) محترقة من وراءه ، فلا يدع له غير خيار واحد ، هو الانتصار على (الألـم) ، ومضاجعة الانتصار ، على فراش من ذكريات الطفولة ، وغطاء من مواجع البلوغ :-
جحافل الهـم ..
استعمرتنا ....
ونشرت في مدننــا ..
جنوداً من وجع ..
* * * * *
(النوري) يحاول العودة إلى الماضي ، حين لا (وجع) ، وحين لا مناص من الركض تحت حبات المطر التي كانت تغسل أرواحنا تحت السحاب ، في مدن التراب .
ولذا ، تجده يستفز القارئ كي يعود به إلى زمن (الغميضة) التي كنا لا ندري بأننا نخدع بها طفولتنا النقية البسيطة ، والتي مازال النوري (يلعبها) مع القارئ ، بكل محبة و (شكوى) ، مبتعداً معه عن (صخب) الواقع ، ومقترباً به من عالم (الهدوء) ، وحاملاً إياه - في الأعم الأغلب من ومضاته - على جناح الحيرة ، بين عوالم (الناسوت) و (الملكوت) ، مغازلاً بشكل مبطن خفايا (عالم اللاهوت) ، في أغنيات تبدو أحياناً (بسطامية) النكهة ، ولكنها تبقى ....... (نورية) الحذر .
![]() قارورة من شجن عتيق… قراءة في مقطوعة (جيران… ) لحازم التميمي |
الموضوع التالي
![]() كتابات خالدات : الأيـــــــام |
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat